اللغة ليست مجرد كلمات، بل هي ساحة للإقناع وبناء الحجج. وقليلون هم من استطاعوا الغوص في تفاصيل هذه الساحة في لغتنا العربية كضيفنا اليوم، الأستاذ الدكتور أبو بكر العزاوي.
يعمل الأستاذ الدكتور العزاوي أستاذًا للتعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة السلطان مولاي سليمان ببني ملال بالمغرب. يُعدّ باحثًا نحت تخصصه بدأب واشتغال فكري طويل، وشقّ طريقًا جديدًا لم يكن معبّدًا من قبل في الدرس اللساني العربي. فبينما كان الدرس اللغوي يسير في مساراته التقليدية، وضع أسس “نظرية الحجاج اللغوي”، ناقلاً إياها من نخبة المفكرين في أوروبا، كأستاذه “أوزفالد ديكرو” ليجعلها مقررًا دراسيًا في متناول كل طالب وباحث. لم يكتفِ بذلك، بل طوّر النظرية ليقدم نموذجًا فريدًا هو “الحجاج الموسع”.
ومن خلال مؤلفاته العديدة مثل: “اللغة والحجاج”، “الخطاب والحجاج”، “حوار الحجاج”، “اللغة والمنطق”، “سعيد النورسي رجل الحوار والإقناع”، و”الدلالة المعرفية”، وترجماته “مدخل إلى النحو المعرفي” لرولاند لانكاكير و”الفضاء في اللغة الفرنسية “؛ لم يكتب فصولاً في العلم فحسب، بل أسس لمشروع فكري متكامل بالإضافة إلى ذلك أشرف على عدد كبير من الأطروحات الجامعية في اللسانيات والحجاج والأدب والبلاغة والدراسات الإسلامية في عدد من الجامعات المغربية.
وعلى هامش المؤتمر الدولي الثاني للمناظرة والحوار والذي نظمه مركز مناظرات قطر بمدينة الدوحة خلال الفترة 19 – 20 مايو 2025 م ، التقى إسلام أون لاين الأستاذ الدكتور أبوبكر العزاوي وأجرى معه هذا الحوارمن أجل تلمس أبجديات مشروعه العلمي الرائد، والتعرف على مفهوم “نظرية الحجاج الموسع”، وكيف يُعيد الحجاج قراءة علاقتنا بالقرآن الكريم، وما الذي يحتاجه الدرس اللساني العربي من تطوير.
فإلى تفاصيل الحوار:
الحجاج اللغوي بين الريادة والتأسيس
سؤال: نرحب بكم أشد الترحاب. نلاحظ أنكم اصطحبتم معكم بعض الكتب، هل لنا أن نتعرف عليها؟
الدكتور العزاوي: أهلًا بكم وشكرًا على هذا الاستقبال. نعم، أحضرتُ بعض الكتب؛ منها مؤلف لي، وآخر عن سعيد النورسي، وقد رأيته بالفعل. هذا الكتاب الأخير هو خلاصة بحثين قدمتهما في مؤتمر بتركيا. وهناك كتاب آخر أوشك على الانتهاء منه، بعنوان: “ابن عميرة أبو المطرف: مؤسس الاتجاه المنطقي في المدرسة البلاغية المغربية”. هو بالفعل مؤسس هذا الاتجاه، نظرًا لوجود مدرسة بلاغية منطقية.
سؤال : جميل جدًا دكتور. أنتم من الرواد في مجال الحجاج اللغوي في العالم العربي. هل لكم أن توضحوا هذه الريادة؟
الدكتور العزاوي: نعم، ليس بـ”الرواد”، بل بـ”الرائد”؛ فأنا الرائد الذي أدخل الحجاج إلى الجامعة المغربية، والحمد لله، وإلى الدرس العربي بشكل عام. ومن الأمور المهمة أيضًا أنني اقترحتُ نظرية، أو نموذجًا طورته من أعمال أستاذي ديكرو، وألفتُ فيه كتابًا كبيرًا بعنوان: “الحجاج الموسع: الأسس والمبادئ”. هذه نظرية شخصية. فالحجاج عند ديكرو كان لغويًا فقط، بينما أنا، بعد أن عملتُ عليه في البداية، قمتُ بتطويره ليصبح الحجاج بالنسبة لي ذهنيًا وتصوريًا، متجاوزًا بذلك حدود دراسة ديكرو للحجاج في بنية الأقوال فقط.
رحلة البدايات
سؤال : بما أنكم أول من أدخل نظرية الحجاج اللغوي إلى الدرس اللساني العربي، وطبقتموه على اللغة العربية في أطروحة الدكتوراه، وعرفتم به وأدخلتموه إلى الجامعة. هل لكم أن تحدثونا عن هذه النظرية، نظرية الحجاج اللغوي، وكيف وفدت أو دخلت إلى الدرس اللساني العربي في الجامعات المغربية بدايةً، ثم باقي الجامعات العربية؟
الدكتور العزاوي: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين. شكرًا لكم وللإخوة العاملين في إسلام أون لاين. حين ذهبتُ إلى فرنسا لإكمال دراساتي العليا، كنتُ حريصًا على أن أعمل تحت إشراف عالم كبير حتى أتمكن من الإلمام باللسانيات والتداوليات الحديثة وعلوم أخرى. ويسّر الله أن سجلتُ أطروحتي الأولى للدكتوراه (سنة 1989-1990) مع الأستاذ أوزفالد ديكرو، وهو أحد كبار علماء الدلالة والتداوليات في أوروبا، وصاحب نظرية الحجاج اللغوي ونظريات أخرى، مثل نظرية الاقتضاء ونظرية الأصواتية (البوليفونية). عندما سجلتُ معه الأطروحة، كان السياق يفرض أن أعمل على الحجاج لكونه تخصصه. فسجلتُ أطروحة بعنوان”بعض الروابط الحجاجية في اللغة العربية: مقاربة حجاجية أصواتية”. وتناولتُ فيها روابط محددة هي: (بل )، و (لكن)، و(حتى)، و(لا سيما)، و(بالطبع) كانت هذه الروابط تُدرس لأول مرة من منظور حجاجي، وحتى موضوع الروابط الحجاجية لم يكن معروفًا آنذاك، فلم يكن أحد يتحدث عن الحجاج في اللغة أو الروابط الحجاجية.
