رغم ما وصلت إليه الحضارة المعاصرة من تقدم ورقي ماديين غير مسبوقين، فإن ما تعانيه هذه الحضارة من أزمة روحية ربما وصل أيضًا لمستوى غير مسبوق؛ وهو ما يجعل من المهم أن نتساءل عن تلك الأزمة الروحية ومظاهرها وأسبابها، إضافة إلى التعرف على ما يقدمه الإسلام في الجانب الروحي.. مما سنتعرف عليه في هذا الحوار مع الباحث المغربي الدكتور د.حمزة بن علي الكتاني، صاحب العديد من المؤلفات والجهود المتميزة في هذا الشأن.
وكان من المهم أيضًا أن نتساءل عن طبيعة الأزمة الروحية بين الشرق والغرب، وعن الخطاب الديني الغربي؛ هل هو قادر على ملء الفراغ، أم هو جزء من أسباب الأزمة؟ بجانب التعرض إلى انحراف بعض الاتجاهات الروحية في تاريخ الفكر الإسلامي .. فإلى الحوار:
– نود أن نبدأ بتعريف القراء بمسيرتكم العلمية ؟
بادئ ذي بدء أشكركم على إتاحتكم هذه الفرصة لي للتواصل مع قرائكم، في موقعكم الذي يعتبر من أكبر وأهم المواقع الإسلامية في “الإنترنت”.
ولدت بمدينة سلا في المغرب عام 1975، وعشت بين مدينة الظهران وجدة بالمملكة العربية السعودية إلى عام 1989، حيث انتقلت أسرتنا للمغرب، فاستوطنا بمدينة الرباط، حيث حصلت على شهادة البكالوريا العلمية، ثم انتقلت نحو عام لإسبانيا، لتعلم اللغة الإسبانية.
بعد ذلك انتقلت للأردن، حيث درست في كلية الصيدلة في الجامعة الأردنية، حيث تخرجت منها عام 2000، وعدت للمغرب.
في عام 2003 تحصلت على الدكتوراه في الصيدلة، وفي تلك الفترة أيضًا التحقت بجامعة القرويين بمدينة فاس، لدراسة الشريعة والقانون، حيث تخرجت فيها عام 2006، ثم التحقت بجامعة محمد الخامس بالرباط، ودرست الماجستير في المذاهب العقدية في الديانات، ثم حصلت من نفس الجامعة على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، عام 2016 في تخصص العقيدة والتصوف.
أثناء دراستي في الأردن؛ اجتزت دورات متخصصة في كل من العلوم السياسية، والفلسفة، والإبستمولوجيا، والبيئة؛ كما اجتزت قبل ذلك دورة في الدعوة إلى الله بمؤسسة إسنا بالولايات المتحدة الأمريكية، ودورة في المخطوط والتحقيق، بالرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.
اعتنيت بالتأليف والتحقيق، فصدر لي منفردًا وبالاشتراك نحو 130 عنوانًا محققًا، وعدة مؤلفات من بينها: “مفهوم الخلاص في الديانة اليهودية، وأثره على الحوار الإسلامي اليهودي”، و”المسك الأذفر، في عقائد الختم الأكبر”، و”معجم الشيوخ المسمى: الغصن الوارف في إجازة الحبيب السقاف”، و”إتحاف الأكياس، بالدراسات المقامة حول سلوة الأنفاس”، بالاشتراك، والموسوعة الكتانية لتاريخ فاس، بلغت 14 كتابا، و”النفائس الكتانية”، وهي رسائل ومؤلفات الإمام أبي الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني، بلغت نحو أربعين عددًا.
– كيف ترون “الأزمة الروحية” التي يمر بها عالمنا ؟
العالم اليوم أغرق في المادية إلى حد كبير، ونظرًا للنجاحات الكثيرة التي حقّقها في المجالات المادية؛ فقد تغوّل لديه الفكر المادي ليطغى على العقل السياسي، والاجتماعي؛ ومن ذلك اعتبار الفكر الروحي ضربًا من الهرطقة والسفسطة.
وهي نتيجة طبيعية للإغراق في الإبستمولوجيا التي لا تعتبر المعرفة معرفة إلا إذا كانت اعتقادًا صادقًا مبررًا، فكل ما لا يمكن رؤيته ولا استشعاره بالحواس الخمسة؛ يعتبر خارج الطبيعة، وغير مقبول.. مما انسحب على الإعلام والتعليم، ومناهج الحياة، فجعل البشرية تعيش في ضرب من ضروب الحيوانية الصرفة، بل أصبح البشر آلات تستهلك وتُستهلك فقط، مما تسبب عنه أمراض اجتماعية ونفسية وروحية لا نهاية لها.
