على رأس كل سنة ميلادية يتكرر الجدال بين المسلمين، ويتشعب باتجاهات مختلفة، حتى إن المراقب أو القارئ لا يستطيع أن يلمّ بأطراف الحديث، واللافت أنهم جميعاً يستحضرون الأدلة الشرعية، ونصوصاً من الكتاب والسنة، وهذا يعني أن الاحتكام إلى مرجعية موحّدة لم يعد كافياً لحسم الخلاف إذا لم يسبقه الاتفاق على قواعد سليمة في طريقة التفكير وآداب الحوار، وهذه إشكالية متكررة في أغلب المسائل الخلافية، وأذكر أني كتبت في صحيفة «العرب»: «الانتخابات العراقية وحوار الطرشان»، لأني وجدت المختلفين في الأغلب كأن كل واحد منهم يعيش في عالمه الخاص، ولا يود أن يفتح ولو نافذة صغيرة لفهم مراد الآخر، ويزيد من حدة القطيعة ما يقذفه على خصمه من شتائم واتهامات!
إن من قواعد التفكير المنطقي السليم السعي لتحرير محل النزاع، وتجريده مما قد يعلق به، ومن قواعده أيضاً عدم إلزام الآخر بلازم القول إذا لم يكن ملتزماً به، ولو طبّقنا هاتين القاعدتين فقط فإننا سنقترب كثيراً من الحلّ.
ما نقطة الخلاف بالضبط؟
من المقطوع به أن المسلمين لا يختلفون في أصل التوحيد وبطلان عقيدة التثليث، وكذلك بطلان نسبة الولد إلى الله -تعالى الله عن ذلك- لأن القرآن الكريم حسم الأمر في هذا بما لا يقبل أدنى مجال للشك أو الخلاف: «وقالوا اتخذ الرحمن ولداً، لقد جئتم شيئاً إداً، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هداً، أن دعوا للرحمن ولداً، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً، إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً»، وقوله أيضاً: «لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة»، فلا يتصوّر بعد هذا أن مسلماً ما سيحتفل بولادة ابن لله أو شريك معه -تعالى الله عن ذلك- ولو فعل لخرج من دائرة الإسلام جملة وتفصيلاً، فما الذي يعنيه إذاً احتجاج بعض العلماء على بعض بمثل هذه القطعيات والآيات البيّنات، وكأنها هي محل الخلاف؟
كنت أستمع لخطيبنا وهو يتلو هذه الآيات تمهيداً لفتواه بحرمة تهنئة النصارى بأعيادهم، لأن التهنئة فيها معنى الإقرار بتلك العقائد الباطلة، وكنت أنظر إلى مواقيت الصلاة المعلّقة على قبلة المسجد فأرى فيها التقويم الميلادي إلى جانب التقويم الهجري، وتساءلت في نفسي، أليس هذا إقراراً أيضاً؟
خرجت فوجدت تغريدة من شيخ آخر له وزنه في بلده، يدعو إلى أن يحتفل المسلمون احتفالاً إسلامياً بمولد عيسى -عليه السلام-! ربما يفكر الشيخ بتحقيق مصلحة التواصل والتعايش مع تجنب مشكلة «الإقرار» هذه! لكنه نسي أنه سيقع في مشكلة أخرى، بينما يرى علماء آخرون -لهم وزنهم أيضاً- أنه لا تلازم بين تهنئة النصارى في مناسباتهم ومسألة الإقرار بمعتقداتهم، إذ إنه لو أطلقنا القول باللازم لتوصلنا إلى فوضى لا زمام لها، فقد يقول لك قائل: إن لازم صلح الحديبية الإقرار ببقاء الأصنام في الكعبة والقبول بسلطة المشركين عليها لعشر سنين!
فإلى أي مدى يمكن القول إن علماءنا قد اختلفوا فعلاً في ثوابت الدين وقطعياته، سواء في هذه المسألة أم في غيرها؟
الحقيقة أن العلماء لم يختلفوا في القطعيات أو البديهيات، لكنها أزمة الحوار التي حوّلت الخلاف في هذه المسألة وغيرها من دائرة الظنّيات إلى دائرة القطعيات، ومن دائرة الفرعيات إلى دائرة الكليات، وهي أزمة تنقل الحوار من دائرة البحث عن الحقيقة والرأي الأصوب إلى دائرة التشنيع والتهويل وتسجيل النقاط على الخصوم، وللأمانة فهي أزمة متجذرة في تراثنا وتاريخنا الطويل.