أنجزتُ هذا البحث، وعندما بدأتُ في نشر بعض البحوث في أواسط الثمانينات، نشرتُ أول مقال، كان بسيطًا، ونشر في جريدة، عن “الحجاج اللغوي.
لكن بشكل رسمي، في عام 1990، نشرتُ تقريرًا مفصلًا عن أطروحتي بعنوان: “الروابط الحجاجية في العربية”. وفي عام 1991، نشرتُ بحثًا في مجلة علمية محكمة بالمغرب، “مجلة المناظرة”، بعنوان: “نحو مقاربة حجاجية للاستعارة”. ثم في عام 1992، نشرتُ بحثًا بعنوان “الحجاج والشعر”، الذي حللتُ فيه قصيدة “العلة ” للشاعر العراقي أحمد مطر؛ لما فيها من استعمال عجيب لرابط لكن.
وتبع ذلك بحوث أخرى حول البنية الحجاجية في القرآن الكريم، والحجاج في الصورة الإشهارية، وغيرها.
وهكذا، تعرّف الناس في العالم العربي على الحجاج اللغوي وأهميته، واستقبلوه بترحاب كبير.
ثم أدخلتُ الحجاج اللغوي إلى الجامعة المغربية، فأصبح مادة أساسية في التداوليات التي كنتُ أدرسها، وكذلك أدرجته في مادة علم المنطق. وقد درستُ علم المنطق في الشعبة العربية وشعبة الدراسات الإسلامية لأكثر من 20 أو 25 عامًا في جامعة السلطان مولاي سليمان ببني ملال، وفي جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء (ماستر العقيدة وتاريخ الأديان في العالم الإسلامي)، وفي كلية الآداب عين الشق وابن مسيك بالدار البيضاء، وكلية الآداب بالجديدة.
ومنذ ذلك الحين، انتشر الحجاج اللغوي في العالم العربي، وأذهلني حجم رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه التي سجلت في العراق والجزائر ومصر ودول أخرى كثيرة، فأصبح منتشرًا والحمد لله. الباحثون كلهم الآن يجمعون على أن الأستاذ العزاوي هو رائد الحجاج في العالم العربي، وهو أول من نشره.
الحجاج اللغوي: أصعب أنواع الحجاج وأهمها
الدكتور العزاوي: أود أن أقول إن الحجاج اللغوي هو أصعب أنواع الحجاج وأهمها. فقد درستُ أيضًا الحجاج البلاغي عند العالم البلجيكي شايم بيرلمان (رجل قانون وفلسفة وميتافيزيقا ومنطق)، والحجاج المنطقي عند أستاذي السويسري جان بليز غريز (صاحب نظرية المنطق الطبيعي)، واطلعتُ على نموذج تولمن ومدرسة أمستردام في هولندا (نظرية الحجاج التداولي الجدلي مع فان إيميرين وزملائه).
الحجاج اللغوي تكمن أهميته في أنه لا يدرس الحجاج دراسة خارجية كما هو الحال في الحجاج البلاغي والمنطقي، بل يدرسه داخل اللغة. ويعتبر ديكرو أن الوظيفة الحجاجية هي الوظيفة الأساسية للغة، أما الإخبار والوصف فهو ثانوي بالنسبة إليه.
الروابط الحجاجية: خصوصية اللغة العربية
سؤال: دكتور، تطرقتم إلى الحجاج البلاغي، وذكرتم دراستكم للاستعارة من منظور حجاجي. هل لكم أن توضحوا كيف تناولتم الاستعارة بهذا المنظور؟
الدكتور العزاوي: نعم، أنا درستُ الاستعارة، ولكن ليس في إطار الحجاج البلاغي التقليدي، وهذا هو الجديد في بحثي، تأثرًا بما ذكره علماء اللسانيات المعرفية، فقد درستُ على بعض أقطاب اللسانيات المعرفية في فرنسا وبلجيكا وأمريكا. هؤلاء يعتبرون الاستعارة ظاهرة لغوية وذهنية معرفية. الجديد في هذا البحث هو أنني طبقتُ الحجاج اللغوي على الاستعارة، ودرستُ الاستعارة بمفاهيم نظرية الحجاج، ومنها: مفهوم السلم الحجاجي، ومفهوم القوة الحجاجية، ومفهوم الإبطال.
فقد بينتُ أن الأقوال الاستعارية، إذا قورنت بالأقوال العادية أو وضعت في سلم حجاجي معين، فإن القول الاستعاري يتموقع في أعلى السلم، لأن له قوة حجاجية عالية، ثانيًا: القول الاستعاري لا يقبل الإبطال، بينما القول العادي يمكن أن يقبل الإبطال. فلو وصفنا شخصًا ما وقلنا “زيد بطل شجاع”، فهذا قول عادي، لكن إذا قلتُ “زيد أسد”، وهذه عبارة مجازية استعارية، فلا يمكن إبطالها، فهي تعبر عن منتهى الشجاعة، إذا قلتَ “زيد أسد، ولكنه يخاف، فهذا لا يصح؛ فإذا كان يخاف أو تنقصه الجرأة الكافية، فلم يعد أسدًا، القول الاستعاري لا يقبل الإبطال.
بعد أطروحة الدكتوراه الأولى حول “الروابط الحجاجية في اللغة العربية: بل ولكن وحتى ولا سيما”، طبقتُ نظرية الحجاج اللغوي، وكان هذا جديدًا، ليس فقط في تاريخ الدرس اللساني العربي، بل في تاريخ اللغة العربية نفسها.
