تناول الشيخ أبو زيد المقرئ الإدريسي، الأستاذ الجامعي والمفكر الإسلامي المغربي من ضمن إحدى الندوة العلمية التي عقدتها كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة قطر، قسم الفقه وأصوله، قضية القرآن والعقل والصلة بينهما كمدخل معرفي، وبعض الأفكار والتصرفات الموهمة التي حاولت الجنوح على العقل وأهميته، بدعوى أن العقل خطر على النقل، وأنه خطر على الإيمان والغيب، وهو خطر على التسليم لله وإرادته، أو الأفكار والحركات التي تزعم أن الوحي محايد للعقل ومناقض له، بل استبعد المسارات الفكرية الغربية أو الإسلامية التي ترى المبالغة في تقديم العقل على الوحي، والذين اعتبرهم الإدريسي أصحاب المسارات العقلانية، حيث وجد في اختياره موضوع القرآن الكريم العلاج الشافي والكافي لحل أزمة العقل والعقلانيين.
وقد عقد الدكتور أبو زيد المقرئ في هذه المحاضرة المقارنات بين التفكير الغربي والإسلامي، حيث وجد في كلتا الجهتين الانفصام الكبير بين العقل والوحي، واعتبر ذلك سبب لأزمة العقل في العصر الحالي، نرى في الغرب مثلا تهميش العقل من جانب، وإعمال العاطفة وتقديم حكمها على مقتضى العقل، وهذه الحالة تعد منتشرة بين الناس على جميع المستويات، ولا يفتصر على الفقراء فقط، حيث إن بعض الناس يربط أي فشل أو ضعف أو تدهور علميا كان أو اقتصاديا وغيره بالسحر والخرافات، ويعطل العقل ونظامه، وصارت هذه الحالة ثقافة عامة شملت الناس كافة.
أما المسلمون في هذه الناحية فمذ سقوط دولة غرناطة، وإعلان بعض العلماء بإغلاق باب الاجتهاد والرضا بالفروع الفقهية، صار الميل إلى تحكيم الهوى وتقديمه على العقل وأصاب الناس التدهور الحضاري والعلمي، فكان أزمة فعلية عاشها المسلمون منذ خمسة قرون ولا يزالون كذلك.
ومن المقارنات التي استدل بها الأستاذ الإدريسي للدلالة على أزمة العقل المعاصر، وهو جانب آخر من الموضوع، هو تألية الغرب العقل، وتقديمه على الوحي والدين والتسليم للخالق الباري المتفضل على جميع المخلوقات، خيث اعتبر الإدريسي هذا التأليه من الغرب وإحجام دور الدين في المجتمع – تحت مفهوم العلمانية – نوع آخر من تحقير العقل، حيث إن العقل موهبة من الله تعالى تعين الإنسان على التفكر والتأمل والتدليل على الله تعالى، فكان أولى أن يسهم في تعريف الإنسان بالخالق والدلالة على أحكامه، والاستنباط منها. لهذا السبب نشأت العقلانية الإسلامية الصحيحة في أحضان علوم الدين الإسلامي وفروعها المختلفة بخلاف العقلانية الغربية التي نشأت تعارض الدين وتنتقم من الكنسية بشكل خاص، الأمر الذي عقد دور العقلانيين الغربيين، وصعب مهمتهم في تحقيق العدل المنشود، فوضعوا قوانين متعارضة لطبيعة الإنسان وقيمة العقل.
