هل يمكن للمناظرة الإسلامية أن تلتقي مع مناهج التفكير النقدي الحديثة؟ بين أعماق التراث الإسلامي وتيارات الفكر المعاصر، برزت رؤية جريئة قدمها البروفيسور حمّو النقاري خلال “المؤتمر الدولي الثاني للمناظرة والحوار”، تُعيد رسم ملامح المنطق الحواري بمنظور تكاملي شامل.

هذه الرؤية تقترح تداخلا خصبا بين آداب البحث والمناظرة الإسلامية من جهة، والنظريات الغربية الحديثة كالحجاج والمنطق اللاصوري من جهة أخرى، لتنتج منطقا حواريا عقلانيا جديدا يتجاوز الحدود الثقافية ويؤسس لحوار أكثر إقناعا وفاعلية.

ما يجعل هذا الطرح مثيرا للاهتمام هو استناده إلى منهجية واضحة تمزج بين أصالة الفكر الإسلامي وديناميكية النظريات الحديثة، في وقت أصبح فيه الحوار ضرورة ملحة لتعزيز التفكير النقدي، وبناء مجتمعات قادرة على التعامل مع الاختلاف. النقاشات التي شهدها المؤتمر لم تتوقف عند التنظير، بل امتدت لتشمل الذكاء الاصطناعي، والتعليم، والقيم الأخلاقية، لتفتح آفاقا جديدة للحوار البناء في عالم متسارع التغير.

في ختام “المؤتمر الدولي الثاني للمناظرة والحوار” حَفِل المؤتمر بحوارات عميقة ضمن جلساته الرئيسية والمتوازية، تناولت قضايا فكرية ومجتمعية من منظورات متعددة. برزت منها جلسة نشطها البروفيسور حمّو النقاري، أستاذ الفلسفة والمنطق في المغرب، تحت عنوان “المنطق المناظراتي.

كما برزت جلسة “الدورية المحكمة- المنطق غير الصوري” التي عرضت أوراقا علمية منتقاة مصحوبة بتعقيبات متخصصة، وجلسة “الحجاج: رؤى عربية وإسلامية” التي استعرضت الإرث العربي في هذا المجال، وجلسة “أثر المناظرة على تعزيز الفكر النقدي وتعلم اللغة” التي سلطت الضوء على البعد التربوي للمناظرة، وجلسة “الحجاج الإسلامي: أعلام ومناهج” التي استعرضت رواد المناظرة في التراث الإسلامي، إضافة إلى ورشة شبابية متميزة حملت عنوان “الحوار وأصوات الشباب.

دمج الإرث الإسلامي مع النظريات الحديثة

قدم البروفيسور حمّو النقاري الكلمة الرئيسية في اليوم الثاني والأخير من المؤتمر تحت عنوان “المنطق المناظراتي”، حيث استعرض التراث الثري للمناظرة وضوابطها في الفكر الإسلامي العربي، وطرح رؤية معاصرة لإمكانية دمج هذا الإرث مع النظريات الحديثة في المنطق الحجاجي، والمنطق غير الصوري، ومنطق الفكر النقدي.

وارتكزت محاضرة البروفيسور حمّو النقاري على أربع دعائم جوهرية ميزت المادة المنطقية المناظراتية في التراث الإسلامي- العربي، وهي:

  • أصالة المناظرة كمنهج
  • تلازم صحة الاستدلال مع سلامته من المعارض
  • مشروعية حق الاعتراض كأساس للحوار البناء
  • إلزامية الرد وفق منظومة من الشروط المنطقية والأخلاقية المحددة.

وعرض حمّو النقاري مسألة المنطق في صورتين، صورة غربية حديثة وصورة عربية تراثية، وقال أن الصورة الغربية الحديثة تتمثل في مجالات متشابكة ومتقاطعة هي المنطق الخطابي القديم والحديث والمنطق اللاصوري والمنطق الحجاجي والمنطق التفكير الناقض وأخيرا المنطق الجدلي المعيشي. في حين تمثل الصورة العربية التراثية بصفة عامة فيما يسمى آداب البحث والمناظرة أو صناعة التوجيه.