علماؤنا القدماء كتبوا مؤلفات كثيرة حول حروف المعاني، مثل ابن هشام، والملقي، والمرادي في “حروف المعاني”، و”رصف المباني في حروف المعاني” للرماني والزجاج، لكن هذا الجديد لا نجده في التراثات الأخرى، فلن تجد في هذه الكتب من تكلم عن الاستعمالات الحجاجية الاستدلالية لهذه الأدوات.
كان هذا فتحًا جديدًا للغة العربية. أنا لم أتكلم عن الجانب التركيبي أو الدلالي أو النحوي، بل تحدثتُ عن الجوانب الاستدلالية الحجاجية.
لقد وقعت أخطاء كبيرة في العالم العربي بسبب عدم فهم الرابط الحجاجي، فجعلوا كل حروف المعاني، وكل حروف الجر، وحروف العطف روابط حجاجية، في حين أن ” ديكرو ” في حياته التي امتدت لخمسين سنة لم يدرس إلا أربعة روابط، فكيف يأتي أحدهم ويقول إن خمسين حرفًا من حروف المعاني كلها روابط؟ يجب أن يعرف معنى الرابط الحجاجي.
سؤال : وهل ركزتم أنتم على هذه الروابط الأربعة أو الخمسة التي ذكرتموها تحديدًا؟
الدكتور العزاوي: نعم، على “بل، ولكن، وحتى، ولا سيما، وبالطبع”. عندما تعمقتُ في دراسة هذين الرابطين (“بل” و”لكن”)، وجدتُ أن لدينا “بل” الحجاجية و”بل” الإبطالية، و”لكن” الحجاجية و”لكن” الإبطالية. فعنونتُ الفصل الثاني من الأطروحة بـ “Comme mais en arabe”، أي ما يعادل “Four kinds of ‘but'” بالإنجليزية. لأن ديكرو كان قد كتب مقالين بعنوان “Deux mais en français”، أي نوعان من “mais”. فأتيتُ أنا وقلتُ: “أربعة أنواع من ‘but'”. لدينا “لكن” الحجاجية و”لكن” الإبطالية، و”بل” الحجاجية و”بل” الإبطالية. إضافة إلى ذلك، “بل” تشتمل على استعمال آخر حجاجي، ولكنها هذه المرة تكون مرادفة لـ”حتى”، ولم تعد مرادفة لـ”لكن”. فلو قلتُ: “فلان يعرف الفرنسية والإنجليزية والألمانية، بل يعرف الصينية”. لو حذفنا “بل”، لقلنا: “وحتى الصينية”. أي أنها آخر حجة قوية، وآخر ما يتوقع. إذن، “بل” فيها ثلاثة استعمالات. كان هذا شيئًا جديدًا. وقد توصلتُ إلى هذا من خلال دراسة هذه الروابط الحجاجية في اللغة العربية بالرجوع إلى المعاجم، ثم باستعمال منهج المقارنة لإظهار خصوصية اللغة العربية.
في الصفحة الأولى من أطروحتي، كتبتُ قولة الفراء، وكأنني أرسل رسالة مشفرة ضمنية إلى ديكرو، الذي خصص 40 أو 50 سنة من عمره لدراسة الفروق بين الأدوات. قلتُ له: “أموت وفي نفسي شيء من حتى” (كتبتها بالحرف اللاتيني مع ترجمة فرنسية). ظننتُ أنه لن يتكلم عنها، لكنه وهو يلقي كلمته أثناء مناقشة الأطروحة، وبعد مرور بعض الوقت، تكلم بإعجاب كبير وقال ما معناه: “أنا أريد أن أكون جزءًا من الفراء، هذا الذي يموت، وربما يضعونه في النعش ولا يزال يفكر في ‘حتى’ ولم يكمل ما يريد أن يعرفه عنها”. هذا يدل على التجديد والتأصيل في عملي، فرغم اشتغالي في إطار الحجاج اللغوي، فقد رجعتُ إلى كتب معاني الحروف والمعاجم.
نظرية الحجاج الموسع: ثورة في دراسة الإقناع
سؤال: بعد أطروحتك الأولى التي كانت سنة 1989-1990، أنجزت أطروحة أخرى لنيل شهادة دكتوراه الدولة سنة 2000-2001 بعنوان “الحجاج في اللغة العربية: دراسة في المنطق اللغوي“. بماذا اختلفت هذه الأطروحة عن الأولى، وهل كانت خطوة نحو المشروع الأكبر “الحجاج الموسع“؟
الدكتور العزاوي: نعم، الأطروحة الأولى كانت حول الروابط الحجاجية الأربعة في اللغة العربية. لكن الأطروحة الثانية تضمنت دراسة الأمثال، ودراسة الصورة الإشهارية، ودراسة الشعر، والقرآن الكريم. فالظواهر التي تمت دراستها أصبحت كثيرة: الاستعارة والأمثال والصورة وأنواع عديدة من الخطاب. هذا لا نجده في الأطروحة الأولى، التي كانت مقتصرة على الروابط الحجاجية الأربعة في اللغة العربية. إذن، هناك تطور واضح. وبعد أطروحات الدكتوراه، أدت دراسات أخرى إلى أن أقترح ما أسميته بـ “نموذج الحجاج الموسع” أو “الحجاج الأوسع”.
من اللغة إلى الذهن: جوهر الحجاج الموسع
سؤال: تجاوزت نموذج ديكرو، واقترحت نظرية جديدة أسميتها “الحجاج الموسع“. ما الجوهر الذي تقوم عليه هذه النظرية، وكيف تم هذا الانتقال؟
الدكتور العزاوي: قلتُ في نفسي: “لا يمكن أن أكون نسخةً ثانيةً من ديكرو”. فبعد تطبيق نظريته على العربية، انتقلتُ إلى دراسة ظواهر أوسع مثل الاستعارة والصورة الإشهارية (حتى تلك الخالية من النص اللغوي). هنا أدركتُ قصور النموذج اللغوي المحض، فكان لا بد من الانتقال من اللغة إلى الذهن (From Language to Mind) .
