في هذا المقال، سنتناول موضوعًا هامًا جدًا في حياة كل إنسان اختيار الزوجة الصالحة: إن الله تعالى قد أودع في الإنسان مجموعة من الغرائز الطبيعية، ورسم له الطريق الصحيح الذي يمكنه من الاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا، مع الوقوف عند حدود الله تعالى والقيام بمهمته في عمارة الأرض. ومن هذه الغرائز الميل إلى الجنس الآخر.
نظر الإسلام إلى هذا الميل ووضعه في إطاره النافع للإنسان والإنسانية؛ فجعل منه سنة من سنن الأنبياء ووسيلة للقرب من الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]. وعندما أراد النبي ﷺ أن يعلن عن هديه للشباب الذين أرادوا الترهب قال: “وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ”[1]، وجعل ذلك من السنة التي يُطرد من أعرض عنها من رحاب أتباع النبي ﷺ: “فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي”[2]. وفهم العلماء من خلال النصوص أن حفظ النسل هو أحد مقاصد الشرائع السماوية.
اختيار الزوجة
لتحقيق هذه الغاية النبيلة، لا بد من حسن اختيار الزوجة الذي يدل على نضج العقل وسلامة الدين. فالحكماء يقولون: “اختيار المرء قطعة من عقله”، ويمكن أن نضيف: ومن دينه.
في الرجال والنساء صفات حميدة وأخلاق طيبة، والباحثون عن الجمال والكمال البشري الممكن يدركون أن هؤلاء كالدر يحتاج إلى غواص. وقد يرزق الله تعالى عبده – من حيث لا يحتسب – بامرأة تجمع بين حسن الظاهر والباطن والجسد والروح، ولا حرج على فضل الله تعالى. وقد يجدها آخر بعد دعاء وعناء وطول بحث وسؤال وصبر وإصرار على اختيار الأفضل، مع يقينه الكامل بأن أمور البشر مبنية على النقص وأن الكمال عزيز.
ومن هؤلاء خالد بن صفوان، الذي طلب مواصفات خاصة في من يتزوجها فقال: “أريدها بكرا كثيبًا وثيبا كبكر، حلوة من قريب، فخمة من بعيد، كانت في نعمة فأصابتها فاقة، فمعها أدب النعمة وذل الحاجة. فإذا اجتمعنا كنا أهل دنيا، وإذا افترقنا كنا أهل آخرة”. فردت عليه الخاطبة: “لقد أصبتها لك”، قال: “أين هي؟” قالت: “في الرفيق الأعلى من الجنة، فاعمل لها”.[3]
آخرون يملون بعد قليل أو كثير من البحث عن من تناسبه من النساء، فيختار بعد طول حيرة أول امرأة تقابله دون النظر في وقوع التناسب بينهما من عدمه.
ما الطريقة المثلى في اختيار الزوجة الصالحة؟
بعض الناس يختارون دون أن يكون في ذهنهم مواصفات واضحة بمن سيتزوجون، وآخرون يعرفون المواصفات التي يبحث عنها الناس جميعًا، لكنهم لم يكتشفوا بعد أي هذه المواصفات هم أحوج إلى وجودها في الطرف الآخر. وحتى يكون الاختيار أقرب إلى الصواب:
ينبغي أن نستحضر هذه العبارة التي تكتب في عقود البيع والإجارة: “عاين المتبايعين المبيع المعاينة النافية للجهالة”. هذا الأمر شرط في صحة العقد، لكنه يغيب كثيرًا في عقود الزواج، فلم يعاين كل طرف الآخر من حيث دينه وأخلاقه وسلامته النفسية والعقلية والجسدية. وهذه الأمور تحتاج إلى شراكة الأسرة، فلكل فرد من أسرة الزوجين رؤيته وخبرته. فإذا بحث الجميع في صلاحية المتقدم للخطبة وفي صلاحية المخطوبة، كان الرأي الذي يصلون إليه أقرب إلى الصواب، وذلك طبعًا مع مراعاة رأي الشاب والفتاة. يتعاون الجميع في اكتشاف هذه الشخصية الجديدة، ومع نية الخير والاجتهاد في اكتشاف التناسب بين الزوجين يأتي توفيق الله تعالى.