فالأزمة الروحية العالمية؛ هي نتاج طبيعي لتغول الفكر المادي، ممثلاً في العلمانية، واللادينية، والتي تشتد في ضراوتها وحربها عندما يكون الطرف المقابل هو الإسلام.
– وما أهم مظاهر هذه الأزمة ؟
للأزمة الروحية العالمية مظاهر كثيرة، من أهمها: الأزمات النفسية التي تتسبب في الأمراض العصبية والنفسية، والتي تنتج عنها الجريمة، والانتحار، والتباغض، وكذلك الانقطاع الحضاري بين الماضي والحاضر، مما جعل الماضي عبارة عن متاحف وتماثيل لا تستحق سوى معرفتها الشكلية كضرب من ضروب الماضي، أو تحف من التحف الإنسانية، لا جذورًا لواقع يستفيد منها في بناء مستقبله.
فالابتعاد عن الدين، عقيدةً وتشريعًا ونظامًا للدول قيادةً وقانونًا، جعل من المجتمعات تدور بين متناقضين اثنين: الأول أنها تعيش كالدواب، الكبير يأكل الصغير، والقوي يقهر الضعيف، مع انتشار الرذيلة بكافة صورها.. أما النقيض الآخر؛ فهو أن البشر أصبحوا يعيشون كأنهم آلات لها توقيت خاص للعمل، ولا تفهم خارج تخصصاتها، ولا تعي قيم صلة الرحم، والمؤاخاة، والأسرة، ورضاء الوالدين، وغير ذلك من المفاهيم التي تبني نواة المجتمع وهي الأسرة، وبالأحرى ما يتعدى عنها.
فلسفة الإسلام قامت على التوازن بين المادة والروح
هذه السلبيات تسببت في صراعات طويلة، وحروب، وجرائم بين الدول والمجتمعات، وظهور مظاهر لم تكن معروفة من قبل؛ كمآوي العجزة، ودور الأيتام.. واندثار مظاهر أخرى أو انحسارها؛ كالزوايا ، والتكايا، والأوقاف.
– وماذا عن الأسباب التي أدت إليها ؟
لا شك ان أسباب هذه الوضعية، كما أشرتُ إليه، تعود للإغراق في الفكر المادي، وهذا الإغراق كان سببًا للإغراق في الفكر الروحي في العصور الوسطى، في أوروبا بالخصوص، خاصة لما أصبحت الروح سببًا لاستغلال الناس، وجمع الأموال، وانتشار الجريمة باسم الدين، كمحاكم التفتيش في القرون الوسطى، وأصبحت الروح وما يتم لها بصفة في قفص الاتهام، مع فشلها في مواكبة طموح المجتمعات نحو الرقي والنهوض لمتطلبات الحياة.
لقد جاء الإسلام لبناء الحياة، ولخلافة الله في الأرض وعمارتها؛ ولكن لما ضعف هذا المفهوم حتى في المجتمعات الإسلامية، وفقدت دور القدوة الذي تمثل واضحًا في الحضارة الإسلامية في الأندلس، وفي العراق، وفي الهند، وفي بلاد ما وراء النهر.. أصبح الجانب الروحي، ومع الدين مطلقًا، في دائرة الاتهام! وذلك وإن كان أقوى في المجتمعات المسيحية الأوروبية، خاصة وأنها تفتقد لشريعة تنظم حياتها؛ فإن ذلك انسحب أيضًا في المجتمعات الإسلامية، طورًا بحرب فكرية، وطورًا آخر بالحديد والنار!
– هل “الأزمة الروحية” تختلف بين الشرق والغرب ؟
مما لا شك أن الأزمة الروحية من حيث هي، تعتبر داءً استشرى في الدنيا جميعها، شرقها وغربها، ولكن ما من شك أن هذا الداء قوي جدًّا في المجتمعات الأوروبية باعتبارها كانت ذات الريادة في رفض كل ما هو روحي، كما أنها تحولت من الانهماك في الماديات إلى الكفر بالأديان جملةً وتفصيلاً.. بخلاف المجتمعات الشرقية، بما فيها الوثنية، فإنها استطاعت أن تعطي جانبًا مهما للروح، مع عزلها عن الجانب المادي.