هذا هو جوهر “الحجاج الموسع: ، الذي يجمع بين الحجاج اللغوي واللسانيات المعرفية والدلالة التصورية، مستعينًا بنظرية الدلالة التصورية عند جاكيندوف ، ونظرية الدلالة المعرفية عند فوكونيي. وقد لخصتُ هذه النظرية في كتابي “الحجاج الموسع: الأسس والمبادئ”.
أذكر في هذا السياق أن مجموعة من طلبة الأستاذ ديكرو، منهم زوجته كاريل ماريون، طورت نظرية ديكرو (هي طالبته ثم أصبحت زوجته)، بعنوان “نظرية الكتل الدلالية”. وقد تبنى ديكرو هذه النظرية لاحقًا، وهي أكثر بنيوية من نموذجه. ثم جاء تلميذه وزميله جون كلود أنسكومبر، فطور نظرية “القوالب” أو “الأنماط القلبية” (of stereotype)، وفي هذا السياق، أنا طورتُ نموذجه تحت اسم “الحجاج الموسع،” وسبب هذا التطوير هو اختلافنا معه في بعض الأمور. لقد تخلى هو عن مفهوم السلم الحجاجي، وهذا لم يكن شيئًا مهمًا، لكنه تخلى عن مفهوم المواضع “Topoi” أو “اللثوما” ، وهنا اختلفنا معه، أنا وأنسكومبر وآخرون، على أن المواضع أو ما أسميه أنا بالمبادئ الحجاجية هي أساس الاستدلال الحجاجي.
الحجاج البصري والأيقوني
سؤال: هل تصنف الصورة التي لا تحتوي على نص لغوي ضمن الحجاج اللغوي، أم هي نوع آخر؟
الدكتور العزاوي: هنا تحدثتُ عن الحجاج البصري أو الحجاج الأيقوني “Iconic argumentation” أو “Visual argumentation “، بمعنى أن مكونات الصورة، أي الأيقونات تدرك وتؤول ولها معانٍ ثانية “Connotations” وتحمل قيمًا. فطبقتُ الحجاج على النص البصري. هنا الحجاج اللغوي كان مجرد منطلق، ولم يكن كافيًا وحده.
وقد قدمتُ تعريفًا جديدًا لمفهوم الحجة، وتعريفًا جديدًا لمفهوم الحجاج، وقلتُ إن الحجاج ينشأ في الذهن، وخاصة في البنية التصورية، ثم يتحقق باللغة، فيصبح حجاجًا لغويًا، أو يتحقق بالرسم والتصوير، فيصبح حجاجًا أيقونيًا، أو يتحقق بالسلوك، أو يتحقق بالعواطف. ما دام أن الذهن والبنية التصورية هي منشأه، وهو سيرورة معرفية ونشاط ذهني، فالتحقق سيكون بالوسيلة التي وقع الاختيار عليها: هل هي اللغة؟ هل هو الرسم؟ هل هو السلوك؟ إلى آخره.
سؤال: إذن، لقد عرّفت الحجة بوصفها تصورًا. وهل يشمل ذلك الأصوات والألوان والفنون التشكيلية؟
الدكتور العزاوي: نعم. ديكرو في البداية، قال إن الحجة هي أقوال وجمل، لكن ظهر له قصور هذا التعريف فتخلى عنه، وأصبح يقول إن الحجة عنصر دلالي، أي معنى، عنصر معنوي يخدم عنصرًا آخر هو النتيجة، ولكن هنا نبقى في مستوى اللغة فقط، فأتيتُ أنا وقلت: الحجة تصور As concept” “، وهكذا خرجنا من اللغة وانتقلنا إلى الذهن، وانتقلنا إلى البنية التصورية.
فالحجة هي تصور يخدم، لو قلتُ مثلًا جملة “الجو جميل” ، هنا ما يهمني هو أن هناك تصورًا في الذهن. وهناك نظرية الدلالة التصورية لجاكيندوف وهي نظرية معروفة، أنا اعتمدتها واستفدتُ منها. فعندما تقول لي “الحجة تصور”، أي أنها تنشأ في الذهن. قد تتحقق باللغة فتصبح الحجة عنصرًا دلاليًا، أو تتحقق بالرسم. فبدل أن تقول لي “الجو جميل”، سترسم لي لوحة يظهر فيها جمال الجو والشمس مشرقة، إلى آخره.
والأجمل عند جاكيندوف أن الدلالات والمعاني هي جزء من دائرة أوسع هي التصورات. التصورات دائرة كبرى فيها جزء منها دلالات ومعانٍ، وجزء منها الأيقونات، وجزء منها سلوكات مادية. ويقول إن الدلالات والمعاني هي التصورات التي عُبّر عنها باللغة. فإن لم يُعبر عنها باللغة وعُبر عنها بالرسم والتصوير، فهي أيقونات ورسوم. والحمد لله، أنجزنا جزءًا كبيرًا من التطوير، وأنتج هذا نظرية الحجاج الموسع. وقد استُقبلت والحمد لله بشكل كبير حتى في المغرب. هناك طلبة يعدون أطروحات الدكتوراه ويطبقون هذا. وهي صالحة لدراسة الأيقونات والرسوم، ولدراسة المسرح. فالمسرح ليس كلامًا ولغة فقط، بل هو كلام ولغة وملابس وحركات وإشارة باليد، أي نظرية حجاجية تستطيع أن تدرس كل هذا الخطاب المسرحي والعرض المسرحي؟ ليس هناك إلا الحجاج الموسع، وإلا لن تدرس الإشارات والإيماءات والملابس وأمور أخرى.
