إن حسن الصورة المادية لا يتم إلا بحسن جميع أجزائها وأركانها، فكذلك حسن الصورة الروحية النفسية لا يتم إلا بحسن الخلق وكمال الإيمان، وذلك لا يتم إلا بصلاح القوى الآتية:
1- قوة العقل: وبها يُدرك المرء الفرق بين الإيمان والكفر، والحق والباطل، والحسن والقبيح، والصدق والكذب، فما اكتسب مكتسب مثل فضل عقل وعلم يهدي صاحبه إلى هدى أو يردّه على ردى، وما استقام دينه حتى يتوفر علمه ويتم عقله.
2- قوة الغضب: بحيث يضبط المرء قواه وعواطفه فلا يقوده الغضب لأذى أو لما لا يليق، ولا يغضب إلا لله تعالى، فقد كان الرسول ﷺ لا ينتقم لنفسه ولا يغضب إلا إذا انتهكت حرمات الله.
3- قوة الشهوة: بحيث يملك المرء نفسه ويضبط غرائزه وميوله وشهواته، فلا يفعل معصية ولا يقرب حراماً لا يرتكب سوءاً ولا يقرب شبهة ولا يُسيء إلى أحد لا في القول ولا في العمل، وقد قال ﷺ: «مَنْ يضمن لي ما بين فَكَّيْه وما بين فخذيه أضمن له الجنة»(صحيح البخاري). والضابط لما مر من القوى:
4- صلاح قوة العدل والاعتدال: والخير في كل شيء دائماً هو التوسط في الأمور، وهو فضيلة بين رذيلتين وحسنة بين سيئتين، فلا إفراط ولا تفريط، وهي الحكمة التي تندرج تحت قوله تعالى:
(وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة: 269]
فإذا اعتدلت قوة العقل، أنتجت تدبيراً حسناً، ورأياً سديداً، وذهناً متقداً، وظناً صائباً، وإدراكاً واعياً لحقائق الأمور، وآفات النفوس.
أما الإفراط في قوة العقل فطريق إلى الخداع والدهاء والمكر.
وأما التفريط فيها فطريق إلى البَله والبَلادة والحمق، والحماقة أعيتْ من يداويها، وإذا اعتدلت قوة الغضب أنتجت شجاعة في الحق، وكرماً في اليد، ونجدة وإغاثة للملهوف، وكظماً للغيظ، وتحلياً بالوقار والأناة والحلم.
وأما الإفراط فيها فطريقٌ إلى التكبر والعجب والتهور، وقد يؤدي إلى الجريمة التي تلزم صاحبها الخسارة والندامة، ولاتَ حين مناص.
وأما التفريط فيها فطريق إلى الجبن والخساسة، وانعدام الغيرة على الدين والعرض، وضعف الحميَّة، ولله در من قال:
ليس الشجاعُ الذي يَحمِي فريستَه عند القتال ونار الحرب تشتعلُ
لكنّ مَنْ كفَّ طَرْفاً أو ثنى قدماً عن الحرام فذاكَ الفارسُ البطلُ
وإذا اعتدلت قوة الشهوة أنتجت عفة وحياء وورعاً وسماحة وصبراً، وقناعة بالحلال، وبعداً عن كل معصية وحرام. أما الإفراط فيها فطريق إلى الفسق والمجون والشره، والحرص والطمع، والحسد والجريمة بعد حقد وحسد. والإسراف في المباح والتبذير في تبديد المال في وجوه الحرام. وأما التفريط فيها فيؤدي إلى المذلة والمهانة والعزلة واليأس والجمود.
فالعدل والاعتدال في كل شيء قوة، إذ هو الفيصل والضابط لإيجاد التوازن والسلامة والسعادة والرعاية والتوفيق.
سئل أعرابي: كيف تعيش؟ قال: أعيشُ حسنة بين سيئتين، أي: أعيش حياة الوسط والتوسط فلا بخل ولا إسراف، وتلا قوله تعالى في مدح عباد الرحمن:
(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) [الفرقان: 67]
وروي: «ما عالَ مَنِ اقتصدَ» أي: ما افتقر من توسَّط في النفقة.
والجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، ومصالح الدِّين والدنيا، عدل واعتدال ودليل قوة العقل.
(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ) [القصص: 77]
ولا تعارض ولا تضاد ولا عداوة بين الدين والدنيا، فالدنيا موضوع من موضوعات الدين، نظمَها وبيَّن حلالها وحرامها، ودعا إلى التعايش فيها في حدود الحق، وحذر من الافتتان بزينتها، مما تشغل عن الله والحق والواجبات.
والدنيا مزرعة الآخرة، فمن أحسن الزرع والجهد في الدنيا طاب له الغراس والحصاد والقطاف في الآخرة:
لا دارَ للمرء بعد الموت يسكنُها إلا التي كان قبلَ الموت يَبْنِيهَا
فإن بَنَاها بخيرٍ طابَ مسكنُه وإِن بَنَاهَا بشرٍّ خابَ بَانِيْهَا
والواقع أن أكثر علل المسلمين وبلائهم صادر عن تركهم الوسطية والاعتدال في شتى شؤون حياتهم، وميلهم فيها إلى الإفراط أو التفريط، ولله درُّ من قال:
اعتَدلْ في كلِّ حَال واجتنبْ غمَّاً وذمَّا
لا تكنْ حلواً فتؤكلْ لا ولا مُرَّاً فتُرمى
وكم يألم المسلم الغيور حين يرى الشباب والشابات يُعنون بحسن الصورة فحسب، وبعوامل الفتنة والإغراء، وهي معاول هدم لكل بناء، ومنه لكلِّ عطاء، وإفساد لكل هناء.
فما أجدرهم أن يضيفوا إلى اهتمامهم بالمظهر اهتماماً بصفاء ونقاء المخبر، وإلى عنايتهم بحسن الصورة عنايتهم بحسن السيرة؛ ليكونوا قدوة صالحة وأسوة حسنة لغيرهم، يُحسب حسابهم ويُرهب جانبهم، ويُسمع كلامهم، ويُقتدى بهم، فحسن السيرة سبيل أكيد إلى الصلاح فالفلاح والنجاح.
فانهضْ إلى النفس واستكملْ فضائِلَها فأنتَ بالرُّوح قبل الجسم إنسانُ
ولعلَّ خيرَ ما أختم به قوله ﷺ: (اتق اللهَ حيثما كنتَ، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُهَا وخالقِ النَّاسَ بخلقٍ حسن).
أَلْهَمَنا اللهُ تعالى وجميعَ الناس السداد والرشاد.