كان موقف أبي بكرٍ رضي الله عنه من المرتدين لا هوادة فيه، ولا مساومة فيه، ولا تنازل، موقفاً ملهماً من الله، يرجع إليه الفضل الأكبر ـ بعد الله تعالى ـ في سلامة هذا الدِّين، وبقائه على نقائه، وصفائه، وأصالته، وقد أقرَّ الجميع، وشهد التَّاريخ بأنَّ أبا بكرٍ قد وقف في مواجهة الردَّة الطَّاغية، ومحاولة نقض عرا الإِسلام عروةً عروةً، موقف الأنبياء والرُّسل في عصورهم، وهذه خلافة النُّبوَّة الَّتي أدَّى أبو بكر حقَّها، واستحقَّ بها ثناء المسلمين، ودعاءهم إِلى أن يرث الله الأرض، وأهلها.

خطَّة الصِّدِّيق لحماية المدينة المنورة

انصرفت وفود القبائل المانعة للزَّكاة من المدينة بعدما رأت عزم الصّدِّيق، وحزمه، وقد خرجت بأمرين:

أ – أنَّ قضية منع الزَّكاة لا تقبل المفاوضة، وأنَّ حكم الإِسلام فيها واضحٌ، ولذلك لا أمل في تنازل خليفة المسلمين عن عزمه، ورأيه، وخاصَّةً بعدما أيَّده المسلمون، وثبتوا على رأيه بعد وضوح الرُّؤية، وظهور الدَّليل.

ب- أنَّه لا بدَّ من اغتنام فرصة ضعف المسلمين ـ كما يظنُّون ـ وقلَّة عددهم لهجومٍ كاسحٍ على المدينة يسقط الحكم الإِسلاميَّ فيها، ويقضي على هذا الدِّين.

قرأ الصِّدِّيق في وجوه القوم ما فيها من الغدر، ورأى فيها الخسَّة، وتفرَّس فيها اللؤم، فقال لأصحابه: إِنَّ الأرض كافرةٌ، وقد رأى وفدهم منكم قلَّةً، وإِنَّكم لا تدرون أليا تؤتون، أم نهاراً! وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم، ونودعهم، وقد أبينا عليهم، ونبذنا إِليهم عهدهم، فاستعدُّوا، وأعدُّوا. ووضع الصِّدِّيق خطَّته على الوجه التَّالي:

1. ألزم أهل المدينة بالمبيت في المسجد؛ حتَّى يكونوا على أكمل استعدادٍ للدِّفاع.

2. نظَّم الحرس الَّذين يقومون على أنقاب المدينة، ويبيتون حولها، حتَّى يدفعوا أيَّ غارةٍ قادمة.

3. عيَّن على الحرس أمراءهم: عليَّ بن أبي طالبٍ، والزُّبير بن العوَّام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاصٍ، وعبد الرحمن بن عوفٍ، وعبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنهم.

4. بعث أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ إِلى مَنْ كان حوله من القبائل الَّتي ثبتت على الإِسلام مِنْ أسلم، وغفار، ومزينة، وأشجع، وجهينة، وكعب يأمرهم بجهاد أهل الردَّة، فاستجابوا له حتَّى امتلأت المدينة المنوَّرة بهم، وكانت معهم الخيل، والجمال الَّتي وضعوها تحت تصرف الصِّدِّيق، وممَّا يدلُّ على كثرة رجال هذه القبائل، وكبر حجم دعمها للصِّدِّيق: أنَّ جهينة وحدها قدمت إِلى الصِّدِّيق في أربعمئةٍ من رجالها، ومعهم الظَّهر والخيل، وساق عمرو بن مرَّة الجهنيُّ مئة بعيرٍ لإِعانة المسلمين، فوزَّعها أبو بكرٍ في النَّاس.

5. ومن ابتعد من المرتدِّين عن المدينة، وأبطأ خطره؛ حاربه بالكتب، يبعث بها إِلى الولاة المسلمين في أقاليمهم، كما كان رسول الله يفعل، يحرِّضهم على النُّهوض لقتال المرتدِّين، ويأمر النَّاس للقيام معهم في هذا الأمر. ومن أمثلة ذلك رسالته لأهل اليمن حيث المرتدة من جنود الأسود العنس؛ الَّتي قال فيها:(أمَّا بعد فأعيونا الأبناء على مَنْ ناوأهم، وحوطوهم، واسمعوا من فيروز، وجدُّوا معه، فإِنِّي قد وليته).

وقد أثمرت هذه الرِّسالة وقام المسلمون من أبناء الفرس بزعامة فيروز يعاونهم إِخوانهم من العرب بشن غارةٍ شعواء على العصاة المارقين حتَّى ردَّ الله كيدهم إِلى نحورهم، وعادت اليمن بالتدرُّج إلى جادَّة الحقِّ.

وأمَّا مَنْ قرب منهم من المدينة، واشتدَّ خطره، كبني عبسٍ، وذبيان؛ فإِنَّه لم ير بدّاً من محاربتهم على الرَّغم من الظُّروف القاسية؛ الَّتي كانت تعيشها مدينة رسول الله(ص)، فكان أن اوى الذَّراري والعيال إلى الحصون والشِّعاب محافظةً عليهم من غدر المرتدِّين، واستعدَّ للنِّزال بنفسه، ورجاله .