نعم. لقد أسميتُه “الحجاج الموسع” لأنه الأوسع والأشمل، بحيث يصلح لأن نطبقه وندرس به جل الفنون والأجناس الأدبية، والسينما، والمسرح، والفن التشكيلي كما قلت. وأنا ملزم بالعمل على تطويره وإضافة معلومات كثيرة وشروح وتفصيلات ليسهل تطبيقه أكثر. وإلا، الحجاج اللغوي لن يسمح لك بدراسة هذا. رغم أنني قلتُ ذات يوم: “الحجاج اللغوي هو الكل، وما عداه هو الجزء”، وأقصد الحجاج المنطقي (مجموعة من التقنيات المنطقية) وأقصد الحجاج البلاغي. والآن أقول: “الحجاج الموسع هو الكل.
سؤال: إذن، كان الهدف عدم إهمال أي إشارة في أي فن من الفنون.
الدكتور العزاوي: نعم، لأن الجاحظ وعلماءنا العرب ميّزوا بين أنواع خمسة: النصب والإشارات… الأنواع الخمسة. وأتى العالم السيميائي والناقد الفرنسي رولان بارت فقال: كل شيء دال (Tout est signifiant). كل شيء دال، ليكن حركة، ليكن سلوكًا، ليكن لباسًا، ليكن أي شيء، فله دلالة. وبما أن كل شيء دال، أي له دلالة، فأعتقد والله أعلم أن الحجاج الموسع، لكونه أشمل وأوسع، هو المؤهل أكثر، رغم أنه ما زال يحتاج إلى توسيع وتطوير وتفصيل، ليدرس كل هذه الدلالات.
مقارنة بين نموذج ديكرو والحجاج الموسع
سؤال : ما الفرق الجوهري بين نموذجك “الحجاج الموسع” ونموذج ديكرو الأصلي، وما الذي يميزها عن النظريات الحجاجية الأخرى؟
الدكتور العزاوي: لقد درستُ أيضًا الحجاج البلاغي عند العالم البلجيكي شايم بيرلمان (رجل قانون وفلسفة وميتافيزيقا ومنطق، الذي يعتبر انطلاقة الدراسات الحجاجية في العالم)، ودرستُ الحجاج المنطقي عند أستاذي السويسري جان بليز غريز، واطلعتُ على نموذج تولمن ومدرسة أمستردام في هولندا (نظرية الحجاج التداولي الجدلي مع فان إيميرين وزملائه).
الحجاج اللغوي تكمن أهميته في أنه لا يدرس الحجاج دراسة خارجية كما هو الحال في الحجاج البلاغي والمنطقي، بل يدرسه داخل اللغة. وديكرو، لكونه بنيويًا، اعتبر أن الوظيفة الحجاجية هي الأساسية للغة.
يمكن تلخيص الفروق الجوهرية بين نموذجي “الحجاج الموسع” ونموذج ديكرو الأصلي في خمس نقاط:
المعيار | نموذج ديكرو (الحجاج اللغوي) | الحجاج الموسع (نموذجي) |
الطبيعة | حجاج لغوي بحت | حجاج معرفي / تصوري / ذهني (بالأساس) |
الوحدة التي تُدرس | دراسة الحجاج في مستوى الجملة والقول | دراسة الحجاج في مستوى النص والخطاب (شعري، بصري، مسرحي، سينما، فن تشكيلي) |
المنهج | بنيوي | تداولي (لا يفصل بين المقال والمقام، أي بين البنية والوظيفة |
النطاق | جزئي (اللغة فقط) | شمولي (يشمل الحجاج اللغوي، البصري الأيقوني، البلاغي، والتداولي) |
الهدف | دراسة بنية الأقوال | دراسة سيرورة الإقناع الشاملة |
أنماط الاستدلال في القرآن الكريم
سؤال : ننتقل إلى سؤال آخر حول كتابك “أنماط الاستدلال في القرآن الكريم. يذكر أنكم حفظتم القرآن في الصغر، فما هو هذا المشروع وما الجديد الذي قدمه؟
الدكتور العزاوي: نعم، حفظتُ القرآن كاملاً في سن مبكرة. كان والدي رحمه الله تاجر أثواب، وفي الوقت نفسه كان إمام مسجد، وبالطبع، كان يهمه بالدرجة الأولى أن أحفظ القرآن. و إخوتي وأخواتي لم يحفظوه بشكل كامل، بل حفظوا جزءًا منه. وقد درستُ القرآن عند فقيه في الكُتّاب القرآني، ودرستُ عند الوالد رحمه الله، أي ما يسمى بـ”الختمة”،أنجزتُ بعض الختمات في الكُتّاب القرآني، وبعض الختمات مع الوالد. وحفظتُ أيضًا الكثير من الأشعار، كالمديح النبوي، وقصيدة البردة المعروفة، وقصيدة الهمزية، وغيرها. ثم درستُ العلوم الشرعية مثل علم التفسير، وعلم أصول الفقه، وعلم التجويد والقراءات. فكان لدي تكوين لا بأس به في العلوم الشرعية.
عندما بدأتُ التدريس، طبقتُ الحجاج على أنماط من الخطاب. في البداية، بدأتُ بقصيدة “العلة” للشاعر العراقي أحمد مطر، لأنها أثارتني، كان فيها استعمال عجيب للرابط الحجاجي. وقد نشر هذا البحث عام 1992، أي منذ أكثر من 30 سنة. ثم جاءتني فكرة أن أطبق أيضًا الحجاج اللغوي على القرآن الكريم. فأنجزتُ دراسة حول سورة الأعلى، نُشرت في مجلة “المشكاة” (ربما في عام 1997)، ثم نشرتها في كتابي “الخطاب الحجاجي. ثم أنجزتُ دراسة أخرى بعنوان “الحجاج والانسجام في خواتيم سورة البقرة“، ونُشرت في إحدى المجلات المغربية.
