لفريضة الحج، ركن الإسلام الخامس، عدة خصائص تميزها عن باقي فرائض الإسلام، وتعطيها مكانة خاصة؛ ومن أهم هذه الخصائص أنها عبادة العمر، وعبادة الأنبياء، وعبادة الأمة، وعبادة جامعة، وعبادة تذكر بالسفر الأخير إلى الدار الآخرة.
ماهي خصائص ركن الإسلام الخامس ؟
إنها حقا فريضة ذات مكانة مميزة، وعلى قدر ما فيها من تعب ومشقة فإنها باب واسع لمغفرة الذنوب، ورفعة الدرجات، ونيل رضا الرحمن سبحانه وتعالى. كما أنها عبادة تَصِلُ التاريخَ بالحاضر، وتجعلنا في قلب مسيرةٍ ابتدأها نبي الله إبراهيم، ثم جددها خاتم الأنبياء محمد عليهما الصلاة والسلام، ثم يتتابع عليها المؤمنون من بعد ذلك؛ يُلبّون النداء، ويَحثّون الخُطَا.
عبادة العمر
نعم.. إنها عبادة العمر، قد افترضها الله تعالى على المسلم مرة واحدة طول حياته، لما فيها من سفر وتعب ومشقة. وهذه خصيصة لهذا الركن الخامس. فبينما فريضة الصلاة تتكرر في اليوم خمس مرات، وفريضتا الصوم والزكاة تتكرران كل عام، فإن فريضة ركن الإسلام الخامس واجبة على المسلم مرة في العمر متى توافرت له القدرة البدنية والمالية.
وهذه الخصيصة تجعل لـ ركن الإسلام الخامس معنى يميزه عن سائر العبادات؛ فغالبًا لا يستطيع المسلم أن يحج إلا بعد سنوات معينة من عمره، يكون فيها قد استوفى شروط الحج وموجباته؛ فتأتي هذه العبادة العظيمة كأنها هدية من الله تعالى للإنسان في رحلة حياته، ويظل أثرها باقيًا في روح المؤمن ونفسه، يحدوه الشوق إلى تكرارها مرات ومرات.
عبادة الأنبياء
الحج – ركن الإسلام الخامس – عبادة الأنبياء، يذكّرنا بأبينا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام وهما يرفعان القواعد من البيت، بعد أن عاش إسماعيل وأمه هاجر فترة من الزمن في هذا المكان الذي لا زرع فيه ولا ماء، وقد تركهما إبراهيم لرعاية الله ومعونته.
في (صحيح البخاري) من حديث ابن عباس:
- “أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ [ما يُشَدُّ به الوسط] مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا [لتجره على الأرض وتخفي أثرها] عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ، فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا،
- فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ؟
- فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا،
- فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟
- قَالَ نَعَمْ،
- قَالَتْ: إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ،
- وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37).
فبهذه العبادة نتذكر حياة الأنبياء حول هذا البيت، وما في قصصهم من عبرة وعظة؛ من التوكل على الله، والامتثال لأمره، والثقة فيما عنده سبحانه، ثم الصبر على المشاقِّ، والتضحية بالنفس وبكل عزيز.. وشعارنا: “إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا”.
ثم جاءت حياة النبي محمد ﷺ شاهدة على هذا البيت الحرام، وتدور حوله في الكثير من أحداثها.. ونحن نتذكر كل ذلك في عبادة الحج.
عبادة الأمة
الحج عبادة الأمة؛ لأن فيها تجتمع الأمة بما لا تجتمع في غيرها من العبادات.. يأتي الحجيج من كل فج عميق، وبكل لسان ولون.. الأبيض يجاور الأسود، والعربي يلتقي الأعجمي، والغني لا يتميز عن الفقير.. تختلف الألسن، ويتوحد النداء والتلبية.. تتعدد الألوان واللغات، وتتوحد المشاعر والقلوب..
وإذا أردنا عبادة تكون عنوانًا على الأمة ووحدتها وتنوعها وترامي أطرافها، فعبادة ركن الإسلام الخامس هي خير ما يمثل ذلك، وهي فرصة لأن تشعر الأمة بهذه الوحدة، وينتقل هذا الشعور من العاطفة إلى الخطوات العملية؛ حيث التعارف، وتشارك الأحوال والهموم، وتدارس المشكلات والتحديات. {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92). {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون: 52).
عبادة جامعة
نلاحظ أن بعض العبادات يغلب عليها جانب الحركة، مثل الصلاة؛ ففيها قيام وركوع وسجود.. وبعض العبادات يظهر فيها جانب المال، مثل الزكاة؛ فهي عبادة مالية بالأساس.. وبعضها قد يجمع بين أكثر من أمر؛ مثل عبادة الحج.
فالحج فيه توحيد وتلبية، وفيه صلاة، وفيه إنفاق بما يشبه الزكاة، وفيه امتناع عن بعض المباحات بما يشبه الصيام. وفيه أيضًا جهاد للنفس وسفر وتضحية ومشي وجهد بدني..
إنه عبادة جامعة؛ تجمع بين أعمال القلب والجوارح وإنفاق المال وتحمل المشاقِّ.. وعلى قدر ذلك، يكون الأجر الجزيل من الله تعالى.
وفي (المعجم الأوسط) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ حَاجًّا بِنَفَقَةٍ طَيِّبَةٍ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ، فَنَادَى: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، زَادُكَ حَلَالٌ، وَرَاحِلَتُكَ حَلَالٌ، وَحَجُّكُ مَبْرُورٌ غَيْرُ مَأْزُورٍ، وَإِذَا خَرَجَ بِالنَّفَقَةِ الْخَبِيثَةِ، فَوَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ، فَنَادَى: لَبَّيْكَ، نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ، زَادُكَ حَرَامٌ وَنَفَقَتُكَ حَرَامٌ، وَحَجُّكَ غَيْرُ مَبْرُورٍ».
عبادة السفر
من خصائص فريضة الحج – ركن الإسلام الخامس – أنه عبادة تستلزم السفر، وبما يُذكِّر بالسفر الأخير حين يستنفد الإنسان أجله، ويستوفي ما قدره الله له من المأكل والمشرب والبقاء في هذه الحياة. بل إن ملابس الإحرام تشبه ما يلبسه المرء في سفره الأخير!
وكل ذلك إنما يذكِّر الإنسان بما لا مفر منه، وينبِّهه إلى ضرورة الإعداد والاستعداد. فـ:{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: 38)، و:{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (النساء: 78).
إذن، بهذه الخصائص الخمس، يتبين لنا أن عبادة الحج لها مكانة متميزة من بين عبادات الإسلام؛ بما فيها من تنوع في العمل القلبي والبدني والمالي.. وما فيها من اجتماع للأمة من كل فج عميق.. وما فيها من تذكيرٍ بِسِيَرِ الأنبياء وتضحياتهم.. إلى غير ذلك من معانٍ نحن بحاجة لتذكرها دائمًا، لاسيما في موسم الحج.