فشل أهل الردَّة في غزو المدينة المنورة

بعد ثلاثة أيام من رجوع وفود المرتدِّين طرقت بعض قبائل أسد، وغطفان، وعبس، وذبيان، وبكر المدينة ليلاً، وخلَّفوا بعضهُم بذي حسي؛ ليكونوا لهم ردءاً، وانتبه حرس الأنقاب لذلك، وأرسلوا للصِّدِّيق بالخبر، فأرسل إِليهم أن الزموا أماكنكم! ففعلوا، وخرج في أهل المسجد على النَّواضح إِليهم، فانفش العدوُّ، فاتبعهم المسلمون على إِبلهم، حتَّى بلغوا ذا حُسَى، فخرج عليهم الرِّدْءُ بأنحاء قد نفخوها وجعلوا فيها الحبال ثم ده دهوها بأرجلهم في وجوه الإِبل فتضهده كلُّ نحيٍ في طوله، فنفرت إِبل المسلمين وهم عليها ـ ولا تنفر الإِبل في شيء نفارَها من الأنحاء ـ فعاجت بهم ما يملكونها حتى دخلت بهم المدينة فلم يُصْرَع مسلمٌ ولم يُصَب.

وقال عبد الله اللَّيثي: وكانت بنو عبد مناة من المرتدَّة ـ وهم بنو ذبيان ـ في ذلك الأمر بذي القصَّة، وبذي حُسَى:

طعنا رسولَ الله ما كان بيننا
فيا لعبادِ الله ما لأبي بكر

يورثها بكراً إذا ماتَ بعدَه
وتلكَ لعمرُ الله قاصمةُ الظهر

فهلا ردَدْتمْ وفدنا بزمانه
وهلاَّ خشِيْتُم حس راغية البكر

وان الَّتي سألُوكُمُ فمنعتُمُ
كالتمر أو أحلى إِليَّ من التَّمْرِ

فظنَّ القوم بالمسلمين الوهن، وبعثوا إِلى أهل ذي القصَّة بالخبر، فقدموا عليهم اعتماداً في الَّذين أخبروهم، وهم لا يشعرون لأمر الله عزَّ وجل الَّذي أراده، وأحبَّ أن يبلغه فيهم، فبات أبو بكر ليلته يتهيَّأ، فعبَّى النَّاس، ثمَّ خرج على تعبية من أعجاز ليلته يمشي، وعلى ميمنته النُّعمان بن مُقَرِّن، وعلى ميسرته عبد الله بن مُقَرِّن، وعلى السَّاقة سُويد بن مُقَرِّن معه الرِّكاب، فما طلع الفجر إِلا وهم والعدوُّ في صعيدٍ واحدٍ، فما سمعوا للمسلمين همساً، ولا حسَّاً حتى وضعوا فيهم السُّيوف، فاقتتلوا أعجاز ليلتهم، فما ذرَّ قرن الشَّمس حتَّى ولَّوْهُمُ الأدبار، وغلبوهم على عامَّة ظهرهم، وقُتِل حبالُ ـ أخو طليحة الأسديِّ ـ .

واتبعهم أبو بكر حتَّى نزل بذي القصَّة ـ وكان أوَّل الفتح ـ ووضع بها النُّعمان بن مُقَرِّن في عددٍ، ورجع إِلى المدينة، فذلَّ بها المشركون، فوثب بنو ذبيان، وعبس على من فيهم من المسلمين، فقتلوهم كلَّ قتلة، وفعل مَنْ وراءهم فعلهم، وعزَّ المسلمون بوقعة أبي بكر، وحلف أبو بكر ليقتلنَّ في المشركين كل قتلة، وليقتلنَّ في كلِّ قبيلةٍ بمن قتلوا من المسلمين، وزيادة.

وفي ذلك يقول زياد بن حنظلة التَّميميُّ:

غَداةَ سَعَى أبو بكر إليهمْ
كما يَسْعَى لموْتَتِه جلال
أراح على نَوَاهِقِها عَلِيّاً
ومَجَّ لهُنَّ مُهْجَتَهُ حِبال

وصمَّم الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ على أن ينتقم للمسلمين الشُّهداء، وأن يؤدِّب هؤلاء الحاقدين، ونفذ قسمه، وازداد المسلمون في بقيَّة القبائل ثباتاً على دينهم، وازداد المشركون ذلاًّ، وضعفاً، وهواناً، وبدأت صدقات القبائل تفد على المدينة، فطرقت المدينة صدقات نفر: صفوان، ثمَّ الزبرقان، ثمَّ عديٍّ، صفوان في أوَّل الليل، والثَّاني في وسطه، والثَّالث في آخره.

 


مراجع البحث:

1. أ. د. علي محمّد محمَّد الصَّلاَّبي، الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، دمشق، ص (183 : 185).

2. الطَّبري تاريخ الأمم والملوك، دار الفكر بيروت، الطَّبعة الأولى 1407هـ 1987م، 4/ 64 – 65 – 66.

3. د. علي العتوم، حركة الردَّة، مكتبة الرسالة الحديثة، عمَّان، الطَّبعة الثَّانية، 1997م ، ص74.

4. المقدسي، البدء والتاريخ للمقدسي، تعليق كليمان هوارت ، تقديم محمود اسماعيل ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 5/157.

5. د. مهدي رزق الله، الثَّابتون على الإِسلام أيَّام فتنة الردَّة في عهد الخليفة أبي بكرٍ الصِّدِّيق، دار طيبة، الطَّبعة الأولى، 1417ه،ـ 1996م ص21.

6. النَّدوي، المرتضى سيرة أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب، دار القلم، دمشق، الطَّبعة الثانية 1419هـ 1998م ، ص72.

7. د. يسري محمَّد هاني، تاريخ الدَّعوة إِلى الإِسلام في عهد الخلفاء الرَّاشدين، جامعة أمِّ القرى، معهد البحوث العلميَّة، وإِحياء التراث، الطَّبعة الأولى، 1418هـ ، ص 280.