في الكتاب الثاني من سلسلته “دين الحياء:من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني” يتحدث الفيلسوف المغربي الدكتور “طـه عبد الرحمن” عن التحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال، فالفقه الائتماني الذي يدعو إليه الكتاب يهدف إلى إخراج الإنسان المعاصر من أسر الصورة واشتراطاتها الأرضية والمادية إلى إبداع المصور-سبحانه وتعالى- خلقا وتصويرا وأمرا ونهيا، فمع الصورة يسترجع الإنسان عالم الأسماء الحسنى: “الباريء” و”المصور” و”الخبير” و”العليم” و”الرقيب” و”الشهيد”، فخائنة الأعين التي تبثها مادية الصورة لا تعالج إلا بروحانيات الإيمان بالمصور سبحانه.
وحقيقة الحضارة الغربية المعاصرة أنها حضارة “الشاشة” و “الفرجة” و “الصورة” حضارة يطغى عليها المادية والتجسيد، تأثرا بجذور قديمة ترجع إلى حضارة اليونان ذات التماثيل العارية والآلهة المجسدة، ولعل أخطر ما خلقته الصورة هو ظاهرة التكشف، فالبعض يدخر ذاكرته في الصورة ويتكشف لها جسديا ونفسيا، بل يتوسل بالصورة لخلق حالة تكشف عامة في المجتمع، وهو ما يناقض حقيقة خلق الإنسان القائمة على الأستار والأسرار، ومع الافتتان بالصورة تتعمق أزمة الإنسان المعاصر ذاتا ووجودا، وهو ما يفرض الاقتراب من مدلولات عالم الصورة وما تخلقه من تحد أخلاقي وإنساني…
قبل البدء
في البداية لا يقدم “طه عبد الرحمن” رؤيته الفلسفية للتحديات الأخلاقية لعصر الصورة من فراغ، ولكن الأرقام المخيفة في عالم الصورة مرعبة، وأصبحت ممتدة إلى أعين الجميع ونفوسهم في ظل امتلاك مليارات البشر لأجهزة الموبايل والتلفاز والكمبيوتر والصحافة الورقية، فتشير الأرقام أنه في الولايات المتحدة يتم إنتاج وبث فيلم ذا محتوى إباحي على موقع يوتيوب كل (39) دقيقة، ومع كل دقيقة يشاهد (30) ألف شخص صورا ومحتوى إباحيا، وأن (12%) من مواقع الانترنت تعرض صورا إباحية، وفي الولايات المتحدة فقط أكثر من أربعة ملايين موقع إباحي، ويشاهدها (42%) من مستخدمي الانترنت، وأن (25%) من كلمات البحث في المحركات الشهيرة ذات كلمات إباحية، ووصل هذا الرقم إلى مليار ونصف باللغة الإنجليزية فقط عام 2014، وأن صناعة الصورة الإباحية تدر أرباحا تقدر بـ(30) مليار دور سنويا، وان مجلة “بلاي بوي” الإباحية الصادرة من عام 1953 بدون توقف تطبع مليون نسخة شهريا، ويزور موقعها (16) مليون شخص شهريا، كذلك فأحد المواقع الإباحية تحقق صفحاته أكثر من أربعة مليارات مشاهدة شهريا، من خلال (350) مليون زيارة..
هذه الأرقام المفزعة للصورة الفاضحة والمتكشفة لا تقف عند حدود المشاهدة، فالنظر دائما يميل إلى النزوع لممارسة الفعل، ونشرت مجلة التايم الأمريكية أن 20% من النساء في الولايات المتحدة تعرضن لاغتصاب، و40% منه النساء تعرضن لعنف جنسي وتحرش، وتحتل السويد البلد الأوروبي الهادئ أعلى معدلات الاغتصاب في أوربا 25% من نسائها تعرضن للاغتصاب..
ولا شك أن الصورة كانت تقف وراء هذا الانفجار الجنسي الكبير في العالم، وهو ما يستوجب البحث في تحدياتها الأخلاقية، والرؤية الإسلامية لمواجهة تأثيراتها على الإنسان المعاصر.
وقد قسم “طه عبد الرحمن” كتابه إلى ثلاثة أبواب كبرى تسعى لانتزاع الإنسان من مادية الصورة وشهوانيتها إلى أن تكون الصورة معراجا للإنسان للتواصل مع خالقه المبدع القدير، الذي تقف يده وراء كل صورة في هذا الكون.
