قصة الصحابي الكريم ربعي بن عامر التميمي مع قائد قوات جيش الفرس بالقادسية، قصة ملهمة تستحق كثير تأمل ودراسة. حيث تطوع أن يقوم بمهمة التفاوض مع الفرس بنفسه، على عكس ما اقترحه سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – ارسال وفد لرستم، فقد رأى التميمي أن ارسال وفد قد يوحي للفرس أن المسلمين في خشية وقلق منهم، لكن ارسال فرد واحد فقط من شأنه إحداث تأثير سلبي في نفوسهم، وزرع الوهن فيهم كنوع من حرب نفسية قبل التلاقي في أرض المعركة. وقد كان ما أراد ربعي، الذي كان أحد سادات قومه.
يذهب ربعي بن عامر ويدخل على خيمة رستم المزينة بالذهب والفرش والتيجان على عادة ملوك الفرس في إظهار هيبتهم وعظمتهم بتلك الماديات والمظهريات، والتي لم يلق ربعي لها بالاً، بل دخل بكامل سلاحه بعد أن أوقفه الحرس ومنعوه من الدخول بسلاحه، فقال لهم: أنتم دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، وكان له ما أراد أيضاً.
دخل ربعي بن عامر بثياب متواضعة وسيف وترس ووقف أمام رستم الذي قال له: ما جاء بكم؟ فقال بثقة المؤمن صاحب الرؤية الواضحة والمعتز بدينه وهويته: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله.
قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي. فقال رستم: قد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا ؟ قال: نعم، كم أحب إليكم؟ أيوم أو يومان؟ قال: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. فقال: ما سن لنا رسول الله – ﷺ – أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل.
فقال: أسيدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد، يجير أدناهم على أعلاهم – أي إذا أعطى أدناهم وعداً لأحد، فلابد أن يوفي بذلك أعلاهم. وانتهى اللقاء على ذلك. فاجتمع رستم برؤساء قومه، فقال: هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل؟ فشعروا بميل رستم لكلام ربعي والخشية أن يدع ناره ويدخل الإسلام، فقالوا: أما ترى إلى ثيابه؟ فقال لهم رستم: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل، ويصونون الأحساب.
هوية ربعي بن عامر
الشاهد من القصة أن ربعي بن عامر وهو في حضرة قائد جيوش الفرس المهاب، دخل عليه بشخصية المسلم المعتز بدينه، وليس بصفته سيداً عربياً تميمياً، صاحب حسب ونسب، بل ودخل بثياب متواضعة وتحدث كما تعلم من رسول الله – ﷺ – أن يدعو غيره إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وبنفسية ترقى للسماء، وعزة مستمدة من الخضوع لله لا لغيره من آلهة أو معبودات مادية أو حسية.
دخل ربعي بن عامر معتزاً بهويته كمسلم. عزة اكتسبها من فهم دقيق وصحيح لدينه، مفاده أن لا أحد يستحق العبادة والخضوع له في هذه الحياة إلا الله الواحد الأحد. لا يخضع لصنم ولا نار ولا كاهن ولا جن ولا ملائكة ولا غيرها. بهذه النفسية العزيزة والهوية الواضحة الراقية، واجه رستم المزعزع داخلياً، الخاضع لنار لا تضر ولا تنفع، وبالتالي صار لا يستحق تقديراً أو ما يستدعي الخشية والرهبة منه.
إنه عبد لوثن أو هوى أو غير ذلك. لا هوية ولا عقيدة. وما قام به ربعي هو أقل ما يمكن التعامل به مع أمثال رستم وغيره من عبّاد الأوثان، نيراناً كانت أم أحجارا وأشجارا. وما انتهت تلك الأمم والحضارات إلا لأنها صنعت أوثاناً تعبدها وتتقرب إليها من دون الله، فاستحقت بذلك الذلة قبل الهزيمة والاندثار.
الأوثان الجديدة
الوثنية ليست في أدغال الأمازون أو جبال التبت وغابات أفريقيا فحسب، بل الوثنية قد تكون في أرقى القصور وأفخم المكاتب وأغنى الدول وبين أكثر البشر علماً ودراية.. قد نجد الوثنية في نفوس أتباع اليهودية والمسيحية والبوذية وغيرهم من الملل والنحل، بل قد نجدها في المسلمين أيضاً، حيث لا يمنع مانع من ذلك، بل وجدنا ما هو أكثر من ذلك من حيث ندري أو لا ندري!