نعم؛ المجتمعات المسلمة أصبحت تائهة أمام هذا المعترك؛ خاصة وأن الدين لم يكن سببًا في الابتعاد عن الواقع، وعن عمارة الدنيا، والتطور الحضاري.. إنما كان سوء تفسير الدين من جهة، والتجهيل الذي قام به الاستعمار وأذنابه في العالم الإسلامي، من جهة أخرى.
– الخطاب الديني الغربي هل هو قادر على ملء الفراغ، أم هو جزء من أسباب الأزمة الروحية ؟
الخطاب الديني الغربي يتجلى في أقوال الفلاسفة الغربيين، بين من يريد أن يجعل من الدين قومية، ومن يريد أن يكيف الدين مع المادة، ومع من يرفض الدين تمامًا.. ولذلك نجد في الغرب ثورة اجتماعية للبحث عن الروح، وهناك اتجاهان: اتجاه يبحث عن الدين بين الديانات السماوية، وكثير منهم ينخرط في الإسلام، حينما يستطيع التعرف عليه. كما أن هناك جانبًا آخر متأثرًا بالبوذية والكونفوشيوسية، التي تغزو الغرب عن طريق الجامعات، وصالات الرياضة.
ولذلك فإن الخطاب الديني الغربي نفسه هو خطاب مضطرب، غير مستقر وليس ذا لون واحد؛ مما يجعله مفتقرًا لبادرة القدوة، بمقدار ما هو متمكن من نشر الشُّبه، ووضع الإشكالات التي تنتهي في الغالب إلى غير نتيجة! الغرب فقير دينيًّا، ولا يمكنه تصدير أي تجربة دينية للعالم.
وقد حاول الغرب تصدير التجربة البروتستانتية للإسلام، ثم التجربة الحداثية، غير أن تأثيره بقي محدودًا إلى جانب كبير.. وأهم شيء نجح فيه الغرب؛ هو: تشويه صورة الإسلام، وخلط البوصلة بين المسلمين في معرفة دينهم، وتحديد مناهجهم، وكلك نجح في ضرب المسلمين بعضهم ببعض.
لن نجد التكامل والانسجام والحقيقة المطلقة إلا في الإسلام
– المفكر الإيراني سيد حسين نصر يقول: “أصبحت الفلسفة خلال القرون القليلة الأخيرة شبه عاجزة عن تقديم أي مساعدة للغرب، بل في الواقع حتى للبشر أجمعين الذين أصبحوا بحاجة ماسة إلى الإرشاد الروحي”.. إلى أي مدى تتفقون أو تختلفون مع هذه الرؤية ؟
ما وصفتُه أعلاه يتوافق إلى حد كبير مع كلام المفكر سيد حسين نصر، وهو كذلك نفس ما قاله المفكر الفرنسي الذي أسلم فيما بعد روني كيون (عبد الواحد يحيى)، وكذا الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه جارودي، لأن أفكار كانط، ولوك، وباكون، وديكارت، وساندرز وجيمس وديوي، استهلكت في القرون الأخيرة، ولم تبق ناجعة، ولم تعط أفكار فوكوياما وهنتنتغتون، وأمثالهما أي حلول في هذا الاتجاه، بقدر ما رسخت لفكر الصراع والتنافس.
– كيف ترون عناية الإسلام بالجانب الروحي في الإنسان ؟
الإسلام وازن بين الروح والدنيا، بل استطاع أن يساوي بين الروح (الغيب) والمادة، باعتبار الدنيا دار ممر، والآخرة دار مقر، وأن الدنيا إنما هي دار ابتلاء، وأن عمارة الآخرة في حسن عمارة الدنيا على هدي النبي ﷺ.. والنصوص في هذه المفاهيم أكثر من أن أسردها في هذا الحوار، ولكن يكفي توضيح أن فلسفة الإسلام قامت على التوازن بين المادة والروح.
فنحن نعمل؛ ونعلم أن الله يرانا، وأنه سيحاسبنا، ولدينا واجبات دينية متمثلة في العبادات، كما أن لدينا واجبات دنيوية متمثلة في عمارة الدنيا، وأداء الحقوق، والأخذ بالأسباب، والتطبب، وتشييد البنايات، ونشر العلم وأسبابه، وأن الذي ينظم تلك العلاقة هي الشريعة التي وضعها لنا النبي ﷺ، وترك مجالاً كبيرًا فيها للفهم والاختلاف، والتطور بحسب تطور البشرية وحاجياتها. وهذه المرونة والموازنة لا توجد في أية ديانة أخرى خلا الدين الإسلامي الحنيف.