من آفة التفرج إلى حياء المشاهد
يؤكد “طه” أن الصورة لا تنقطع عن الإنسان حتى وإن أغمض عينيه، فإنها تحتل باطنه وتصوره، وانعكس التطور في وسائل التواصل ووسائط الإعلام في “عشق الصورة” ومع هذه الحالة بدأ العالم أمام شرود أخلاقي كبير، فتكرست “خائنة الأعين” وسادت خيانة البصر، ومع طغيان الصورة أصبحت قيمة التعامل بـ”صوريته” وليس بحقيقة ذاته، حيث تتحدد كل قيمة بما تتلبسه من صورة، واستولى حب “المظاهر” و”الجاه” على قلب الإنسان بطريقة مخيفة، حتى في لحظات الموت يريد ذلك الإنسان أن يستحضر بهرجة الصورة وليس هيبة المشهد وخشوعه..
ومع هذا الطغيان تأسست علوم وطقوس ومظهريات تقدس الصورة وتضع لها قواعدها، فزاد طغيانها وافتتانها بذاتها وتأثيرها، فالمشاهد يجلس أمام الشاشة مستسلما خاشعا كأنه يقف بين يدي الرب في المحراب، ملتزما بآدابها وتوقيتاتها، فصرنا أمام “دين الصورة” وصارت الصورة نهاية وغاية وليست وسيلة ووسيطا، فتحولت إلى حجاب كثيف يُخفي ما وراءه، فزاغ البصر وطغى، فكانت فالفرجة وريثة الدين بعد احتلالها الشامل للحياة الاجتماعية؛ فالشاشة تسيطر على الإنسان وقتا وفكرا ووجدانا، فتعطلت حركته وعضلاته وانكمشت لغته وكلماته.
والحقيقة أن النظر والصورة يوقظان الغرائز، ومع تمادى النظر يوقظ حب التملك ويتوحش، وتنهض الشهوة وتسعى للإشباع ، فينشأ التسلط والفجور، وإذا أدركنا أن الصورة المعاصرة تنزع إلى التجديد في إثارتها لاكتساب جمهور جديد، فيتجدد الاشتهاء والتسلط، فلا النفس تشبع، ولا الغريزة تنطفئ، فتتبدد الطاقات ويزداد التيه والقلق، ومع تخمة الصور يُحاصر القلب، ولا تجد الروح فسحة للتأمل والتفكر والتزكية.
والصورة المعاصرة مُهيجة، مثيرة، انفعالية، صادمة، إفادة العقل ليس من أولوياتها وأهدافها، وهو ما ينذر بـ”شلل عقلي” وكأن عين الإنسان أصبها “السُكر” و”السحر” فتتبلد الحواس والعواطف مع كثافة تدفقات الصورة، حتى الصور الجنسية تفقد إثارتها مع تكرارها، لذا اتجهت الصورة الجديدة إلى مساحات الشذوذ والمبالغة في الخلاعة، وفي ظل التنافس الإعلامي يصير الفجور معيار الحضور، فالأفجر هو الأكثر فرجة وتداولا..
ومع تقدم تقنيات “الفوتوشوب” باتت الصورة تخلق الواقع وتنشئه فتسبب ذلك في فناء المتفرج في الصورة وذلته أمامها، فتراجع الخبر وتقدمت الصورة بكل إغوائها وضبابيتها وخداعها، بعدما انتزعت صدقيتها من المتفرج انتزاعا وصارت في وجدانه يقينا لا شك فيه، فاختنقت الحقيقة وتنفست الأوهام..
وأشار “طه عبد الرحمن” إلى إحدى الآفات الكبرى للصورة وهي تفشي “التلصص” فأصبحت أكثر الصور ذيوعا هي أخبثها وأخفاها تلصصا، فصارت السوءات طافحة على الشاشات، واختفى ورق الجنة الذي بحث عنه آدم الأول ليستر سوأته المنكشفة مع خطيئته الأولى، فرؤية السوءة والعورة أصبحت غاية وحرفة للبعض ومتعة واشتهاء للكثير، وأوجد هذا التلصص الفاحش ألم تعاني منه المجتمعات في أخلاقها وعلاقاتها، وفي فضائحها التي تتداولها الأعين مشاهدة، والضمائر رضا.
من آفة التجسس إلى حياء المشاهد
يؤكد “طه” في الباب الثاني أنه مع ازدياد التلصص وشوق الإنسان إلى معرفة المخفي عنه، ظهر الغلو في المراقبة، وتجاوزت المراقبة حدود الجسد الخارجي إلى السعي لمراقبة باطن الإنسان وضميره ومعتقده، ومع تعملق الرقابة انتقل الإنسان المعاصر فردا ومؤسسة إلى المساحة الخطرة وهي أن يطلب الإحاطة الكاملة ليمتلك التحكم الكامل والسيطرة كمرحلة وسيطة قبل تسخير الجميع، فمثلا في دول كبريطانيا هناك أكثر من أربعة ملايين كاميرا تراقب المواطنين والشوارع وكل شيء، ويُقدر عدد المرات التي يُصور فيها المواطن البريطاني يوميا بـ(300) صورة مختلفة في اليوم الواحد..