هذا الزواج هو ارتباط بين شخصين وأسرتين كذلك. وربما يتوهم متوهم أن حالة التقاطع وانشغال كل أمرئ بنفسه يجعلنا نغض الطرف عن ما نراه في كل أسرة من عيوب تضر بمصلحة الزوجين، وأن نكتفي بصفات الزوجين فحسب وما بينهما من حب. وهذا الظن تكشف الأيام عن خطئه، فلابد أن يلتقي الزوج بأسرة زوجته على الأقل في المناسبات، وسيحتاج إليهم بكل تأكيد عند حدوث خلاف بينه وبين زوجته. فإذا كانت الأسرة صالحة ستضيق مساحة الاختلاف بين الزوجين وسيجد الود طريقه في أقرب وقت. بينما في الحالة التي لا تتحلى فيها أسرة الزوجين بمكارم الأخلاق، سنجد الخلاف يتسع ليصل إلى الشقاق ثم الطلاق في أشنع صوره؛ بحيث لا يُحافظ على سر، ولا يُتذكر معروف كان بين الزوجين أو الأسرتين.
اختيار المرأة أو وليها للزوج
الذي اعتاده الناس أن يبحث الرجل عن المرأة وأن يطلبها للزواج. وكثيرًا ما يرى الناس أن طلب ولي الفتاة تصريحًا أو تلميحًا لرجل يراه كفؤًا لابنته يصونها ويكرمها، عيب كبير. وهؤلاء لا يعلمون أو يعرضون عن هداية القرآن وما كان من شأن خيار الناس وأهل مكارم الأخلاق. قال شعيب: { ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾ [القصص: 27] ، قال ابن عاشور: “وَفِيهِ جَوَازُ عَرْضِ الرَّجُلِ مَوْلَاتِهِ [من هي تحت ولايته] عَلَى مَنْ يَتَزَوَّجُهَا رَغْبَةً فِي صَلَاحِهِ”.[4]
وقد سار على هذا النهج الصالحون في مختلف العصور. فهذه خديجة، سيدة نساء العالمين، العاقلة الشريفة التي يسعى أشراف قريش للزواج منها لو رضيت. تسمع عن حسن أخلاق النبي ﷺ، فتحبه وترسل له صديقتها نفيسة بنت منبه لتفاتحه في أمر الزواج من خديجة. وقد بنت اختيارها على ما عرفت وعرف غيرها من مكارم أخلاق النبي ﷺومهارته في التجارة. لكن لا يقدر طلب المرأة أو وليها للزواج إلا أصحاب المعدن النفيس، وعلى من يصنع ذلك أن يتخير ويختبر قبل أن يعلن عن رغبته.
لماذا الزوجة الصالحة؟
كثيرة هي المتع التي أنعم الله تعالى بها على بني آدم. وإذا فتشنا فيها وجدنا خيرها كما قال ﷺ: “الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ”.[5]
وفي الحديث دعوة للبحث عن المرأة الصالحة: “وَصَلَاح الْمَرْأَة دينهَا، وصاحبة الدّين تجتنب الأنجاس والأوساخ، وتحسن أخلاقها، وتصبر على جفَاء زَوجهَا وَقلة نَفَقَته، وَلَا تخونه فِي مَاله[6]“.
تُعينه على القيام بالأمور الدنيوية والدينية[7]، و”يتلذَّذُ منها، وتكون له سكنًا وأنيسًا، وتحفظ عينه وفرجه من الحرام، وتُعينه على دينه بأن تمنعه عن الكَلِّ [الملل] في الطاعات، ويحصل له منها أولاد يطيعون الله، وتزيد بهم أمة محمد – ﷺ –[8]. وكل لذة أعانت على لذات الآخرة فهي محبوبة مرضية لله، فصاحبها يلتذ بها من جهة تنعمه وقرة عينه بها، ومن وجهة إيصالها له إلى مرضاة ربه وإيصاله إلى لذة أكمل منها”[9]. فأيُّ متاع من أمتعة الدنيا يكون نفعه مثل نفع المرأة الصالحة؟[10]
صفات الزوجة الصالحة
الحديث عن صفات الزوجة الصالحة يستدعي الحديث عن صفات الزوج الصالح. وكل خلق حميد أو مهارة لأحد الزوجين ينتفع به الآخر. ويمكن أن نذكر أهم الصفات فيما يلي:
1- من تحقق السكن، وهو الغاية من الزواج: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21] وليس لتسكنوا معها.
