نستكمل في هذا الجزء من حوارنا مع المفكر الجزائري المرموق د. الطيب برغوث، ما بدأناه من حديث عن السنن الإلهية وأهميتها.. فنتطرق إلى السبيل للانتقال بها من “التنظير” إلى “التفعيل”، وكيفية نشر “الوعي السُّنني” خارج دائرة النُّخب إلى دوائرة أوسع من المثقفين والشباب.. ونوضح مقصود ضيفنا الكريم من دعوته إلى “ثقافة النهضة الحضارية المتوازنة”، ونظرية “المدافعة والتجديد”.. إضافة إلى الإشارة إلى أبرز السنن الحضارية التي نحتاجها على وجه عاجل .. فإلى الحوار:
ما السبيل للانتقال بالسنن الإلهية من “التنظير” إلى “التفعيل”؟
التنظير والتفعيل أمران ضروريان في الحياة، لا يغني أحدهما عن الآخر، ولا يستغني أحدهما عن الآخر؛ لأنهما يتغذيان من بعضهما البعض، ويكمل بعضهما بعضًا؛ وإذا اختلت العلاقة بينهما، بأن توقف التنظير أو تباطأت وتضاءلت وتيرته، أثر ذلك سلبًا على التفعيل، وإذا تأخر أو تباطأ التفعيل انعكس ذلك سلبًا على التنظير، لأن التنظير لا يتم في فراغ، ولأن التفعيل بدون تنظير ضرب في المجهول؛ أما إذا تلازما وتواكبا، وهو المطلوب باستمرار، فإن الجهد يكتسي فعالية كبيرة تؤثر على حركة المدافعة والتجديد والمداولة الحضارية للمجتمع.
والاختلال بين الأمرين يعطي مؤشرًا قويًّا على أن المجتمع أخذ يدخل في أزمة، وهو ما يدعو نُخبه إلى الاستنفار لتدارك الموقف قبل فوات الأوان.
ومما ينبغي الوعي به هنا هو أن تفعيل السنن بمعنى استثمارها في الحياة الخاصة والعامة للإنسان، يمر عبر مراحل متكاملة، سبقت الإشارة إليها، وهي المرحلة المعرفية بهذه السنن أولاً، لأن فاقد الشيء لا يعطيه كما يقال؛ وكلما بلغت هذه المرحلة درجة الاقتناع والاستيقان بأهمية هذه السنة أو تلك في حياتنا، ارتفع الاهتمام بها، والحرص على الاستفادة منها. وهذا يدخلها المرحلة الثانية وهي المرحلة التربوية حيث يعوِّد الإنسان نفسه تدريجيًّا على العمل بهذه السنة أو القانون حتى يتحول إلى سلوك أو عادة سارية في حياة الفرد، وهو ما يأخذ وقتًا قد يطول وقد يقصر، بحسب درجة ووتيرة التفعيل.
فإذا استوفت هذه المرحلة المعرفية حظها وتحولت السنة أو القانون إلى سلوك وعادة فردية، شرعت في الانتقال من حالتها الفردية إلى حالتها الاجتماعية المحدودة، ثم تتسع دائرتها مع مرور الوقت حتى تتحول إلى حالة اجتماعية واسعة؛ وهنا تدخل السُّنة أو القانون المرحلة الثالثة حيث تصبح ثقافة عامة ذات سلطان على حياة الناس في المجتمع.
هذا ما ينبغي وعيه جيدًا على الصعيد المنهجي لتحول الأفكار إلى تربية ثم إلى ثقافة، وأن لا نستبطئ التنظير أو نستعجله أو نفغل عنه، أو نزهد فيه أو نزهّد الناس فيه، بل لا بد أن نمكّنه من أخذ مداه في الرصد والمراجعة والتقييم والتقويم والاستدراك والإضافة المستمرة؛ فالتنظير فعل إبداعي يمر بكل هذه المراحل، والتفعيل تطبيق واستثمار له في الحياة، ومن طلب الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، كما تقول القاعدة الفقهية، ولأن سنن الله تعالى اقتضت بأن يكون {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: 38)، أي لكل أمر دورة ميلاد ينبغي أن تستوفي شروط ومبررات ميلادها، حتى يكون الميلاد مكتملاً.