أما العقلانية الإسلامية فهي تتمثل في أعمال علماء الشريعة الإسلامية والأصوليين لا ما يدعيه دعاة العقلانية الحديثة وتحاول إقناعنا بأن الفقهاء حنابلة لا يعتدون بالعقل، وأنهم حرفيون المحضة، والصحيح أن علماء الأصول قعدوا لأصول التفسير والبيان لنصوص الوحي أفضل مناهج التفكير والاجتهاد ، ويظهر ذلك في نماذج قواعد الاستنباط الكلية عندهم من ذلك ما يأتي:
– كلام المفسر ليس حجة على أحد
– القرآن قطعي الثبوت ظني الدلالة
– لازم الدليل ليس بدليل
– إن كنت ناقلا فالصحة وإن كنت مدعيا فالدليل
– الأصل في العبادات التوقف
ويرى أبو زيد المقرئ أن المنطلق التجريبي اكتمل عند المسلمين خلال القرون السابقة كأحد المنطلقات التأسيسية للتدبر العقلي، المتمثل في وحي القرآن العظيم، وذلك في فترة كانت الغرب تعتمد على منهج التجريدي، بل إن الغرب التمس هذا المنهج واخذه من القرآن الكريم بشهادات مفكريهم أمثال روجيه بك وغيره. وهذا دليل على أن القرآن الكريم يشيد بالتفكير ويعلي مقام العقل، فقد استعمل القرآن الكريم كلمات مختلفة للدلالة على شموخ العقل والاعتناء به بين التدبر والتعقل والتفكر والنظر والرؤية ومشتقاتها وهي كثيرة تربو على الإحصاء، وهذا للإشادة على مقام العقل، ولإدراك الناس أن الحل الأمثل للخروج من أزمة العقل المعاصر موجود في القرآن الكريم.
ويضرب المقرئ أبو زيد نماذج للمنهج التجريبي في القرآن الكريم للدلالة على مقام العقل من خلال التطبيقات على مجال العقائد، والذي يعد أساس إيمان المسلم، فإذا سلم جانب العقائد يسلم لنا التطبيق على جوانب أخرى، فمن الأمثلة على ذلك:
أن القرآن الكريم لا يدعي دعوى إلا ويأتي بحجة تدعمها، وأن القرآن إذا حكم على جهة حكما سلبيا أو إيجابيا بالموقف العقدي كان حكمه قطعيا، ومن ذلك:
– قوله تعالى في مؤمن آل فرعون: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ [غافر: 28]، حيث قطع له بالإيمان.
– وفي المؤمنين الأوائل، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ﴾ [الأنفال: 4].
ومن الحكم العقدي السلبي :
– ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد: 1]
– ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ [المائدة: 17] فقطع بالكفر لهؤلاء القوم أفرادا وجماعات حين أعلنوا الكفر وأشركوا مع الله تعالى، فجاء الحكم قطعيا في موضع القطع.
أما إذا كان الحكم غير جازم فإن القرآن الكريم يسلك منهج الحذر والاحتياط كما فؤ قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 14].
فقد استعمل القرآن الكريم حرف (لما) وهو سلبي الحكم للدلالة على النفي للحاضر وليس للمستقبل، حيث يحتمل أن يتحسن إيمان هؤلاء، فلا يقطع بالحكم عليهم لا بالكفر ولا بالنفاق، لأن حالتهم حين النزول قد تتحسن من خلال سماع القرآن والإذعان لأحكامه وفضائله.
ومثل ذلك قوله تعالى في المنافقين: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ﴾ [النساء: 143]
بناء على ذلك يرى الأستاذ أبو زيد المقرئ أن هذه الآيات تربينا على الاحتياط في الحكم على الناس، وتربينا على ثقافة التنصيف والحذر، فإن التفكير النسبي بسبب محدودية فكر الإنسان، يسهم في سلامة التفكير، ويكسب الموضوعية ولا يكون تفكيرا تجزئيا، ويعطي مجال الخطأ في حكم الإنسان، لذلك دعا الإسلام إلى الخروج من الإطلاقية لأن العلم المطلق لله تعالى.
ومن مظاهر الخروج عن الأحكام المطلقة في القرآن الكريم:
– وصف القرآن الكريم بشاعة محرقة أصحاب الأخدود ولكنه مع ذلك قيد تعذيبهم بقوله (ثم لم يتوبوا)، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج: 10]
– دعوة فرعون رغم تجبره وغطرسته واستعلائه في الأرض بالقول اللين، قال الله تعالى: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 44]
– استعمال صيغة التفضيل في وصف رتب الولاء بين المسلمين وأهل الملل المختلفة، فقال الله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ [المائدة: 82]، فقد رسم خريطة التعامل مع الناس سواء في جميع التحالفات والعلاقات أننا لا نطلق عنان الحكم، ويسددنا على التفكير الموضوعي الموافق لهدي القرآن الكريم.