صورة مقال حمّو النقاري يطرح رؤية معاصرة للمناظرة في الفكر الإسلامي والنظريات الحديثة
حمّو النقاري في مؤتمر المناظرة والحوار

ويعتقد البروفيسور حمّو النقاري أن هناك تكاملا بين هاتين الصورتين، لذلك فقد بنى مساهمته الفكرية في المؤتمر، والتي يبدو أنها نواة لكتاب جديد، على اقتراح نظرة تكاملية تبين إمكانيات تجديد النظر في مسألة كيف يكون التفاعل الحواري تفاعلا جيدا ومقنعا.

وقال حمّو النقاري أنه لتحقيق هذه النظرة التكاملية سنقرب فقط جوهر مبادئ الصورة الغربية الحديثة تحت عنوان منطق التفاعل الحواري العاقل المنقول وسنقرب جوهر مبادئ الصورة العربية الحديثة تحت عنوان منطق التفاعل الحواري المقصود. فكانت خطة البحث على الشكل التالي:

أولا: منطق التفاعل الحواري العاقل “المنقول”

  • “منطق الخطابة” عامة
  • “منطق الخطابة الأرسطي”
  • “منطق الخطابة الحديثة”
  • “المنطق اللاصوري”
  • “المنطق الحجاجي”
  • منطق التفكير الناقد
  • “المنطق الجدلي المعرفي”

ثانيا: منطق التفاعل الحواري العاقل “المأصول”

  • “المنطق المناظراتي كـ”منطق اعتراض”
  • “المنطق المناظراتي كـ”منطق إقناع”

تطرق حمّو النقاري لهذه النقاط في مجملها بشكل مختصر دام حوالي 40 دقيقة طرح خلالها المنطق الغربي في تقريبا سبع جوانب والمنطق الإسلامي أو المناورات الإسلامية القائم على الإقناع والاعتراض.

ووفقا للتصنيف الذي قدمه المحاضر، تحدث أحد السائلين عن استعمال علماء المسلمين في القدم لتصنيفات هي في خانة المنطق الغربي، فكيف يمكن اعتبار ذلك في خانة المنطق الإسلامي؟ في إجابته على هذا الطرح أكد البروفسور حمّو النقاري أنه لا يوجد هناك منطق إسلامي ومنطق مسيحي ومنطق هندي أو حتى يهودي، فلا يمكن ان نقول مثلا رياضيات إسلامية أو رياضيات مسيحية، المنطق له موضوع معين وهو ضبط العلاقة الاستلزامية في كل مختلف المجالات، وعلينا أن ننفي هذا الوصف العرقي أو النسبي، بحيث يمكن أن نقول مثلا المنطق في الحضارة الإسلامية لا نقول المنطق الإسلامي، أو المنطق في الحضارة الغربية، لا المنطق الغربي.

وعموما في مرحلة التفاعل مع الجمهور كان الجدل حاضرا والمنطق موجود، وتبين من أسئلة الحضور أن أحد الجوانب التي بدا أن البروفسور أغفلها هو البعد الأخلاقي باعتباره حاضرا بشكل كبير في المنطق وفي علم المناورة الإسلامي بشكل خاص.

كما تمحورت بعض الأسئلة عن حدود استعمال المنطق في المناظرة، وهل يجب أن نستعمل المنطق بشكل إصراري؟ أو يجب أن ندخل مجموعة من المدخلات مثل القيم والعواطف والخبرة وغيرها.

فن المناظرة وتوظيف الذكاء الاصطناعي في الحجاج

استأنفت الجلسات التخصصية أعمالها في الفترة المسائية، حيث ناقش المشاركون موضوعات معاصرة مثل “توظيف الذكاء الاصطناعي في الحجاج: محدودياته وإمكاناته” التي بحثت العلاقة بين التقنيات الحديثة وفن المناظرة، و”إعادة تصور التعليم من خلال المناظرة: رؤى ودراسات حالة” التي قدمت تجارب تطبيقية، و”الممارسة الحجاجية: بناء المرونة والفاعلية والحوار الشامل” التي تناولت مهارات الحوار، إلى جانب جلسة “كواليس التحكيم: استكشاف ممارسات وفلسفة تحكيم المناظرات” التي كشفت أسرار التقييم، وجلسة “الحجج القياسية في أصول الفقه الإسلامي والمنطق القانوني المعاصر: الاستنباط والقابلية للنقض” التي جمعت بين الأصالة والمعاصرة.