الإنسان يترقى بقدر انسجامه مع حقائق الوجود الإلهي والكوني والإنساني
فنحن يجب علينا أن نعطي للتنظير حقه وشروطه حتى ننتج الأفكار والمشاريع الناضجة، ونراكم الثروة الفكرية السننية بشكل مستمر؛ كما يجب أن نعطي للتفعيل والتطبيق حقه حتى تتحول الثروة السننية المنتجة أو بعضها إلى حالة ثقافية مؤثرة على حركة الإنجاز الفردي والجماعي في المجتمع.
هذا هو طريق النهضة الحضارية المتوازنة وشرطها المطرد، إنتاج ومراكمة للثروة المعرفية السننية الناضجة، وتفعيل واستثمار فعّال دائب لها، في إدارة الحياة؛ وأي خلل في ذلك يدخل المجتمعَ في الأزمة، ويكلفه كثيرًا.
كيف يمكن نشر “الوعي السُّنني” خارج دائرة النُّخب إلى دوائرة أوسع من المثقفين والشباب؟
الوعي السنني يهم حياة ومصير كل الناس أفرادًا ومجتمعات، ولذلك يجب على كل إنسان أن يسعى بجدية لامتلاك ما يستطيع من هذا الوعي. فالإنسان يترقى في مدارج الإنسانية بقدر مطابقة أو انسجام حياته مع حقائق الوجود الإلهي والكوني والإنساني؛ وذلك كله لا يتيسر له إلا عن طريق المعرفة والتربية والثقافة والحركة السننية.
فالنخب لا ترتقي سلم القدوة والتأثير في المجتمع، ولا تكون صاحبة مكانة وسلطة حقيقية فيه، كما هو مطلوب منها، إلا بما يتيسر لديها من هذه المعرفة والتربية والثقافة السننية المتوازنة، التي تجعل سلوكها وحركتها ومواقفها متناغمة مع سنن الله في خلقه، وبذلك تفرض نفسها على محيطها الثقافي والاجتماعي والسياسي، ويسري عبرها الوعي السنني إلى بقية القوى المؤثرة في المجتمع، وخاصة عندما تنفتح هذه النخب الرسالية على محيطها وتُسهم في تأطير وترشيد حركيته الفكرية والثقافية والتربوية والاجتماعية بالمشاريع والمؤسسات الفعالة.
فالوعي السنني ينتقل إلى المجتمع ويؤثر فيه بالقدوة النموذجية، وبالحركية الإصلاحية الفعالة، والمشاريع والمؤسسات الجادة، وخاصة التربوية والاجتماعية والإعلامية منها في هذا الوقت. وهنا تبرز المسئولية الكبيرة للنخب الفكرية المستوعبة لمنظور السننية الشاملة، والنخب الاجتماعية ذات الوجاهة والمكانة والقدرة المالية، والنخب السياسية ذات النفوذ في الدولة؛ حيث على كل واحدة منها أن تستثمر شيئًا من القدرات التي بين يديها، في نشر الوعي السنني في المجتمع، ودعم فرص وشروط نهضته الحضارية المطلوبة.