انظر حولك الآن وتأمل قليلاً واسترجع بالذاكرة أو حتى ملاحظة حاضرك.. ستجد كماً من الأوثان حولك، بل ربما في أعماقك أو اللاوعي الخاص بك وأنت لا تدري، في الوقت الذي قد تعتبر نفسك تقياً نقياً مؤمناً ! نحن اليوم صنعنا أوثاناً من حولنا نقدسها، وإن لم نكن نعبدها.. أوثانٌ على شكل أفكار أو مذاهب أو رجال أو كتب أو جمادات أو مفاهيم أو شعارات أو غيرها من مفردات وتركيبات الحياة..
قبل الإسلام، الأوثان كانت كثيرة.. هذا خضع لصنم، وآخر لشجر، وثالث لكوكب، ورابع لملك، وهكذا حتى جاء الإسلام وحرر البشر، فرأيت ربعياً في حضرة أقوى رجالات ذلك الزمان، لا يأبه به ولا يعطيه أدنى اهتمام. لماذا؟ لأنه اعتز بدينه، أو هويته المسلمة، فدخل عزيزاً مرهوب الجانب.
إنها الهوية التي لعب الاستعمار أو الاستدمار الخبيث، دوراً في محوها من حياة المسلمين وحياة هذه الأمة شيئاً فشيئا. فبدأ بالضرب في الخلافة، رغم ضعفها الشديد قبل قرن من الزمان، لكنها كانت نقطة تلاقي أبناء هذه الأمة، فخرجت من قاموس المسلمين. ثم تم الترويج لوثن الهوية القومية حتى اعتز العرب بقوميتهم ومثلهم الترك والفرس والهند والزنج وغيرهم من المسلمين، ليتعمق تمزيق المسلمين من بعد تشرذمهم وانفلات أمرهم بإلغاء الخلافة، وتقوقعهم في قومياتهم، ليظهر بعد قليل وثن الهوية الوطنية، ليعتز كل قوم بحدودهم الجغرافية المصطنعة! ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل استمر الحال أكثر فأكثر في التردي، ليتعمق التقسيم في الجغرافية الواحدة لترى قبيلة تتفاخر على قبيلة، وفخيذة على أخرى، كما لو أننا رجعنا القهقرى إلى ما قبل البعثة النبوية الكريمة !
من يحترم المسلم اليوم؟
أترى بعد كل هذا الغرق في الوثنيات، يظهر من يحترم المسلم اليوم؟
لقد كنا قاب قوسين أو أدنى من الاستقرار في أدنى ركب الأمم، حيث لا يأبه بحالك أحد، لولا الله ثم ما جرى ولا يزال يجري في غزة. نعم، غزة العزة، هي من أوقفت هذا الهبوط وهذا الغرق، وأجبر العالم كله لا لينظر إلى حالنا، بل إلى ما يجري في هذا العالم الفوضوي، ويرى مصدر الفوضى والإجرام، ويتساءل في الوقت نفسه عن سر صمود وشجاعة أهل غزة، مقاتلين وحواضن شعبية، وسر هبوطنا المذل، وقد خرج فينا من ذي قبل، شخص مثل ربعي بن عامر، يفتخر بهويته الإسلامية، ويجبر أبرز رجالات الأمم في ذلك الزمان على قبول إملاءاته، ثم لينهزم بعدها بأيام وتنهار مملكته إلى غير رجعة.
رأى العالم أن العلة فينا كشعوب وأفراد مسلوبة الإرادة وليس ديننا. نحن من صنعنا وخلقنا أوثاناً من دون الله نخضع لها ونتبعها ونسجد لها ونهواها، فكان جزاؤنا هو حالنا قبل طوفان الأقصى، الذي سيكون نقطة انطلاق أو نهوض جديد بإذن الله، ما لم تتوحش الوثنيات فينا هنا وهناك أكثر فأكثر، وبمعية ما بقي لدى الغرب المتوحش المنهار في أساسه، من قوى ومؤثرات.
إنها خواطر صيفية سريعة جالت بنفسي أثناء مطالعة وتأمل مشهد ربعي مع رستم، فتحولت إلى كلمات هي التي تقرأها الآن، راجياً من الله في الوقت ذاته، أن يبدأ كل أحد منا بالتخلص من أوثانه أولاً، قبل أوثان غيره وعشرات الأوثان المجتمعية والوطنية والقومية والأممية وغيرها، فإن تحطيم تلك الأوثان، خطوة أولى نحو نهوض جديد بإذن الله، وما ذلك على الله بعزيز.