– هل يمكن العناية بالجانب الروحي دون الأخذ في الاعتبار بقية جوانب الإنسان، من الجوانب العقلية والجسدية وغيرها ؟
الإنسان يتكون من مادة وروح، كما يقول الفلاسفة: الترابية والهوائية، أو اللاهوت والناسوت، لا ينفك أحدهما عن الآخر، والإغراق في أي جانب منهما يتسبب في البخس من الجانب الآخر، وبمقدار البعد والشطط؛ يكون الانحراف إلى أي جهة من تلك الجهات.
ولذلك فكما رفض الإسلام الانهماك في الروحيات التي وصفها الله تعالى بالرهبانية، {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} (الحديد: 27)، وفي الحديث الشريف: “أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له؛ لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي” (البخاري). كذلك رفض الإسلام الانهماك في الماديات والملاهي، والانشغال بها عن الله تعالى، وعدم اتخاذها قرابين لله، وفي طاعة الله. كما قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} (الحديد: 20). والوسط في ذلك هو الْمَهْيَعُ الشرعي، حيث قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: 77).
ولذلك؛ فإن الانهماك في الجانب الروحي، مع إهمال الجانب المادي، يعتبر شططًا وخروجًا عن الفطرة التي فطرها الله الإنسان، وبالتالي انحرافًا عن الصراط المستقيم الذي هو القانون والناموس الذي جعله الله تعالى للهداية، والقدرة على الاستمرار في الحياة.
نعم؛ الحاجة للجانب الروحي والمادي تختلف من شخص لشخص، ومن حال لحال، ومن مجتمع لمجتمع؛ ولكن حديثنا هنا عن الوضع العام، والظاهرة العامة التي يعيش في كنفها جميع طبقات المجتمع.
– كيف انحرفت بعض الاتجاهات الروحية في تاريخ الفكر الإسلامي ؟
كما أن الفكر المادي المتطرف يعتبر أثرًا سلبيًا للانهماك في الفكر الروحي، كذلك الفكر الروحي المتطرف كان نتيجة للانهماك في الفكر المادي؛ ففي العصر العباسي انشغل الناس بالدنيا وعمارتها، وركنوا إلى ملذاتها وجاذبيتها.. فكما انتشرت العلوم، والصناعات، والاختراعات، وجمالية الحضارة وأبهتها بمختلف صنوفها؛ كذلك انتشر الزنا والخنا، والتلاعب بدين الله تعالى، وانتشار المذاهب الضالة، واتخاذ العلوم الدينية مطية للرئاسة.
فبدأت تظهر تيارات تعتني بالابتعاد عن تلك المظاهر المادية المغرقة، وتدرب أتباعها على النفور من كل ما له علاقة بمتع الدنيا ونزواتها، وسُميت تلك الجماعات بالصوفية. غير أن ذلك الابتعاد تدرج بين ابتعاد شرعي، مبني على التوازن بين الروح والمادة، وبين شطط ونفور بحيث يصبح الإنسان وواقع الحياة طرفين متضادين. وقد صوَّر الإمام ابن الجوزي في كتابه “تلبيس إبليس” الكثير من تلك المظاهر السلبية.
كما أن الإغراق في العرفان، والبحث عن غوامض العلوم، والعبارات والمصطلحات التي هي أقرب لكونها ألغازًا من كونها حاملةً لمفاهيم بناءة، تسبب كل ذلك في انتشار أفكار الحلول والاتحاد، والباطنية، بل وصل بعضها للإلحاد، ليلتقي الفكر المادي والفكر الروحي في أبشع صورهما. وهذا من غرائب الفكر الإنساني، أن يلتقي المتناقضان في ساحة واحدة!