وبالرغم من أن مهمة إنتاج المعرفة السننية ونشرها في المجتمع، هي من مهمة الجامعات ومراكز البحث العلمي والمؤسسات المبنثقة عنها في المجتمع، إلا أن الواقع يطرح تساؤلات كثيرة وكبيرة على كثير من هذه المؤسسات الرئيسة في المجتمع، وعلى النخب الفكرية والسياسية والاجتماعية المؤثرة فيها؛ لأن جل جهودها تتحرك في ساحات السننية الجزئية المنكفئة على نفسها، والمستكفية بنفسها عن غيرها، والمستعلية في كثير من الأحيان عن بقية ساحات السننية الجزئية الأخرى؛ وهو ما طبع جهدها وإنجازيتها بالكثير من التنافرية المنهكة، وحال دون التكاملية المطلوبة بين كل هذه الحقول والروافد المعرفية الجزئية الحيوية، ولم نشهد مشاريع ومبادرات وتنظيرات جادة على مستوى بناء المنظورات السننية الكلية الشاملة، التي تؤطر الحركية السننية الجزئية المتنافرة وتحقق تكامليتها الضرورية، إلا قليلاً جدًّا؛ بل إن هذا الجهد القليل الذي يتحرك على مستوى بناء المنظورات السننية الكونية المرجعية الكلية، يعاني من التهميش والعزلة والتهوين من شأنه، مع الأسف الشديد، من كثير من النخب الفكرية والاجتماعية والسياسية النافذة، الغارقة في الإجرائية الجزئية المتنافرة والمنهكة، التي جعلتها أسيرة منطق “إحيني اليوم واقتلني غدًا”! الذي حرم الأمة من الجهد التنظيري العالي، ومن توطين الوعي السنني الشامل المتكامل والمتوازن، الذي يقي جهدها الإجرائي من مخاطر التجزيئية والانكفائية والاستكفائية والاستعلائية التنافرية المنهكة، ويضعه في سياقه التكاملي البنائي الفعال.
وقد سبق أن أشرت إلى مصير تجربتين تنظيريتين مهمتين، طوتهما هيمنة السننية الإجرائية الجزئية وهمشتهما، وحرمتهما من النمو الطبيعي أولاً، وحرمت المجتمع من الاستثمار لهما ثانيًا؛ وهما تجربة ابن خلدون ومالك بن نبي رحمهما الله تعالى.
فنشر الوعي السنني ومد تأثيراته إلى أوسع نطاق في المجتمع، هو مسؤولية هذه النخب، التي عليها أن تتبنّى هذا الوعي وتعمل به، وتدعو إليه، وتقيم له مؤسسات تربوية وإعلامية تنقله إلى أجيال الشباب، وتحببه إليها، حتى يقبل عليه ويستفيد منه في إدارة حياته وما يتولاه من مسئوليات في المجتمع والدولة، بفعالية وتوازن وتكاملية.
يجب أن نعطي “التنظير” حقه وشروطه حتى ننتج الأفكار والمشاريع الناضجة
تنادون بـ “ثقافةِ النهضة الحضارية المتوازنة”.. ماذا تقصدون بهذه الثقافة؟ وكيف نرسِّخها؟
النهضة الحضارية التي هي قدر المجتمعات الإنسانية للانفكاك من الضعف والاستضعاف والمهانة الحضارية، كما أسلفت، لا يمكنها أن تتحقق إلا بثقافة سننية شاملة ومتكاملة ومتوازنة، وهذه الثقافة السننية الشاملة بدورها لا تتحقق إلا بتربية سننية شاملة ومتوازنة، وهذه التربية لا تتحقق إلا بمعرفة سننية شاملة ومتكاملة ومتوازنة؛ فإذا توفرت لدينا المعرفة والتربية والثقافة السننية الشاملة والمتكاملة والمتوازنة، توفرت لدينا ثقافة النهضة الحقيقية، وأمكننا بناء نهضتنا الحضارية، وإذا اختل أي بعد أو مركب منها جميعًا، تعذر تحقيق النهضة الحضارية المتوازنة، وارتكس المجتمع في دوامات التنميات والتغييرات والإصلاحات الجزئية المتنافرة والمنهكة؛ كما حدث لنا نحن المسلمين في تجربة نهضتنا المعاصرة التي ما نزال نعيش متاعبها منذ قرنين من الزمن، لأننا لم نتمكن من الصياغة المتكاملة والمتوازنة لمعادلة المعرفة والتربية والثقافة السننية في منظوماتنا التعليمية والتربوية والاجتماعية والسياسية.