2- ذات الدين، وهي التي يحملها دينها على الخير ومقابلة الإحسان بالإحسان ودفع السيئة بالتي هي أحسن. يردها دينها إذا أخطأت، وتعِين زوجها على طاعة الله تعالى من خلال قناعتها بما رزقهما الله، ومن خلال طموحها للأفضل، لكن هذا الطموح لا يطغى على ما شرعه الله تعالى، وأن تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر.
3- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ مَا يُكْنَزُ؟ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ”.[11]
4- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ”[12]. اتصفت صالح نساء قريش بكثرة الحنان على الولد وحسن الرعاية لمال الزوج، فلا ترهقه بطلباتها.
5- “تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ[13]، وَالْوَدُودُ الْمَحْبُوبَةُ بِكَثْرَةِ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَالتَّحَبُّبِ إِلَى زَوْجِهَا”[14]. والمرأة العنيدة ليست من الود في شيء، وودها لكل الناس إلا لزوجها.
أثر اختيار الزوجة الصالحة
المرأة الصالحة والرجل الصالح يؤثر كل منهما في الآخر من ناحية الصحة النفسية والجسدية، ومن ناحية التزام الإنسان بقيم الإسلام وتعاليمه. فكم من زواج ساهمت المرأة في صناعة مجد الرجل، وكانت له نعم السند والدعم، بل ربما هي التي دعته أن يجد له مكانًا في القمة حيث يجلس أصحاب الهمم العالية. وكم من زوجة حطمت آمال زوجها وجعلته محصورًا في دائرة ضيقة، يتأسف على حاله كلما رأى رفاقه الذين بدأ معهم رحلة حياته. بل كثيرًا ما يدفعه تطلع هذه المرأة لما في يد الناس، وعجزه عن الحصول على المال من طريق حلال، أن يأكل الحرام وأن يطعمها منه. ومع ذلك لا ترضى هي، ولا يستريح هو.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيّ: “وَقَفْتُ عَلَى بَزَّازٍ [تاجر ثياب] بِمَكَّةَ أَشْتَرِي مِنْهُ ثَوْبًا، فَجَعَلَ يَمْدَحُ وَيَحْلِفُ، فَتَرَكْتُهُ وَقُلْتُ: لا يَنْبَغِي الشِّرَاءُ مِنْ مِثْلِهِ، وَاشْتَرَيْتُ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ حَجَجْتُ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَنَتَيْنِ، فَوَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ أَسْمَعْهُ يَمْدَحُ وَلا يَحْلِفُ. فَقُلْتُ لَهُ: أَلَسْتَ الرَّجُلَ الَّذِي وَقَفْتُ عَلَيْهِ مُنْذُ سَنَوَاتٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ لَهُ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَخْرَجَكَ إِلَى مَا أَرَى؟ مَا أَرَاكَ تَمْدَحُ وَلا تَحْلِفُ! فَقَالَ: كَانَتْ لِيَ امْرَأَةٌ إِنْ جِئْتُهَا بِقَلِيلٍ نَزَرَتْهُ، وَإِنْ جِئْتُهَا بِكَثِيرٍ قَلَّلَتْهُ، فَنَظَرَ اللهُ إِلَيَّ فَأَمَاتَهَا، فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً بَعْدَهَا، فَإِذَا أَرَدْتُ الْغُدُوَّ إِلَى السُّوقِ أَخَذَتْ بِمَجَامِعِ ثِيَابِي ثُمَّ قَالَتْ: يَا فُلانُ! اتَّقِ اللهَ وَلا تُطْعِمْنَا إِلَّا طَيِّبًا، إِنْ جِئْتَنَا بِقَلِيلٍ كَثَّرْنَاهُ، وَإِنْ لَمْ تَأْتِنَا بِشَيْءٍ أَعَنَّاكَ بِمِغْزَلِنَا”.[15]
إن الإنسان لا يعرض عن الزواج إلا ليأسه من لقاء من يناسبه، وتأثره بما يحدث بين الأزواج من خلافات عميقة تحيل حياتهم إلى جحيم. وما عليه إلا أن يصلح نيته، ويعلم أن في الناس خيرًا كثيرًا، فيسأل الله تعالى من فضله الواسع أن يرزقه بمن يعينه على دينه ويسعده في دنياه، ويجتهد في دعائه وبحثه، والتوفيق من رب العالمين.