يواجه الكثير من الناس خاصة المرضى وذويهم، مشكلة سوء خط الأطباء وما يكتبونه لمرضاهم في وصفاتهم الطبية. حيث تبدو كتاباتهم كما لو كانت خربشات طفل يمسك بالقلم لأول مرة، فلا تفهم أين بداية الكلمة وأين نهايتها، كأنها توقيعات بنكية أو رسوم ومنحنيات تحتاج إلى عالم آثار متخصص لفك رموزها و طلاسما، مع أن المطلوب هو الوضوح للبلوغ الهدف الأسمى وهو علاج المريض.
في الحقيقة، ومثلما تختلف الخطوط من شخص لآخر، فإن خطوط الأطباء أيضا تختلف من شخص لآخر، مع أن الجميع يعتقدون أن خط الأطباء واحد، هذا ليس صحيحا أبدا، هناك اختلافات كثيرة. العامل المشترك الوحيد الذي يجمع خطوط الأطباء هو “السوء”، أن خطوطهم على اختلافها وتنوعها هي سيئة للغاية.
فما هي الأسباب التي تقف وراء سوء خط الأطباء؟ هل الأمر صيت علم أم صيت جهل؟ هل يعتقد الأطباء أن مهنتهم أسمى وأرفع من غيرها لدرجة إخفاء أبجدياتها؟ هل الأمر طبيعي إلى هذا الحد وكأن جزءا من سمعة الطبيب هو خطه السيئ؟ هل حالة سوء الخط عن الطبيب نفسية أو علمية أو عملية؟ هل هي عادة سيئة وميل للغموض والتخفي؟ أم هي إصرار مع سبق الترصد على ارتكاب الخطأ دون حساب للعواقب؟ وماهي العواقب ياترى؟ وهل هناك هناك حل لهذه المعظلة؟
وصفات طبية أم خربشات أطفال؟
خربشات الأطباء تختلف وتتنوع، فبعضها يملك الأشكال الدائرية وبعضها أشبه بخط ممدود مع بعض المنحنيات، والبعض عبارة عن خربشات متصلة ببعضها البعض منذ بداية الوصفة وحتى نهايتها. والغريب أنك لا تفرق في ثنايا هذه الأسطر بين الحرف والرقم والرمز، الكل متداخل في بعضه كما لو كان محلولا طبيا أو لقاحا لا يمكن فك رموزه والكشف عن مكوناته إلا من خلال أجهزة متطورة للغاية.
إذا أخذت يوما وصفة طبية مكتوبة بخط اليد من طبيبك أو نظرت إلى ملاحظاته في أثناء زيارتك، فالغالب ألا يساعدك التحديق المطول على محاولة زيادة وضوح الحروف أو حتى على معرفة بداية الكلمة ونهايتها. فلا تتعب نفسك في محاولة قراءة وصفة أي طبيب لأنك لن تفلح.
ما يكتبه الطبيب لا يقرأه إلا الصيدلي
عادة ما يكون خط الأطباء طلاسم لا يحل ألغازها إلا الصيادلة، وقد يحدث – وهذا نادرجدا – أن الصيادلة أنفسهم، بل وحتى بعض الأطباء، لا يتمكنون من قراءة وصفات بعضهم، خاصة إذا كان الاختصاص الطبي مختلفا، أو كان أصل الطبيب من بلد والصيدلي من بلد آخر. وكأن الأمر مرتبط بـ “كود سري” متفق عليه ضمن بيئة طبية أو استشفائية معينة.
وربما يتدخل عامل آخر في عدم القدرة على قراءة خط الأطباء بين بلد وآخر، حتى وإن تمت الكتابة بنفس الوصفة، وهو التداخل الكبير في تسميات الأدوية، فقد يكون الحديث عن نفس الدواء، لكن تسميته تختلف من جهة لأخرى، بحكم ميل مصنعي الأدوية إلى ضرورة الاختلاف لأسباب تجارية وترويجية، وأسباب أخرى لها علاقة بالبحوث العلمية والاكتشافات.
الخط القاتل
للأسف الشديد، فإن نتيجة “الندرة” – البسيطة – التي تحدثنا عنها، والمتعلقة بعجز حتى الصايدلة في قراءة وصفات الأطباء، تشير بعض الإحصائيات غير الرسمية أن بسبب الخط السيء والغير مقروء تحدث أكثر من عشرة آلاف وفاة سنويا كأخطاء بصرف الدواء ، بل أن المعهد الطبي في واشنطن ذكر أن خط الأطباء يتسبب بموت سبعة آلاف أمريكي سنويا بسبب عدم وضوح الوصفة الطبية. لكن هذه الدراسة قد لا تعبر بشكل دقيق عن الواقع؛ لأن الدراسات التي تحاول رصد تأثير هذا الخط السيئ شبه معدومة.