أنظر مثلاً إلى محنة الإمام أحمد ومسألة خلق القرآن ومسألة الأسماء والصفات، كم أخذت من الجهد والوقت والصراع والنزاع، ما حقيقتها؟ وما مسوّغ الخلاف فيها؟ وهل فعلاً كان الإمام أحمد أو الحنابلة عموماً مشبّهة ومجسمة، كما يصفهم المعتزلة؟ أو هل كان المأمون والمعتصم ومن تبعهما من أهل الاعتزال ينكرون أن يكون القرآن كلام الله كما يصفهم بعض الحنابلة؟ ليس هذا فقط، بل كل فرقة راحت تنسب أفكار الفرقة الأخرى إلى الأصول «اليهودية»، فاليهود يجب أن يحضروا في المشهد بقوّة!! والحقيقة أن بقية الفِرق لا تختلف كثيراً في استخدام مثل هذه الأساليب، وكأنّ هؤلاء كانوا يتقربون إلى الله بهذا التهويل والتشنيع ولو بأدنى لازم أو شبهة، ولو كان هذا على حساب الحق والحقيقة ومصلحة الأمة، ولذلك فإن على كل باحث اليوم أن يتحرّى أفكار كل مذهب من مصادر المذهب نفسه لا من مصادر مخالفيه، وإلا فهو واقع في الظلم ومجانبة الصواب في الحكم شاء أو أبى.
في موضوعنا اليوم، يمكن القول إن نقطة الخلاف ليس لها علاقة بالثوابت ولا بالقطعيات، ولا ينبغي أبداً إدخالها في هذا الإطار الخطير، فالمسلمون ليسوا متشككين في عقيدتهم، ولا ينبغي النزول إلى هذا الدرك من الاتهامات، وإنما الإطار الصحيح هو النظر في النتائج والمآلات والآثار العملية لكل رأي أو فتوى، وانعكاسات ذلك في حياتنا وعلاقاتنا وثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا.
إن نقطة الخلاف الجوهرية التي تنتظم هذه المسألة ومثيلاتها تكمن في ضبط التوازن بين قيمة الحفاظ على هويتنا وخصوصيتنا الثقافية من ناحية، وبين قيمة التسامح والتعايش مع الآخرين على ما هم عليه من ناحية أخرى، وهذا الخلاف ينبغي أن يتجاوز حالة ردود الأفعال والتعصّب الأعمى إلى دراسة علمية موضوعية وتقدير سليم لطبيعة المجتمع ومدى حصانته أو قابليته للتأثّر، وقياس جملة المصالح والمفاسد زماناً ومكاناً وحالاً، فمثلاً: انعزال الجاليات الإسلامية عن محيطها في تلك الدول يحكم عليها بالاختناق والموت، كما أن الانفتاح المطلق سيهدد تلك الجاليات بالذوبان والأفول، وهنا نحتاج إلى اجتهاد دقيق، نتجاوز فيه الاختناق كما نتجاوز فيه الذوبان.
إن التغني الفارغ بقيمة الانفتاح والتعايش والتسامح من دون إعداد مكافئ وتربية رصينة، قد يعرّض أجيالنا بالفعل للضياع، كما أن سياسة التخويف وتغليق الأبواب قد تخرج لنا شخصيات مهزوزة وضعيفة الثقة بهويتها وثقافتها، مما يهدد بنتائج عكسية قد تصل إلى حالة من التمرد على هذه الأبواب وعلى حرّاسها.
إن بداية الحل لن تكون بتصحيح هذه الفتوى أو تلك، ولا بالتقاط الشواهد التفصيلية المقطّعة من هنا وهناك، وإنما بمعالجة جذرية لأزمة الحوار و»التخاطب» الإسلامي-الإسلامي، والخروج من عنق هذه الزجاجة قبل أن يغادرنا الزمن إلى غير رجعة.