فثقافة النهضة الحضارية إذن هي ثقافة سننية شاملة ومتكاملة ومتوازنة، ومطابقة لحقائق الوجود الإلهي والكوني والإنساني، تحملها نخب المجتمع وجماهيره معًا، وتتمثلها في تفكيرها وسلوكها وعملها وعلاقاتها وطموحاتها، وتدير بها شؤون النفس والأسرة والمؤسسة والمجتمع والدولة والأمة.. وتواجه بها تحديات المدافعة والمداولة الحضارية التي تحيطها بها جميعًا، وتقي بها منجزات نهضة المجتمع وتحميها وتحافظ عليها، وتراكمها بشكل بنائي متكامل، يعزز الرأسمال الحضاري الاستراتيجي للمجتمع والأمة.
وكما أكدت مرارًا، فإن ثقافة النهضة هذه، لا يمكن بناؤها والاستفادة منها إلا بـ”منظور السننية الشاملة”؛ لأنه المنظور الذي يمكِّن المجتمع من الانفتاح على كل الساحات والمنظومات الكونية الكبرى التي وزع الله فيها سنن فقه التوحيد الخالص، وسنن فقه الخلافة البشرية في الأرض، وسنن العبودية الشاملة لله تعالى، وسنن إقامة العمران الحضاري في الأرض، وسنن تحضير الحياة الأخروية للإنسان؛ وهي منظومات سنن الله في الآفاق والأنفس والهداية والتأييد جميعًا، دون تجزئة لها، أو مفاضلة فيما بينها، أو تهميش لبعضها لصالح بعض، أو استعاضة ببعضها عن بعض، لأن كل منظومة منها موجودة لتغطية وتلبية ضروريات وحاجيات ومحسنات جانب محدد من جوانب حياة الإنسان وحركة المجتمع؛ فإذا اقتصر الإنسان على بعضها، يكون قد أخل بضروريات وحاجيات ومحسنات بقية الجوانب الأخرى من حياة الإنسان وحركة المجتمع، ومن ثم تختل موازين حياة الإنسان وحركة المجتمع، ولا يقوى على تلبية الحاجات ومواجهة التحديات التي تفرضها حركة المدافعة والمداولة الحضارية على الأفراد والمؤسسات والدول والمجتمعات والأمم والحضارية، ويكون مصيرها جميعًا الضعف والغثائية والتبعية الحضارية المذلة.
فثقافة النهضة تُرسَّخ بترسيخ الوعي بمنظور السننية الشاملة في المنظومات المعرفية والتربوية والإعلامية والأسرية والاجتماعية والسياسية للمجتمع والدولة. وهذا يتطلب نخبًا تستوعب هذا المنظور وتطوره بشكل مستمر، وتنشر الوعي به على أوسع نطاق في المجتمع عامة ومجتمع النخبة خاصة، حتى يتحول إلى ثقافة مجتمعية عامة، يمتصها الجميع، ويبثون رحيقها في كل ثنايا المجتمع، ويشدّون به عرى شبكة علاقاته الثقافية والاجتماعية والسياسية والحضارية العامة.
