{يا أيها المزمل (1) قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا} [المزمل: 1-4]

نداءٌ عظيمٌ بمدٍ طويلٍ والحبيبُ قريبُ … أي لطفٍ وأي أمانةٍ وأي سندٍ متلفف به يا رسول الله.

السر الأول المد المنفصل

اسْتُهِلت السورة بنداءٍ نادى الوجدان ليستحضر سرًّا من أسرار الفرقان وأول سرٍّ في مدٍّ مُشْبَعٍ بِرَوْحٍ وريحانِ. هو مد منفصل فكيف سيكون متصلاً، أليس المعبود من فوق سبع سمواتٍ طباقاً…والعابد في ظلمةٍ وصمتٍ من ليلٍ انطبق عليه انطباقاً ؟

بلى، غير أنه ولو جرى النداء طويلا ولو وجبت الحركات الستّ التَّرتيل ..فتاء المتزمل اِلْتَفَتَتْ إلى الزاي وأُدْغِمَت وتلك وربي أعظم بشرى.

  1. إليك المشهد الرّباني ربّ ينادي عبده وبيده لو شاء أن يرفعه لرفعه، بل أنزل إليه وحيا وهو مقرور متلفف، ألم يَثْبُتْ عنه صلوات ربي أنه كان يستقبل الوحي فيتفصد عرقًا …فأين صار المزمل؟ تلك واحدة.
  2. أما الثانية:  تمهيد وترفق بالحبيب في صورته وهو مُدَّثِرٌ فخُفِفت الكلمة من تائِها وشُدِّدت الزاي والميم منها، فكسرت قانون الزّمان والمكان، فقد جئناك هرولة …أليست الصّلاة وقوفًا بين يدي المنان فبشراك بشراك …فما حجمك أيّها الإنسان وقد انصات بك الزّمان، فيا أيّها المزمل أحسن السماع لهذا البيان ومن هنا إخراج الميم تصّدر هذا المقام.
  3. أما الثالثة: القرب سَنَدٌ والقرب اطمئنان، ناداه فأتاه، فجاءت الشّدة والوقوف بِزَمَنٍ على الميم إِدْخالاً للمُتلقي وتهيئته لتحمُّل المهمّة، فلو كانت خفيفة الشأن ما خرت الرّواسي من حملها.

السرُّ الثاني وهو القيام

أمّا السرُّ الثاني ألا وهو القيام: ألم يُجعل النّهار معاشًا والليل سباتًا؟ كيف والأمر للوجوب قطعا إلا قليلا ؟ فيا متدبر الآي استمع فقد قال: “قليلا… قليلا“.

تستشعر وأنت تقرأ آيتين مختومتين ب: “قليلا ..قليلا” رحمة تتنزل، فالليل كلٌ والقليل جزءٌ، وجزءٌ مع جزءٍ يشطر الكلّ، فكيف وقد قال: “انقص منه قليلا” فصار نصفٌ إلا قليلا، فتلكم رخصةٌ من عزيمةٍ هذا من جهة. أما من جهة أخرى التّكرار اللّفظي ” قليلا…قليلا” ألا تنس نصيبك من الدنيا.

السرّ الثالث مد الصّلة الكبرى

  أما السرّ الثالث: مد الصّلة الكبرى فكان حتما أن لها  سرًّا يتوارى بين الأحرف فَلَزِمَ من ذلك البيان:

 فمدُّ الصِّلة هذا عَدّلَ كفَّ الميزان، فما نَقُصَ باليمين، زاد بالشمال فتدبر معي هذا الجمال.

مد الصلة الكبرى: هو توسط هاء الضمير الغائب المفرد متحركين، شرط أن يكون المتحرك الثاني همزا، فتمدُّ ست حركاتٍ وجوبًا. وهنا تتجلى رؤى، كيف كنز حكم من أحكام القرآن تشريعاتٍ معًا، وكيف اصْطَفَتِ المعاني وترابطت لتصل إلى لُبِّ المقصد، فلا تفْصل السنَّة عن منبعها ولا تخوض في المعاني دون أن تدرك المباني.

  • لفظ “صلة” كأنها توثق صلة العبد بربه “العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر” (سنن الترميذي)[1] فما بين الكفر والاسلام صراط منجي ألا وهو إقامة الصلاة، فلما كان السّياق حول صلاة الليل جاءت كلمة “الكبرى” لِتُفَصِّلَ أكثر.
  • فلفظ “الكبرى “: كأنه يوحي الى التماس الأجر الأعظم “أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ الصَّلَاةُ في جَوْفِ اللَّيْلِ” (صحيح مسلم)  وكفى بالعبد أن يطرق اسمه باب السماوات “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7] فلها فضلٌ وخيرٌ ووعدٌ مسطورٌ في الآيات.
  • “تتوسط متحركين، شرط أن يكون المتحرك الثاني همزا”: وهنا بيان لوقت أدائها، فان كانت تتوسط متحركين فمن باب أولى أنها تقام وقت سكون الليل” وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ” [النبأ: 10] فلا يغتنمها إلا عباد الرّحمان ومن اصطفى.
  • ” المتحركين”: وكأنها تقول الحركتان: حركة العبد لصلاة “العشاء” حركة العبد لصلاة ” الفجر” وما بينهما وقت للسكون وهذا مصداقا لقوله صلوات ربي عليه :  “أفضل الساعات جوف الليل الأخير” (صحيح الجامع)[2]
  • أما “الهمز” فمنه ولادة الفجر، مصداقا لقوله تعالى:”حَتَّى يَتَبَيَّن لَكُمُ الخَيطُ الأبيضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ” [البقرة 187]

فانظر معي لخلاصة هذه الأحكام:

وقتها: “بين بين” من بعد صلاة العشاء وقبل طلوع الفجر.

مقدارها: الصلوات خمس بالنّهار وسادسها حينما يكون الناس نياما. 

حكمها : سنة مؤكدة 

فسبحان من أنزل هذا النظم وأعجز به كل بليغ