ومع ذلك تحدُث الكثير من الأمور في بعض الدول، بسبب الأخطاء في قراءة وصفات الأطباء، ففي إحدى الدول أصدرت المحكمة قرارا يلزم الطبيب قانونيا بالكتابة بخط واضح، وذلك بعد دعوى قضائية رفعها مريض على طبيبه عقب إصابته بضرر دماغي، لأن الصيدلي خلط بين عقار وآخر بسبب رداءة خط الطبيب.
ووفقا لدراسة معهد واشنطن، قد يشعر الناس بالخطر عند إخبارهم بعدد الوصفات الدوائية التي يتم ملؤها كل عام لمقارنتها بعدد الأخطاء. الرقم مرعب لدرجة أن صحيفة “التايمز”نقلت تشبيها مرعبا للقضية: نقلا عن الدكتور لوسيان ليب من جامعة هارفارد، وهو مؤلف مشارك في الدراسة، حيث لاحظت التايمز أن عدد القتلى بسبب دواء خاطئ هو نفسه كما لو أن طائرة ضخمة جدا محملة تحطمت كل يومين.
الدراسة كشفت عن أسباب عدة بينها ضيقُ حجم ومساحة الورقة التي يكتب عليها الطبيب وصفته، أما السبب الآخر فمرتبط بازدحام مواعيد الطبيب، ما يجعله يكتب الدواء بسرعة مع التركيز على توضيح الأحرف الأولى المميزة للدواء، دون غيرها.
أما السبب الثالث فعزته الدراسة، لإدراك الأطباء بأن الخط سيحفظ في ملفات، ولن يعودوا لينظروا إليه مرة أخرى.
وكشفت الدراسة أن نصف مليون شخص يعانون من إصابات سنوية في الولايات المتحدة فقط، بسبب الدواء الخطأ.في حين أثبتت ان نسبة الخطأ في شراء الدواء بناء على وصفة مقدمة عبر البريد الالكتروني لا تتعدى 10%.
10 أسباب وراء خط الأطباء السيء
الأكيد أن هناك أسباب تقف وراء خط الأطباء السيء، هناك أسباب موضوعية وهناك أسباب ذاتية، كما هناك تبريرات لا أصل لها، كمن يعد الأمر وراثيا. وعموما هذه مجمل الأسباب التي تجعل خط الأطباء بهذا السوء:
- خلال مرحلة تكوين الأطباء، طلية الطب مطالبون بكتابة دروس طويلة جدا وبسرعة، وهو ما يجعلهم مع مرور الوقت يختصرون الكلمات ويكتبونها بشكل يفهمونه فيما بينهم. فمن الجامعة كطالب طب يكبر الطبيب أثناء تدوين الملاحظات والاختبارات بسرعة في الكلية، ويكبر معه تدهور مهارته الكتابية.
- الطبيب ليس بحاجة للكتابة بشكل واضح! والخط المنمق أمر عديم الأهمية، كما أن كثيرون لا يقوون على قراءة خط غيرهم، وليس الاطباء فقط.
- كثرة التقارير والأعمال الورقية، حيث يوقع الطبيب خلال عمله (8ساعات) من 50 إلى 100مرة.
- يدرك الطبيب أن من سيقرأ وصفته هو الصيدلي أو الأطباء مثله، و ليس عامة الناس، فهو يعلم أنهم على دراية بخطوط بعضهم و معرفة ما يقصده من أسماء للأدوية و جرعات العلاج.
- التوتر في العمل وكثرة التفكير يجعلان الطبيب غير مهتم بشكل ما يكتبه. بالعمل الهائل والمرهق يؤثر على التحكم في الخط.
- التسرع ومحاربة الوقت، فالطبيب عادة ما يأخذ وقتا قصيرا مع المريض، وبالتالي لا يمكنه التباطؤ وإعطاء يديه قسطا من الراحة، فهو يهرع من مريض لآخر.
- المصطلحات التي يتعامل معها الأطباء تتناسب مع خط اليد السيء، مثلا: تخيل محاولة كتابة Epididymitis التي تعني التهاب البربخ، فهو بحاجة أحيانا لخربشة لتغطية الخطأ! كما يلجأ لبعض الرموز المتعارف عليها بدل كتابة كلمات طويلة، وهو يعلم أن الصيدلي سوف يعرف بالضبط ما يعنيه الطبيب.