وماذا عن نظرية “المدافعة والتجديد”.. نريد مزيدًا من التوضيح؟
نظرية “المدافعة والتجديد” هي الخلاصة التفسيرية الكلية المباشرة التي يعطينا إياها منظور السننية الشاملة، لفهم آلية أو دينامية حركة الصيرورات الحضارية لحركة الاستخلاف البشري في الأرض: ما الذي يتحكم في ضعفها وقوتها؟ وكيف يتحكم فيهما؟ وما الشروط التي تتطلبها الحركة الحضارية الصاعدة؟ والحركة الحضارية المتقهقرة؟ وأين توجد هذه الشروط؟ وكيف نصل إليها. وكيف نستثمرها لتحقيق النهضة والمداولة الحضارية الصاعدة، وتلافي المداولة الحضارية المتقهقرة؟
فمن يستوعب منظور السننية الشاملة ينتهي به الأمر إلى الوعي بأن حركة الأفراد والمجتمعات والأمم والحضارات.. في انسجامها وقوتها وتكاملها وتوازنها وصعودها، أو اختلالها وضعفها وتنافرها واهتلاكها، تتحكم فيها سنة أو “قانون المدافعة الشاملة” الثقافية والاجتماعية والحضارية. فمن رفع مستوى أصالة وكفاءة وفعالية مدافعته الثقافية والاجتماعية الحضارية، توازنت شخصيته وتكاملت ملكاتها وقدراتها، وحقق نهضته ومداولته الحضارية، واستمتع بها، ومن عجز عن ذلك، اضطرته حركة المدافعة والمداولة الحضارية من حوله إلى التقهقر والضعف والغثائية والتبعية الحضارية المذلة.
هذه هي سنة الله وهذا هو قانونه المطرد في الأفراد والمجتمعات، كما يقرر القرآن ذلك في مثل قوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة: 251). فبدون هذه المدافعة لا يتحقق الابتلاء في الأرض، ولا تتطور الحياة البشرية، وتتعرض مصالح الأفراد والمجتمعات للخطر.
وفعالية المدافعة الثقافية والحضارية هذه، ترتبط ارتباطًا جذريًا بـ”قانون التجديد الشامل”؛ فمَن جدّد من الأفراد والمجتمعات شروط وعيه وعلاقته بمنظور السننية الشاملة في منظوماته الكلية الأربع الكبرى- وهي منظومات سنن الله في الوعي الكوني الغائي الشامل، وسننه في الوعي الاستخلافي الشامل، وسننه في الوعي التسخيري الشامل، وسننه في الوعي الوقائي الشامل- يكون قد أمسك بمفاصل ومفاتيح فعالية المدافعة الحضارية، وتمهدت له الطريق نحو إنجاز نهضته ومداولته الحضارية، والاستمتاع بها، والمحافظة على منجزاتها، وضمان اطراديتها التاريخية الطويلة المدى. ومَن عجز عن تجديد وعيه الشامل بمنظومات منظور السننية الشاملة الأربع، يكون قد فقد شروط نهضته ومداولته الحضارية، وأخذ طريقه القهقرى نحو الدوائر الحضارية الأدنى فالأدنى، حتى ينتهي به التدحرج إلى قاع الضعف والتخلف والغثائية والتبعية والاستباحة الحضارية المذلة.
هذا هو القانون العام الذي يحكم حركة النهضة والمداولة الحضارية، فمن وعاه من الأفراد والمجتمعات، واستوعب شروطه، وأقام حياته الفردية والجماعية على ضوء مقاصده ومقتضياته ومعطياته، توازنت حياته وتكاملت جهوده، وتعبأت طاقاته، وأمكنه تلبية شروط نهضته ومداولته الحضارية وتحقيقها، ومواجهة التحديات التي تواجهها، وحافظ على أمنه الحضاري الاستراتيجي، ووفر لكل فرد فيه شروط تحضير حياته الأخروية المنتظرة.
ثقافة النهضة الحضارية هي ثقافة سننية شاملة ومتكاملة ومتوازنة
ما أبرز السنن الحضارية التي نحتاجها على وجه عاجل؟
أشيرا أولاً إلى أن النهضة الحضارية المتوازنة التي تحقق للمجتمع أمنه الفكري والنفسي والروحي والاجتماعي والحضاري، وتؤمّن مستقبله ومصيره الأخروي، حركة بنائية كلية متكاملة، تحتاج إلى تفعيل تكاملي لسنن شتى موزعة في منظومات سنن الله في الآفاق والأنفس والهداية والتأييد، ولا يجدي فيها كثيرًا منطق التجزيئية والترقيعية والتلفيقية المعبثرة.