كنتُ أدرس مادة المنطق والحجاج لطلبة الدراسات العليا في جامعة الدار البيضاء (طلبة الماجستير)، وكنتُ أعمل معهم تطبيقات سواء تعلق الأمر بالقياس الأصولي أو بالقياس المنطقي بأنواعه المختلفة، مع أمثلة من القرآن. ثم تطور الأمر بعد أن طلب مني أن أكون عضوًا في اللجنة الاستشارية لمجلة مغربية اسمها “مجلة طنجة الأدبية. وأسند إلي عمود شهري، فبدأتُ في كل عمود، في كل شهر، في كل حلقة، أتناول قضية تتعلق بالاستدلال في القرآن، فنشرتُ عشرات الحلقات، بعدها جاءتني الفكرة أن أطور هذه الحلقات لتصبح كتابًا، فأنتج كتابًا بعنوان “أنماط الاستدلال في القرآن”.
الكتاب يشمل ثلاثة فصول، الفصل الأول بعنوان”أنماط الاستدلال” ، تكلمتُ فيه بشكل عام أن القرآن اشتمل على أنواع عديدة من الاستدلال والحجاج، لأن الله عز وجل أراد أن يكون الإسلام والإيمان اختيارًا لا إجبارًا، قال: ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾، وقال في آية أخرى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ﴾. فرحمةً بنا أرسل الرسل وأنزل الكتب، وكان يحاورنا ويحاجنا ويقنعنا من بداية القرآن إلى آخره. القرآن ذو بنية حوارية وحجاجية. فالقرآن ليس كتابًا في المنطق بتاتًا، ولكنه مليء بأنواع الاستدلال. تجد فيه الحجاج اللغوي والبلاغي، والقياس المنطقي والأصولي، وتجد قياس الأولى وقياس التمثيل وقياس الشمول إلى آخره، والقياس المنطقي بأنواعه: القياس الحملي والقياس المضمر. فكان الفصل الأول ينبه إلى أن القرآن اشتمل على أنواع من الاستدلال والحجاج. أما الفصل الثالث فخصصتُه للقياس الأصولي بأنواعه الثلاثة: قياس العلة، وقياس الدلالة، وقياس الشبه.
الجديد في دراسة الاستدلال القرآني
الدكتور العزاوي: لكن الفصل الثاني هو الأروع والأفضل وفيه الجديد بشكل عجيب؛ فلم أجد أحدًا إلى الآن كتب في هذا، وهو عن ترابط وتضافر وتسلسل الحجج والأدلة والقياسات المنطقية في الآية الواحدة. أخذتُ آية واحدة مثل قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾. فقلتُ: لقد اشتملت هذه الآية على خمسة أو ستة أو سبعة أدلة، وبينتُ ترتيبها وتسلسلها المنطقي.فالآية تبدأ بقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾، وهذه هي المقدمة الكبرى للقياس الحملي الشرطي. فالمقدمة الصغرى حملية وهي مضمرة محذوفة، والنتيجة حملية وهي محذوفة. فإذن، أول دليل وأول قياس في هذه الآية هو قوله تعالى : ﴿ كان فيهما﴾، هناك أدلة أخرى، ولكنها تأتي بشكل مرتب ومنطقي ومتدرج. ثم قلتُ: لما حُذفت المقدمة الصغرى والنتيجة، فنحن أمام القياس الإضماري أو القياس المضمر أو الضمير باصطلاح المناطقة. فإذن، من القياس الحملي إلى القياس المضمر. ولما أخذنا القياس، القياس المضمر، والقياس الحملي الشرطي، والقياس الحملي الشرطي له قانون الوضع وقانون الرفع. ولا يمكن أن نطبق الوضع وهو الإثبات، بل سنطبق الرفع وهو النفي؛ فلا يمكن أن تقول: ﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾، لكن فسدتا، إذا فيهما تعدد الآلهة، وإنما ستقول: ﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾، لكن لم تفسدا، إذا ليس هناك تعدد الآلهة، إذا هناك إله واحد هو الله، هذا دليل دليله.
أعتبر أنني لم أجد من فعل هذا؛ أن تدرس أن آية واحدة تشتمل على قياسات منطقية وأدلة متنوعة، ولكنها مرتبة. فإذا سلمت بالدليل الأول أو القياس الأول، قادك إلى الثاني، والثاني أفضى بك إلى الثالث، والثالث إلى الرابع، بشكل مرتب متدرج منطقي. هذا الفصل لن تجده في أي من الكتب القديمة ولا الحديثة، لن تجده لا عند ابن تيمية ولا الغزالي ولا ابن قيم الجوزية الذين كتبوا حول الاستدلال في القرآن بشكل رائع.
عندما ألقيتُ هذا الفصل كمحاضرة في النادي الجراري للمرحوم الدكتور عباس الجراري، عميد الأدب المغربي والشعبي، أعجب به كثيرًا وأثنى عليه أمام الحاضرين. هذا الفصل وحده، في الحقيقة، يحتاج إلى أن يكون كتابًا مستقلًا، لأن هذا هو الجديد. وأنا دائمًا في بحوثي أسعى إلى أن أقدم شيئًا جديدًا. لا أحب أن أكتب ما كتبه الآخرون، بحيث يصبح كلامي مكررًا. هذا البحث، الذي جاء في حوالي 140 صفحة، أعتقد أنه في الحقيقة يحتاج إلى أن يكون في 300 أو 400 صفحة. إنه موضوع طريف ويبين أن الله عز وجل كان يريد أن يقنعنا بالدليل وبالحجة. وقد وردت كلمة “الحجة” في القرآن 20 مرة بمشتقاتها، ووردت كلمة “الجدل” 27 مرة. هذا الحضور الكثيف لكلمتي “الحجة” و”الجدل” بمشتقاتهما دليل على مكانة العقل في الإسلام ومكانة العقل في القرآن الكريم، والدعوة إلى اللجوء إلى الحوار والإقناع والحجاج إذا كان هناك خلاف أو اختلاف.
