في عالم تتسارع فيه وتيرة التغيرات الفكرية والحضارية، وتتلاطم فيه أمواج التغريب والتحديث، تبرز قامات فكرية نادرة تجمع بين عمق الأصالة ووعي المعاصرة. من بين هذه القامات الشامخة، يبرز اسم المفكر الإسلامي السوداني البروفيسور جعفر شيخ إدريس، الذي وافته المنية في التاسع عشر من يوليو عام 2025 عن عمر ناهز 94 عامًا، تاركًا وراءه إرثًا فكريًا وعلميًا غنيًا أثرى الساحة الإسلامية والعالمية لعقود طويلة.
لم يكن جعفر شيخ إدريس مجرد عالم أو داعية، بل كان مهندسًا فكريًا بنى جسورًا معرفية متينة بين العلوم الشرعية والفلسفة الغربية، مقدمًا نموذجًا فريدًا للعقل المسلم الذي يستطيع أن يخاطب العصر بلغته ومنطقه دون التنازل عن ثوابت العقيدة.
تأتي أهمية هذه السيرة المختصرة للغاية، في تسليط الضوء على مسيرة حياة هذا المفكر الفذ، الذي نشأ في بيئة علمية ودينية أصيلة، ثم انطلق في رحلة أكاديمية عابرة للقارات، ليجمع بين التكوين الشرعي المتين والتحصيل الفلسفي العميق. سنستعرض في هذا المقال أبرز محطات حياته، بدءًا من نشأته في بورتسودان، مرورًا بتكوينه الفكري ونشاطه الطلابي، وصولًا إلى مسيرته الأكاديمية الحافلة في جامعات السودان والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية.
كما سنتطرق إلى مشروع المفكر السوداني جعفر شيخ إدريس الفكري الفريد، الذي تمحور حول التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، ونقد الفلسفة الغربية، وتأسيس نظرية المعرفة الإسلامية، ودوره الريادي في مجال أسلمة العلوم. وسنختتم بتسليط الضوء على تأثيره البالغ على الأجيال المتعاقبة من المفكرين والباحثين، ومكانته كمرجع فكري وتربوي في العالم الإسلامي.
النشأة والتكوين الفكري
وُلد البروفيسور جعفر شيخ إدريس عام 1931 في مدينة بورتسودان، الواقعة شرق السودان، لعائلة متدينة تعود جذورها إلى منطقة نوري شمالي البلاد، وتحديدًا من بلدة السقاي. نشأ في بيئة علمية ودينية، حيث أتم حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وتلقى تعليمه الأولي في خلاوي القرآن الكريم. على الرغم من حادث ألم بقدمه في سن السادسة أعاقه عن المشي لقرابة ثلاث سنوات، مما أخر التحاقه بالتعليم النظامي، إلا أنه اعتبر هذه التجربة نعمة حفزته على الجد والمثابرة في طلب العلم.
في سن الحادية عشرة، تأثر جعفر شيخ إدريس ببعض أقاربه من جماعة أنصار السنة المحمدية، مما غرس فيه تعظيم الكتاب والسنة والنفور من البدع، وحب العلم ومجالسة العلماء، والالتفات إلى كتب الإمامين ابن القيم وابن تيمية. التحق بالتعليم النظامي متأخرًا، لكنه تفوق فيه بشكل باهر، مما أهله للالتحاق بمدرسة حنتوب الثانوية المرموقة عام 1950، والتي كانت من أهم ثلاث مدارس ثانوية في السودان آنذاك.
خلال دراسته الثانوية في مطلع خمسينيات القرن العشرين، انضم جعفر شيخ إدريس إلى حركة التحرير الإسلامي، التي تغير اسمها لاحقًا إلى جماعة الإخوان المسلمين. كان عضوًا نشطًا في الحركة، يلقي الدروس والمحاضرات في مواجهة المد الفكري الشيوعي الذي كان سائدًا في تلك الفترة، مما يجعله من الجيل المؤسس للحركة الإسلامية السودانية. هذا المزج المبكر بين النشاط الدعوي والعمق الفلسفي شكّل ملامح مشروعه الفكري فيما بعد .