وإذا كان لا بد من إجابة عن هذا السؤال فإنني أقول بأن الأولويات أو القوانين السننية الأساسية التي ينبغي، بل يجب على المجتمعات الإسلامية أن تركز عليها كثيرًا، وتعطيها ما تستحقه من الجهد والإمكانات؛ هي أولوية التربية والتعليم السنني، لأنها القانون الكلي الأساس للنهضة. وأولوية الحرية، لأنها القانون الكلي الأساس كذلك للتربية والتعليم السنني وللنهضة الحضارية المتوازنة. وأولوية العدالة، لأنها القانون الكلي الأساس كذلك للتربية والتعليم والحرية وللنهضة الحضارية المتوازنة.
فإذا توفرت للمجتمع هذه الأولويات السننية الثلاث الأساسية- التربية والتعليم السنني، والحرية والعدالة السننية- يكون قد وفرَّ لنفسه قاعدة شروط التنمية الشاملة والمتوازنة والمتكاملة؛ التي بها يحقق نهضته الحضارية المنشودة، ويمتلك زمام أمره، ويكون رقمًا صعبًا في الساحة الحضارية. ولذلك لا بد من تجند كل الخيرين والصلحاء والغيورين في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، من أجل تحقيق هذه الأولويات الأساسية الثلاث، وتحمل تبعات المتاعب والتضحيات التي يلاقونها في سبيل ذلك.
كيف يتم ذلك؟
وهنا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام سؤال المنظور الذي يحكم عملية التربية والتعليم السنني، وعملية تحقيق الحرية والعدالة السننية؛ ما هو هذا المنظور؟ وأين يوجد؟ وما موقع هذه المنظورات الكثيرة التي حكمت عملية التربية والتعليم، ومشاريع تحقيق الحرية والعدالة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، بل وفي المجتمعات المعاصرة عامة، من هذه المنظورات؟ خاصة وأن النتائج الميدانية الزهيدة لهذه المنظورات، تطرح تساؤلات جدية كبيرة وملحة عن جدواها ومصداقيتها ومسئوليتها في ذلك كله! فهي منظورات تميزت في عمومها بدرجة عالية من الجزئية والتنافرية المنهكة، التي لم تتح لكثير من أبعاد التنمية أن تأخذ مداها من حيث الفعالية والتكاملية والتراكمية البنائية المطلوبة، بل حكمت عليها بالمد والجزر التنافري المنهك للطاقات والجهود والأوقات، والمهدر للفرص.
وهذا كله يضعنا مرة أخرى وجهًا لوجه أمام “منظور السننية الشاملة”، الذي نوهت إليه مرارًا في هذا الحوار، وربطت به النهضة الحضارية المتوازنة المنشودة؛ لأنه المنظور الأقدر على بناء تربية وتعليم سنني متوازن ومتكامل وفعال، يساعد المجتمع على ترسيخ الحرية والعدالة فيه، والانطلاق في تنمية نفسه وإنجاز نهضته الحضارية المتوازنة.
“الوعي السنني” ينتقل إلى المجتمع ويؤثر فيه بالقدوة النموذجية والحركة الفعالة
فمنظور السننية الشاملة بانفتاحه على كل الساحات أو المنظومات الكونية التي تتوزع فيها سنن فَهْم الحياة وإدارتها أولاً، وبإلزام الإنسان باحترام الحجية والسلطة المرجعية لكل منظومة من هذه المنظومات على المجال الذي وجدت لتغطيته وتلبية حاجات الإنسان فيه ثانيًا، يمكّننا من بناء شخصية إنسانية تفكر وتشعر وتتحرك بأربع طاقات كونية غير عادية؛ وهي طاقة سنن الله في الآفاق، وطاقة سننه في الأنفس، وطاقة سننه في الهداية، وطاقة سننه في التأييد؛ وهو ما يرفع فعالية مدافعته الاجتماعية إلى أعلى مستوياتها النموذجية القصوى.