- الأمر له علاقة بذهن الطبيب والصيدلي، الأطباء يتعلمون دائماً، يقرأون ويقرأون، هنالك الكثير من المعلومات المستمرة في أذهانهم في كل وقت، لذلك عندما يكتبون، يمكن أن يفكروا في الموضوع التالي دون أن يكملوا ما يكتبون عنه، وهكذا، تبدو الكتابة مستعجلة للقارئ.
- محاولة قولبة الكتابة على الرغبة التي يريدها الأطباء الممارسون الأكبر فيلجأ الطبيب المختص لتقليد “شخبطة” الجمل والمصطلحات من هؤلاء الأطباء الأكثر رتبة منه ويحاول أن يتعلم الجمل المتعاقد عليها والمألوفة المتداولة حوله في وسط المستشفى بخط سيء منهم منذ البداية.
- يحاول الطبيب الذي ما زال في بداية اختصاصه مواكبة الوتيرة التي يلقي بها الأطباء تقارير المختبر والوصفات الطبية لملئها، عليه أن يكون بسرعة البرق، يجب عليه نسخ أسماء الأدوية وأوامر العلاج التي كتبها الأطباء بسرعة مذهلة.
الحل الإلكتروني
يجمع الكثيرون أن أفضل حل هذه المشكلة هو إستخدام الوصفات الطبية الإلكترونية E-Prescribing التي تسهم في حماية المريض و سلامته. لكن هذا الحل قد لا يكون متاحا لكل الأطباء في العالم، هناك مؤسسات صحية في بعض الدول لا تتوفر حتى على أوراق الوصفات التي يكتب عليها الأطباء “خربشاتهم”.
من ناحية أخرى، يحاول بعض الأطباء علاج المشكلة علاجا تلطيفيا بأن يستخدموا الحروف الكبيرة لجعل كتابتهم أكثر وضوحا، لكن العديد من الأطباء يتجهون نحو السجلات الطبية الإلكترونية لخفض أخطاء المصطلحات “المهروسة” في خطهم اليدوي، حتى لو أنها كانت لتوصف من قبل الصيدلي بوصفة طبية صحيحة وإعطاء المريض أدويته التي وصفها الطبيب.
بالمقابل، أصدرت بعض الدول قانونا يحتم على الأطباء إرسال الوصفات الطبية إلكترونيا بدلا من الوصفات المكتوبة بخط اليد، وبينما يتفق الأطباء على أن هذا الحل يبدو كفرصة أقل للخطأ، تظهر المشكلة بشكل أخطر للمفارقة، فكتابة كل شيء إلكترونيا ليس مثاليا أيضا، فلا يزال هناك احتمال للخطأ، على سبيل المثال كتابة 30 بدلاً من 300، وهذه الرقم الناقص هنا أخطر من وجوده في وصفة طبية مكتوبة باليد، فهنا ليس هناك مساحة لتأويل منطقي من قبل الصيدلي للخط السيء البشري، فقد يصرف الوصفة الإلكترونية الخاطئة دون أن ينتبه، لأن في ذهنه مسبقا الوصفة الإلكترونية لا تخطئ!
لديك خط سيء..تهانينا ستصبح طبيبا
أثبتت العديد من الدراسات، أنه ليس “وراثيا” على الاطلاق أن الأشخاص الذين يعانون من خط اليد السيء ينجذبون إلى المجال الطبي، تقول روث بروكاتو، الحاصلة على دكتوراه في الطب، أن المفارقة العجيبة في حياتها هي أنها انتقلت من الفوز بجائزة فن الخط في المدرسة الابتدائية إلى نص غير مقروء تماما على وصفاتها الطبية الآن. وتعترف الدكتورة بروكاتو قائلة “أعلم أن الآخرين يواجهون صعوبة في فك رموز ملاحظاتي..أنا أيضا أحاول عادة قراءة كتاباتي الخاصة!!”.
الحقيقة أن الأطباء حريصون للغاية عندما يتعلق الأمر بالوصفات الطبية التي يمكن أن تترتب عليها نتائج خاطئة بالغة الخطورة، على سبيل المثال، بدلا من كتابة “mg” أو “mcg”، تم تشجيع الأطباء على كتابة “milligram” أو”microgram”، فعندما يكون الأمر متعلق بجرعة مائة ضعف ما تكتبه، فالطبيب حريص للغاية بما يقوم بكتابته. فهذه الهوامش الكتابية الدقيقة السابقة في الجرعات تحدث فرقا.