الحوار الحجاج والجدل: مفاهيم متكاملة
سؤال : هنا سؤال عن الحجاج والجدل. هل هما بمعنى واحد؟ وما علاقتهما بالحوار وقضية الإقناع؟
الدكتور العزاوي: لا، سأبين هذا. نعم، هناك حوار أجري معي بعنوان: “الحوار والحجاج وتدبير الاختلاف والتربية على حقوق الإنسان” وبحث شاركتُ به في مؤتمر بتركيا بعنوان “علاقة الحوار والحجاج والاختلاف في كتاب رسائل النور لسعيد، فصل المقال فيما بين الحوار والحجاج والاختلاف من الاتصال”.
مقولتان أساسيتان:
- لا تواصل من غير حجاج، ولا حجاج من غير تواصل.
- لولا الاختلاف ما كان الحوار، ولولا الحوار ما كان الحجاج.
والحجاج يعمل على إنجاح الحوار وتدبير الاختلاف ورفع الخلاف.
الخلاف سلبي، والاختلاف إيجابي طبيعي. الله خلقنا مختلفين في كل شيء، فالاختلاف هو سنة كونية، خلقنا مختلفين في الأرزاق، والأموال، والصحة، والذكاء، وفي كل شيء. وكلمة “اختلاف” تكرر ذكرها في القرآن بشكل عجيب وكثير. فالاختلاف هو الذي يدعونا إلى الحوار لتدبير الخلاف. وفي الحوار وأثناء الحوار، نحتاج إلى الحجاج لينجح الحوار ويحصل الاتفاق ويزول الخلاف ويقع تدبير الاختلاف. نحن بحاجة للحوار، والحوار قائم على الحجاج. يقول تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾. و﴿حاجه قومه﴾، ﴿هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ﴾. إذن، كل يقدم حجته.
الفروق الجوهرية بين الحجاج والجدل والمناظرة
في خصوص الفرق بين الجدل والحجاج والمناظرة:
الجدل: يكون المقصود به الغلَبة والانتصار. ولهذا، القرآن دائمًا يدعونا إلى الجدال بالتي هي أحسن، ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. ربما في سياقات قليلة في القرآن كان الحديث عن الجدل المحمود. والجدل نوعان: هناك الجدل المذموم وهو الذي ذكره القرآن في معظم الآيات، ويكون القصد منه الغلبة والانتصار.
الجدل المحمود والمناظرة يكون القصد منهما الوصول إلى الحق والصواب.
الحجاج يختلف عن المناظرة والجدل، والمقصود به الإقناع والتأثير على الآخر، ليس هناك قصد مرتبط بالغلَبة والانتصار وهزيمة الآخر كما في الجدل، وليس المقصود به الوصول إلى الحق أو الصواب كما في المناظرة. يقول ديكرو عن الحجاج: “عادةً وعامةً، نتكلم بقصد التأثير”، إذن، الهدف مختلف، والقصد مختلف، والسياق مختلف.
على سبيل المثال، أنا أدعوك إلى نزهة وأريد أن أقنعك بالخروج معي، فأقول لك: الجو جميل، إذن لنخرج، هذه مصطلحات الحجاج. البائع يريد أن يقنع الزبون فيلجأ إلى الحجاج، والمحامي يريد تبرئة موكله فيلجأ إلى الحجاج، والقاضي يريد أن يقنع بأن الحكم الذي أصدره صائب فيُقنع، والفقيه والإمام في خطبة الجمعة، ورجل السياسة لينتخب، كلنا نلجأ إلى الحجاج.
في حوار أجري معي منذ زمن، ونُشر في جريدة مغربية، قلتُ جملة اختارها الصحفي ووضعها عنوانًا للحوار، أقول فيها: “لولا الخطاب الحجاجي .. ؟، الخطاب الحجاجي المقنع، أوصل أوباما إلى رئاسة الولايات المتحدة، وهو من الأصول الإفريقية، ومع ذلك، خطابه المقنع” ،وربما هناك من كتب في أمريكا بحوثًا حول البلاغة والإقناع في خطابات باراك.
الحجاج: ضرورة الحياة والتواصل
إذن، الحجاج كلٌّ. ولهذا، قلتُ مقولة خاصة بي “الحجاج نحيا به ولا نستطيع أن نحيا بدونه” قياسًا على ما قاله العالم الأمريكي الرائد في اللسانيات المعرفية جورج لايكوف في كتابه الذي أصدره مع عالم النفس بعنوان “الاستعارات التي نحيا بها، ” وقلتُ أيضًا: “الحوار نحيا به” ، فالإنسان كائن حواري بامتياز. عصرنا الآن هو عصر الحوار أمام هذه الصراعات والحروب الحضارية والدينية والثقافية، وصراع الشمال والجنوب، فالكل يدعو للحوار الاجتماعي والحضاري والثقافي. فعصرنا الآن هو عصر الحوار والتواصل والحجاج والإقناع.
واقع الدرس اللساني في العالم العربي
سؤال : ما رأيك في واقع الدرس اللساني في العالم العربي اليوم؟ وما الذي يحتاجه ليتطور؟
الدكتور العزاوي: ما أُنجز في الدرس اللساني في العالم العربي قليل. وهذا القليل الذي أُنجز، معظمه أُنجز في المغرب. ولا أقول هذا لأنني مغربي، لكنها الحقيقة. لقد زرتُ دولًا عربية كثيرة منها العراق ودول أخرى، فوجدتُ أن الدرس اللساني الحديث فيها شبه غائب. المنتشر هو دكتوراه النحو والصرف، وينطبق هذا على ربما سوريا والعراق ومصر ودول كثيرة. المغرب العربي أفضل بكثير من هذه الدول العربية، والمغرب يأتي في المقدمة؛ فرواد الدرس اللساني الحديث مغاربة.
