بخلاف ما يظن البعض، فإن لشهر رمضان الكريم، ولمواسم الطاعات والعبادات عامة، حظًّا من الفكر مثلما لها حظ من القلب ومن سائر الجوارح؛ مما ينبغي أن نهتم به، وننشغل في تحصيله؛ حتى نستفيد من هذه العبادات على النحو المرجو منها
فالعبادات إنما تخاطب الإنسان، وترتقي به، وتهذّب من طباعه وسلوكياته، وبالتالي فهي تتوجه لكيان الإنسان كله: قلبًا وروحًا وعقلاً وفكرًا وجوارحَ وسلوكيات؛ إذ لا يجوز أن يكون المرء طائعًا لله تعالى على نحو، ومفارقًا لأوامره على نحو آخر؛ سواء أكان ذلك في طبيعة الإنسان وما ينتج عنها، أو في الزمان وما يكون فيه.
فنحن مطالَبون بأن نكون عبادًا لله تعالى، نُخلص له الدين ونستقيم على أمره في كل أمورنا: عاطفةً وفكرًا وسلوكًا، وفي كل أحوالنا: رضًا وسخطًا، غنًى وفقرًا، شبابًا وشيوخًا، وكذلك في كل أزماننا: في رمضان وفي غير رمضان. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام: 162). وقال جلّ شأنه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة: 5).

وحظُّ الفكر من شهر رمضان إنما يكون بأن نتدبر خصائص هذا الشهر الفضيل، ونستجلي ما فيه من أحداث وفرائض، وفي المقدمة منها تَنزُّل القرآن الكريم وفريضة الصيام؛ بحيث ندرك مقاصد ذلك وغاياته وهداياته، ونحاول باستمرار أن نراجع فهمنا لتلك الأمور، ومن ثم التزامنا بها في السلوك العملي..
رمضان .. شهر التجدد
إن شهر رمضان الكريم هو شهر التجدد والتزود، وهو شهر إعادة بناء ما تهدَّم من الإنسان خلال العام، مما هو طبيعي أن يحدث؛ فمعركة الإنسان مع نفسه ومع الشيطان ومع المثبطات والمغريات لا تنتهي!! {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 135).
يأتي شهر رمضان ليكون فرصة لهذا التجدد والتزود؛ فالنفوس فيه مقبلة على ربها، منقادة إلى أوامره بيسر وسهولة. ولهذا ما إن يدخل الشهر الكريم حتى تجد النفسَ قد أقبلت على القرآن الكريم وعلى فريضة الصيام وعلى سائر الطاعات، بما لم يكن منها خلال العام. والعجيب حقًّا، أننا نستطيع أن نواصل الصيام ثلاثين يومًا متتابعة، بينما يكون صيام يوم واحد في غير رمضان أمرًا يجاهِد المرءُ عليه نفسَه!! إنها بركة الشهر الكريم ونفحات رمضان.
رمضان .. شهر الميلاد
وفيما يتصل بجانب الفكر من شهر رمضان المعظم، فإننا نحتاج أيضًا إلى أن نجدد رؤيتنا لهذا الشهر الفضيل، وندرك أنه شهر ميلاد الأمة؛ فيه كان الوحي على النبي ﷺ، فكان إيذانًا ببدء عالم جديد، وبميلاد أمةٍ ترث النبوة وتحمل الأمانة وتستأنف مسيرة الهدى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185).

وكما أن الأمة وُلدت في رمضان فينبغي لنا نحن أيضًا أن نولد في رمضان: نُولد فيه روحًا وتزكيةً، وفكرًا واستقامةً، وسلوكًا وعطاءً؛ فلا يكون رمضان لنا كسائر الشهور!! قال جابر بن عبد الله: إذَا صُمْت فَلْيَصُمْ سَمْعُك وَبَصَرُك وَلِسَانُك عَنْ الْكَذِبِ وَالْمَآثِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْك وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِك، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِك وَيَوْمَ صِيَامِك سَوَاءً (مصنف ابن أبي شيبة).
إن الأمة مضت عليها عهود كانت فيها كأنما أصيبت بالموات، وتراجعت مكانتها حتى حسب البعض أن لا قومة لها مرة أخرى!! فينبغي العمل على استيلاد الأمة من رحم التراجع ثانيةً، حتى تَخرج للنور، وتندمج في التاريخ، وتقوم بأعباء الأمانة والاستخلاف: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج: 41).
رمضان .. شهر القرآن
ونحتاج كذلك في شهر رمضان الكريم أن نعيد علاقتنا بالقرآن الكريم؛ لنراه نصًّا مفتوحًا على الزمان والمكان، ونحاول أن نستنطق آياته، ونستضيء بهداياته، ونتجاوز بحالنا معه مجردَ ترديد حروفه وكلماته..!!
في “رمضان الأول” وُلدنا مع القرآن، وفي كل رمضان ينبغي أن نجدد هذا الميلاد؛ فإن القرآن الكريم كتاب لا يبلى على مر الزمان، ولا تحيط به العقول، ولا يستنفد الفكر هدايته؛ وإنما هو كتاب متجدد تطلع شمسُه باستمرار لتنير جوانب الحياة والأحياء: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص: 29). ولعل التعبير عن “التدبر” و”التذكر” في الآية الكريم بالفعل المضارع، ما يفيد استمرار التدبر، وبالتالي تَجدُّد ما يترتب عليه من ثمرات وفوائد.
ومع الحرص على الإكثار من تلاوة القرآن في رمضان، ينبغي ألا يفوتنا واجب التدبر، ومحاولة المعايشة وفَهم ما يحيط بالآيات من أجواء النزول، ومناسبات التشريع، ومقاصد الهدايات، ومعاني المفردات، إلى غير ذلك مما هو مُعين على التدبر، وحافز على المعايشة وعلى حسن التلقِّي.
الصيام .. ليس مجرد الامتناع
ونصيب الفكر في رمضان يجعلنا أيضًا نفهم حقيقة الصيام، وندرك أنه ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، وإنما هو ضبط لشهوات الإنسان عامة، وتهذيب لأقواله وأفعاله، وفرصة لإكسابه القدرة على الإرادة الحرة، والهمة المستعلية على الحاجات المادية.

وهذا الامتناع ليس تقليلاً من شأن ما أحل الله تعالى، مما يمثل ضرورة ملحة للإنسان كي يحيا ويمشي في مناكب الأرض، وإنما هو درس بليغ في تأكيد أن هذه الحاجات إنما هي وسيلة لا غاية، وطريق لا محطة وصول. فمن فعلها مستحضرًا النية، ومستوعبًا المقصد منها، كان له الأجر؛ أما من وقف عندها، وانشغل بمفرداتها التي لا تنتهي، وتاه في تحصيل لذاتها، فإنه يكون قد حصر نفسه في نطاق ضيق زائل، وغفل عن حقيقة ما جُعلت له هذه الماديات!! هذا فضلاً عمن يحصّلها من حرام فإنه يكون حينئذ قد وقع في المحظور!!
رمضان .. موصول بما بعده
إن محطات الفكر التي نتعلمها من شهر رمضان الكريم كثيرة ومهمة، وكفيلة بأن تسهم في تصحيح رؤيتنا عن الشهر الفضيل، وبالتالي تصحيح سلوكنا فيه، وترشيد حالنا من بعده.. فإن رمضان ليس شهرًا منبتّ الصّلة؛ بل هو موصول بما بعده، ومدرسة للتربية ممتدة، ومعتكف لتخريج المتقين لسائر العام..