التحق جعفر شيخ إدريس بكلية الآداب بجامعة الخرطوم، حيث برز كأحد أبرز القيادات الطلابية وأصبح رئيسًا لاتحاد طلاب الجامعة. في هذه الفترة، عاصر أول حكم عسكري في السودان بقيادة الفريق إبراهيم عبود، وكان صاحب أول مذكرة تقدمها جهة مدنية تطالب الجيش بالعودة إلى ثكناته. حصل على درجة البكالوريوس مع مرتبة الشرف في الفلسفة وتخصص ثانوي في الاقتصاد عام 1961.
ثم ابتعثته الجامعة لدراسة الماجستير في جامعة لندن، لكنه ترك الدراسة واستقال من الجامعة للمشاركة في العمل السياسي الإسلامي بعد سقوط نظام عبود. عاد للجامعة مرة أخرى عام 1967، وحصل على درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم عام 1970 من جامعة الخرطوم، وكانت دراسته الفعلية في جامعة لندن، وكانت أطروحته حول “مفهوم السببية في الإسلام“. بهذا الإنجاز، أصبح من أوائل الأكاديميين السودانيين الذين يجمعون بين علوم الشريعة الإسلامية والفلسفة الغربية الحديثة بمنهجية علمية رصينة.
المسيرة الأكاديمية والمهنية
بدأ البروفيسور جعفر شيخ إدريس مسيرته في التدريس الجامعي أواخر الستينيات، متنقلاً بين مؤسسات علمية مرموقة. عمل مدرسًا للفلسفة في جامعة الخرطوم بين عامي 1967 و1973. في عام 1973، اضطر الدكتور جعفر للخروج من السودان إبان حكم الرئيس جعفر نميري، فهاجر متخفيًا عبر غرب السودان إلى ليبيا ومنها إلى لندن ثم السعودية.
في المملكة العربية السعودية، عمل جعفر شيخ إدريس أستاذًا بقسم الثقافة الإسلامية في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود حاليًا)، قبل أن ينضم إلى هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. في جامعة الإمام، تقلد عدة مناصب علمية، ودرس مواد العقيدة الإسلامية والمذاهب المعاصرة، وأسهم في تأسيس مركز البحوث بالجامعة. تدرج في مسيرته حتى أصبح من أبرز أساتذتها، وأشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه. وقد تقاعد من العمل الأكاديمي الرسمي في جامعة الإمام عام 1997، بعد مسيرة حافلة امتدت 30 عامًا.
ولم يقتصر عطاؤه على العالم العربي، بل امتد إلى الغرب، حيث تولى إدارة معهد العلوم الإسلامية والعربية في ولاية فرجينيا بالولايات المتحدة، التابع لجامعة الإمام، وشغل منصب مدير قسم البحث العلمي ثم مستشارًا للمعهد في التسعينيات. في خطوة رائدة، أسس مع نخبة من العلماء الجامعة الأمريكية المفتوحة في واشنطن عام 1995، وأصبح رئيس مجلسها التأسيسي، بهدف نشر المعرفة الإسلامية بأساليب التعليم عن بُعد. كما عمل مستشارًا للعديد من المراكز الإسلامية حول العالم، مما يعكس مكانته الدولية كمرجع فكري وتربوي.
حوار العقل والإيمان والمساهمات الفكرية
امتاز البروفيسور جعفر شيخ إدريس ببصمة فكرية فريدة، تمثلت في قدرته الفائقة على الربط بين الفلسفة الغربية ومفاهيم العقيدة الإسلامية بلغة عقلانية سلسة. وقد ساعده على ذلك إتقانه التام للغتين العربية والإنجليزية، مما جعله قادرًا على مخاطبة العقول الغربية بمنطقها ولغتها دون التنازل عن ثوابت العقيدة.
ركّز في طرحه الفكري على مركزية التوحيد وتنقية العقيدة من الشوائب، وعُرف بنقده الموضوعي والهادئ للتيارات الإلحادية والعقلانية المتطرفة، مؤمنًا بضرورة مواجهة موجات التغريب بالفكر العميق والحوار الرصين بدلًا من الشعارات. وأسهمت مقالاته وأبحاثه في ترشيد الخطاب الإسلامي، داعيًا إلى تقديم الإسلام بصورة تتناسب مع العصر الحديث، مما أكسبه لقب “صوت العقل الإسلامي” لدى محبيه وتلاميذه .