إذا أخذنا الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري، الذي درسني لمدة ثلاث سنوات، فقد كان على اتصال دائم مع تشومسكي ومع أقطاب اللسانيات في أمريكا، وأعتبره رائد اللسانيات التوليدية في العالم العربي. لدينا أستاذ آخر اسمه محمد المتوكل، انتشر في العالم العربي في مجال اللسانيات الوظيفية، وعبد ربه يعتبر هو أيضًا رائد اللسانيات الحجاجية. وكذلك الدكتور طه عبد الرحمن في فلسفة اللغة. فأقطاب اللسانيات الحديثة جلهم موجود في المغرب، والبحوث التي أُنجزت في المغرب طُبع بعضها، وللأسف لم يطبع مجملها، وينبغي أن تُطبع. هناك بحوث جيدة أيضًا في تونس.
ولكن ما أُنجز حتى الآن لا يكفي. فمثلاً، اللسانيات المعرفية، وقد درستها على يد أقطابها من الفرنسيين والبلجيكيين والأمريكان، لأن الأساتذة الفلسطينيين كانوا يستدعون كبار الأسماء. جيل فوكونيي، الذي توفي منذ ثلاث سنوات، درسني أربع سنوات، وهو صاحب نظرية الفضاءات الذهنية ونظرية المزج التصوري، في عام 1988 ذهب إلى سان دييغو في كاليفورنيا بالولايات المتحدة، وبقي هناك حتى اشتهر بشكل رهيب. فإذا ذُكر أقطاب اللسانيات المعرفية (خمسة أو سبعة أسماء)، فهو منهم. وكان يستدعي أصدقاءه من أمريكا أمثال بول كاي، أكبر عالم مختص في ألفاظ الألوان، الذي درسنا سنة كاملة، واستدعى عالمًا بلجيكيًا صاحب نظريات الفضاء في اللغة. لقد درستُ اللسانيات المعرفية على يد أقطابها في فرنسا، وبدأتُ أدرسها ابتداءً من عام 1990، وهناك من يعتبرني أيضًا رائد اللسانيات المعرفية وليس فقط الحجاج. الحجاج الموسع ما كان ليُوجد لولا أنني جمعتُ بين الحجاج اللغوي واللسانيات المعرفية والدلالة التصورية، هذا هو الذي جعلني أوسع، أنتقل من الحجاج اللغوي إلى الحجاج الذهني المعرفي.
احتياجات التطوير
الدكتور العزاوي: واقع الدرس اللساني بحاجة إلى تشجيع. وهناك طاقات جيدة، وطلبة وباحثون يتقنون اللغات الأجنبية، ويقرأون بالإنجليزية والألمانية واللغات الحية، لكنه يحتاج إلى:
- قرار سياسي في الدول العربية لدعم البحث العلمي.
- تمويل ودعم للمشاريع والباحثين.
- تشجيع وتخطيط مدروس للبحث العلمي.
- تواصل كافٍ بين الدول العربية في مجال اللسانيات والمجالات العلمية الأخرى، ينبغي أن يكون هناك تبادل للمعرفة والخبرات.
- تشجيع اللغة العربية وإتقانها، لن تكون هناك لسانيات عربية حقيقية وحديثة إلا إذا كان الباحثون اللسانيون يتقنونها إتقانًا. وإني لأستغرب عندما تُنجز البحوث اللسانية العميقة حول اللغة العربية في “إسرائيل”، وكان الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري يطلبون منه أن ينشر بعض البحوث الجديدة والجيدة عندهم.
إذن، ينبغي أن يكون هناك قرار سياسي، وتنسيق وتخطيط وتعاون، وتمويل وتشجيع للباحثين الذين يتمتعون بقدر كبير من الذكاء ويتقنون اللغات الحية، وإلا فإن واقع الدرس اللساني العربي الحالي يسير ببطء كبير. وينبغي أن يكون لكبار وعلماء اللسانيات العباقرة الكبار مدرسة خاصة بهم. يجب أن يكون هناك خلف للسلف، أخشى إذا مات هؤلاء الكبار أمثال عبد القادر الفاسي الفهري ومحمد المتوكل وطه عبد الرحمن في فلسفة اللغة وآخرون موجودون في دول عربية أخرى، أخشى أن لا يكون هناك خلف بالقدر الكافي والشكل المطلوب. نرجو الله تعالى أن تتحسن الأمور بشكل كبير.
كلمة أخيرة
سؤال: كلمة أخيرة لموقع إسلام أون لاين دكتور.
الدكتور العزاوي: أشكر هذا الموقع إسلام أون لاين، والمشرفين عليه، والذين يعملون فيه، والمتعاونين معه. أشكرهم على هذا اللقاء الطيب لتوضيح عدد من الأمور. لو كان الوقت يتسع، لتطرقنا إلى مشاكل البحث العلمي، وأنا كما يعرف أصدقائي وطلبتي وإخواني لا أهتم فقط بالدرس اللساني أو الدرس الحجاجي، بل أهتم بالتراث والدراسات الإسلامية والبلاغة والبحث العلمي. وقد أنشأتُ عام 1996 الجمعية المغربية لتكامل العلوم، وما زالت قائمة إلى الآن، تنشط أحيانًا وتهدأ أحيانًا. وكان هذا هو الدرس الأول الذي استفدته من دراستي في أوروبا. ومع العلوم المعرفية أصبح تكامل العلوم أمرًا رهيبًا. ومن لا يعمل في إطاره…؟ فأسأل الله أن يوفقهم ويعينهم لتحقيق أهدافهم وما يسعون إليه. والله يوفقنا جميعًا ويهدينا إلى الصواب.