كما يمكّننا من بناء مجتمع إنساني يتحرك بأربع طاقات كونية كبرى كذلك، وهو ما يمنح مدافعته الثقافية والاجتماعية والحضارية فعاليتها النموذجية القصوى، ويعطي نماذجه البشرية والثقافية والاجتماعية والحضارية قوة وجاذبية وتأثيرًا غير عادي؛ كما حدث في نماذج الدورة الحضارية الإسلامية الأولى التي اجتذبت إليها مجتمعات كثيرة، وأدخلتها في الدائرة الحضارية الإسلامية، بل إن بعض هذه النماذج ما تزال أصداؤها وتأثيراتها ممتدة في الحياة الإنسانية، رغم إنهيار الحضارة الإسلامية وتخلف المسلمين؛ كما يتجلى لنا ذلك في شواهد كثيرة عن إقبال العديد من العلماء والمفكرين والعامة على الدخول في الإسلام، بسبب اطلاعهم على جوانب من تراث الحضارة الإسلامية في نهضتها الحضارية الأولى.
إن هذا المنظور عندما تقوم عليه المنظومة التربوية والتعليمية المدرسية والأسرية والمسجدية والإعلامية.. سيعطينا هذا الإنسانَ الحر المتوازن، وهذا المجتمعَ العادل المتوازن، المتحركَيْن بهذه الطاقات والقدرات التكاملية غير العادية. لذلك يجب على نخب المجتمعات الإسلامية المعاصرة أن تنفتح بجدية على هذا المنظور، وأن تعمل كل ما في وسعها من أجل تمكين الأجيال من استيعابه والاستفادة القصوى منه، في تصحيح أوضاع حاضرها وتأمين مستقبلها، وإنجاز النهضة الحضارية المنشودة على أرضية {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143). بحول الله تعالى.
“المدافعة والتجديد” هي الخلاصة التفسيرية الكلية المباشرة لمنظور السننية الشاملة
هذه في نظري هي الأولوية الاستراتيجية العاجلة التي يجب أن تتحرك نحوها الطاقات والجهود، أو بعضها على الأقل، لإخراج واستنقاذ جهود الأفراد والدول والمجتمعات الإسلامية المعاصرة، من مهلكة المنظورات الجزئية المتنافرة والمنهكة، وتحويلها إلى روافد معززة للفعالية الاجتماعية والحضارية العامة للمجتمع والأمة.
وقد يتساءل الكثير ممن يطلعون على هذا الحوار، عن حقيقة “منظور السننية الشاملة” الذي أكثرت الحديث عنه فيه، ويرغب بعضهم في المزيد من الاطلاع عليه، لذلك أود أن أذكّر ببعض الكتب التي يمكنهم الاطلاع عليها لبناء صورة عامة عنه؛ ومنها على سبيل المثال: مدخل إلى سنن الصيرورة الاستخلافية في ضوء نظرية المدافعة والتجديد. الفعالية الحضارية والثقافة السننية. مدخل سنني إلى النظرية الكلية في فقه العمران الحضاري في ضوء القرآن الكريم. النهضة الحضارية ومركزية شرط الوعي الحضاري فيها. حركة المداولة الحضارية والقوانين الكلية المؤثرة بها. مدخل سنني إلى خريطة المقاصد الكلية في القرآن الكريم.. وغيرها من كتبي التي تتمحور جلها حول “منظور السننية الشاملة”، وتدخل إليه من مداخل متنوعة؛ باعتباره المنظور الذي يصدق فيه القول “كل الطرق تؤدي إلى منظور السننية الشاملة”، أو ينبغي أن تؤدي إليه.