لكن كيف يعالج الفقه الائتماني هذه الروح الطاغية في التجسس والتلصص والرقابة؟
يرى “طه” أن الأصل في الإنسان أنه كائن مستور غير مكشوف حيا كان أو ميتا، والأصل أنه لا وجود لستر بغير وجود سر، وإذا كان الأمر كذلك فالأستار وكثرتها تشير إلى الأستار وكثرتها أيضا، والرقابة تهتك الأستار لتعرف الأسرار، فتصير المراقبة خرقا لوجود الإنسان ظنا منها أنها لن تصل إلى سره الأعظم الذي تتهرب منه وهو ميثاقه القديم مع خالقه، فالإنسان ليس جمادا تكشفه آلات المسح الضوئي أو كاميرات المراقبة، ولكن وراء الجسد هذا أستار وأسرار.
يؤكد “طه” أن العلاج يتلخص في إخراج المتجسس من حالة الخيانة إلى حالة الائتمان، مع إبطال الحجج التي يستخدمها الشخص القائم بالتجسس، وكشف الآفات النفسية للتجسس وأنها منازعة للحق سبحانه في أسمائه الحسنى، وهي: (الرقيب، الخبير، اللطيف، العليم، المهيمن) فيخرج ذلك المتجسس إلى حال الحياء من ربه، ويصبح الإنسان شاهدا على ما يرى وليس على ما يتجسس، فالحياء يوجب حفظ السر.
من آفة التكشف إلى حياء المشهود
وفي الباب الثالث ينقلها “طه” إلى مساحة أخرى فيما يتعلق بحضارة “الفرجة” وهي “التكشف” الذي أصبح صرعة الوقت الراهن، فلم تعد هناك حدود للستر الجسدي والنفسي، وأصبحت الوسائط مخزنا للتكشف والبوح بالأسرار التي تجد سبيلها اليسير إلى شبكات التواصل الاجتماعي لتصير فضائحية تستقطب الناظرين، لتصبح العورة المكشوفة على الشاشة معيارا للوجود والشهرة، يعشق بها الإنسان ذاته ويستهوي بها الآخرين، والتكشف لا يتبدى بوضوح إلا في الجنس أو العنف.
ويقرر “طه” أن التكشف في المجتمع المعاصر ليس مسألة سلوكية، بل هو مسالة وجودية، فصار الوجود في التكشف والعدم في التستر، والإنسان المعاصر ليس مخيرا في تكشفه ولكنه مجبر، لأنه في قراره نفسه يشعر بأنه في حكم العدم لو أنه حفظ باطنه أو كتم سره أو ستر عورته.
ومع التكشف تبدو الضحالة والضآلة، ومن الغريب أن إحدى المجلات الفاضحة بعد أكثر من ستين سنة على صدورها بدأت تغير سياسيتها في نشر الصور الفاضحة إلى إضفاء قليلا من الستر على الأجساد التي تنشرها، فكثافة التكشف وطول مشاهدته أوجد تبلدا حسيا كبيرا، أفقد التكشف كثيرا من خصائصه في الإثارة والتهييج..
ومع كثافة التكشف المعاصر استغنى الجسم عن النفس، فتوارت الروح وطغى الجسد بثقله ورغائبه وإغوائه، ومع دوامات الصور أصبح الإنسان نرجسيا مقتربا من عبادة ذاته التي لا يكف عن تصويرها، أو محافظا على صورتها أو مروجا لصورتها للآخرين، فلا حياة بدون شهرة ولا شهرة بدون صورة .
ولكن كيف يواجه الفقه الائتماني حالة التكشف الكاسحة والمستبيحة للستر، والمعاندة “للستار” سبحانه؟
يؤكد”طه” أن الفقه الائتماري لا يضع في اعتباره الدلائل المعنوية للملبس، ورمزيات التكشف، كما أنه يغفل الفرق بين “تعدي الأمر” و”تحدي الأمر” في حالة المتكشف، فالتكشف في حالة الصورة في غالبيته هو تحدٍ للأمر، وهو ما يفرض إعادة وصل الإنسان بخالقه قبل تبليغه أحكامه.
أما الفقه الائتماني فيحاور المتكشف لطفا وعلما وباطنا وضميرا أنه بتكشفه إنما ينازع الخالق سبحانه في اسم من أسمائه وهو “الشهيد”..فينقله من تعريته للجسد إلى أن يدرك أن باطنه عار أمام خالقه يعلم ما تخفي نفسه، بل يسمع حديث نفسه إلى نفسه..مساحات عميقة من المعرفة الإلهية تهز الوجدان وتشعر الإنسان بالحياء من ربه .