– ما أسباب هذا الانحراف؟ وهل كان منها التأثر بالثقافات الأخرى، لاسيما الثقافة الفارسية والهندية ؟
عندما نتحدث عن الفكر الروحي، فهو بخلاف الفكر المادي، غير واضح المعالم، ولا متضح الحدود، وكما هي نظريتي سابقًا، أن الإسلام عندما انتشر بين حضارات عريقة قديمة؛ كالقبطية والفارسية، والرومية، والبيزنطية، والإغريقية، والهندية، وكلها حضارات أنتجت فلاسفة كبارًا، وفقهاء قانونيين عظامًا.. لما دخل الإسلام تلك المجتمعات فإنه كما أثر فيها، فإنها أثرت فيه أيضًا، ذلك التأثير الذي وإن لم يكن متجليًا بوضوح في الشرائع في حد ذاتها؛ غير أنه متجلٍّ في فلسفة التشريع، وفي المعايير التي تُفهَم بها الشريعة، وتُستنبط عن طريقها الأفكار، وهو ما أعطى لكل إقليم من الأقاليم المسلمة ميزاته الحضارية والفقهية، بل حتى العقدية والثقافية.
وليس الجانب الروحي بمعزل عن ذلك؛ فقد تأثر التصوف بالمسيحية، وبالهندوسية، وبالبوذية، وباليهودية؛ كل ذلك من حيث الروح والنزعات، وفهم النصوص والاستنباط منها، وذلك التأثر يتسع ويضيق، مما أعطى للمدارس الروحية فيها تلونًا واسعًا متأثرًا تأثرًا واضحًا بالمجتمعات التي انتشر فيها. وهذا التأثر لا يعني أنه تأثر محظور؛ فإن التلون بألوان المجتمعات لا يعتبر بحد ذاته صفة ذميمة؛ إلا إذا انسحب ذلك التأثر على التشريع، والتصريف في خصوصيات الوحي من الحلال والحرام، والقبول والرد، فهنا ينشأ الانحراف الذي قد يبلغ دركات مظلمة، ومما لا شك فيه أنه وقع في الفكر الإسلامي أيضًا.
التجربة الروحية يجب أن يعيشها الإنسان في جميع حياته
– إذا وجهتم كلمة إلى “الإنسان” في وقتنا المعاصر.. فماذا تقولون له ؟
الإنسان بطبعه يحب المادة، فهو لا يؤمن إلا بما يحس به، ولا يتصور إلا ما يمكنه إدراكه، وبطبعه الإنساني يحب أن يعيش ويستمتع بما هو حوله مما يشبع نزواته، ويضمن له الخلود والاستمرار.
كما أن هناك فجوة دائمة في قلب الإنسان، تُسائله عن سبب وجوده؟ وكيف كان وجوده؟ ومن هو المسيطر على هذا الواقع المحيط به؟ من هو الصانع الأول؟ إذا متنا هل سنفنى؟ أم إلى أين سنذهب؟.. وهذا عالم كبير يعيشه كل فرد من أفراد البشرية، خاصة عند الشبع من نهمة الدنيا، أو عدم إدراكها، أو العجز عنها.. وهذه التساؤلات تعظم في النفس البشرية إلى أن تصلها لدرجة اليأس إذا لم تجد جوابًا؟
فمن الطبيعة البشرية أن يبحث الإنسان عن أجوبة تلك التساؤلات؟ ويعيش في ذلك العالم المناقض تمامًا للعالم الواقعي الذي يراه بأحاسيسه، هناك أديان كثيرة، منها الوضعي، ومنها السماوي، وهي ميادين فسيحة لاستهلاك الجانب الروحي، وإشباع الرغبة الروحية لدى الإنسان، بما يجعله مطمئنًا، منسجمًا مع فطرته.
ولكن؛ هل كل تجربة روحية تشبع نهمة الإنسان؟ وهل كل تجربة روحية يستطيع الإنسان العيش منسجمًا بها بين ضروراته المعيشية، وبين خصاصه الروحي؟ وما هو الدين؟ وما هي قيمته إن كان من صنع البشر؟ وهل يمكن للبشر أن يصنع روحًا تعيده لإنسانيته، وتجيب عن جميع تساؤلاته؟
لا شك أن التجربة الروحية يجب أن يعيشها الإنسان في جميع حياته؛ فيجب أن تشمل عقيدة، متينة، صحيحة، وتشريعًا يربط بين تلك العقيدة وبين حياته، وروحًا تكون رقيبًا على قلبه، تربطه بربه، وتحذّره كل وقت من الابتعاد عنه، كما أنها تطمئنه حين يستحضره ويعمل بمرضاته.. ولن يجد البشر ذلك التكامل، والانسجام، والحقيقة المطلقة، إلا في دين الإسلام وشريعته، على هدي النبي ﷺ.