يذكر أن المؤتمر يهدف إلى تعزيز الحوار الفكري وتبادل الخبرات بين المشاركين من مختلف أنحاء العالم، سعيا نحو تطوير آليات المناظرة والحجاج في المجالات العلمية والمجتمعية المختلفة.

واختتمت فعاليات الدورة الثانية من “المؤتمر الدولي للمناظرة والحوار“، الذي انعقد على مدى يومين بحضور نحو 1200 مشارك من نخبة المفكرين والأكاديميين من مختلف التخصصات من أكثر من 36 دولة، كما ضم مشاركين من جامعات مرموقة حول العالم تعتمد المناظرة ضمن مناهجها وأنشطتها الثقافية، على غرار البروفيسور كريستوفر تانديل مدير مركز الأبحاث في الاستدلال والحجاج والبلاغة والأستاذ المتميّز في جامعة ويندسور بكندا والبروفيسور حمّو النقاري أستاذ الفلسفة والمنطق في المغرب، إلى جانب ممثلين عن مؤسسات المجتمع المدني الرائدة في جهود البناء المجتمعي وتعزيز القيم والوعي، لا سيما لدى الأجيال الصاعدة.

السبيعي: قطر حاضنة الحوار

وفي كلمة له خلال الحفل الختامي، أشاد عبدالرحمن السبيعي، مدير البرامج في مركز مناظرات قطر، بمستوى الحضور والمشاركات النوعية، مؤكدا أن المؤتمر “يشكل فرصة مهمة للباحثين في حقول الحوار والمناظرة والتواصل الإنساني، كي يقدموا أوراق بحث تمثل نتاج جهد في كافة القطاعات المرتبطة بالمناظرة كفنّ عريق، وبالحوار كقالب سام للتواصل”.

رجل يرتدي الزي التقليدي القطري يتحدث على منصة خلال مؤتمر دولي حول النقاش والحوار، مع وجود شعار مركز قطر للمناظرة في الخلفية.
عبدالرحمن السبيعي، مدير البرامج في مركز مناظرات قطر

وأشار السبيعي إلى أن هذا المؤتمر يتسق “مع الدور الطليعي لدولة قطر، كواحدة من أكبر حواضن الحوار العالمي والتفاوض من أجل السلام والأمن والعدل وقد تكللت، بفضل الله، جهود قطر في تحقيق إنجازات على مستوى العالم، ساهمت في إحلال السلام، وإغاثة المهددين في بيئات الخطر والاقتتال”.

وتابع قائلا: “إننا في زمن لا يكفي أن تكون على حق فقط، بل عليك أن تنتصر للحق، ولا يكفي أن تكون ساعيا للحقيقة، بل مريدًا لها أيضا، كما لا يكفي أن تكون صالحا، بل عليك أن تكون مصلحا كذلك”.

“المجددون في الإعلام”

توجت فعاليات المؤتمر بجلسة حوارية عامة جمعت الإعلامي أنس بوخش، مقدم برنامج ABTalks، ومحمد إسلام، مقدم Mo Show، بإدارة الإعلامي محمد سعدون الكواري، حول موضوع: “المجددون في الإعلام: تعدد الطرق.. تكامل الغايات”.

مؤتمر معلوماتي في الدوحة يضم جلسة حوارية مع محمد إسلام ومحمد الكواري وأنس البتّاش، حيث يتحدث المتحدثون عن مواضيع تكنولوجية حديثة. يظهر في الخلفية شعار المؤتمر.

ناقش المتحدثون اختلاف أساليبهم وتنوع محتواهم، مع التقاء أهدافهم على كسر القوالب النمطية، وتعزيز الشفافية، وبناء الثقة في مجتمعات لا تزال متمسكة بالطرق التقليدية للتعبير. كما أتيحت للجمهور فرصة المشاركة في فقرة حوارية مفتوحة، تم خلالها طرح الأسئلة وتبادل الآراء.

كما شهد اليوم الختامي أيضا تسجيل محتوى بودكاست خاص بالتعاون مع الشريك الإعلامي “دوحة بلس”، في إطار جهود توثيق مخرجات المؤتمر وتوسيع دائرة النقاشات الهادفة.