يُعدّ من أوائل من كتبوا في موضوع “أسلمة العلوم” خلال السبعينيات، حيث قدم أوراقًا تأسيسية أصبحت مرجعًا لمن جاء بعده. وقد تناول هذا المفهوم بعمق، مؤكدًا على أن المبدأ الذي يجمع شتات المعرفة هو مبدأ التوحيد، والإيمان بأن طريق محمد ﷺ هو وحده الطريق الموصل إلى الحق.
في مجال نظرية المعرفة، قدم جعفر شيخ إدريس تصورًا إسلاميًا فريدًا، حيث يرى أن مصادر المعرفة عند المسلم هي الكون والوحي، ووسائلها هي الحس والعقل. ويؤكد أن الإنسان لا يمكن أن يكتسب معرفة إلا عن طريق الحس والعقل، وأن العلم يكتسب كله بعد الميلاد، لكن الإنسان يولد وفي عقله بذرة التوحيد، أي الإقرار بأنه لا إله يستحق أن يعبد إلا الإله الخالق الواحد.
المؤلفات الرئيسية
ترك البروفيسور جعفر شيخ إدريس إرثًا علميًا كبيرًا من الكتب والبحوث التي أثرت في أجيال من المفكرين. وتميزت مؤلفاته بالإيجاز والتركيز على الأطر الفكرية العامة، وجاءت معظمها في شكل رسائل صغيرة أو بحوث، وكل رسالة منها يمكن أن تكون كتابًا أو مشروعًا لعدة كتب.
من أبرز كتبه باللغة العربية:
- الفيزياء ووجود الخالق: يناقش فيه العلاقة بين الفيزياء الحديثة ووجود الخالق، مقدمًا مناقشة عقلانية إسلامية لبعض الفيزيائيين والفلاسفة الغربيين.
- نظرات في منهج العمل الإسلامي: يتناول قضايا المنهج في العمل الإسلامي.
- الإسلام لعصرنا: وهو عبارة عن أربعة كتب، كان يكتب زاوية شهرية بهذا العنوان في مجلة البيان .
- صراع الحضارات بين عولمة غربية وبعث إسلامي: يتناول صراع الحضارات وتأثير الغرب على العالم الإسلامي .
- مناهج التفكير الموصلة للحقائق الشرعية والكونية.
- الأسس الفلسفية للمذهب المادي.
من أبرز مؤلفاته باللغة الإنجليزية
- The Pillars of Faith
- Islamization: Its Philosophy & Methodology
- The Attributes of God
بالإضافة إلى ذلك، لجعفر شيخ إدريس عدد قيم من البحوث باللغتين العربية والإنجليزية، لعل من أهمها بحوثه في “الرد على أوهام المادية الجدلية”. ويُعد أوَّل من كتب في موضوع أسلمة العلوم، حيث كتب رسالتين صغيرتين حول الموضوع تُعدُّ أساسًا لكل من كتب بعده. كما له بحوث في الرد على الفكر الغربي والمذاهب المعاصرة، وبحوث عن التنظيمات الإسلامية المعاصرة.
النشاط العام والتأثير
لم يقتصر عطاء البروفيسور جعفر شيخ إدريس على التأليف والتدريس، بل امتد ليشمل نشاطًا عامًا واسعًا، جعله مرجعًا فكريًا وتربويًا على مستوى العالم الإسلامي. ألقى دروسًا ومحاضرات، وشارك في ندوات ومؤتمرات في العديد من الجامعات والمراكز الإسلامية والمساجد ومراكز البحوث في مختلف دول العالم، بما في ذلك أفريقيا وآسيا وأوروبا وأستراليا وأمريكا الشمالية ودول الكاريبي وأمريكا اللاتينية. كما شارك ببحوث قيمة في عدد كبير من المؤتمرات الإسلامية والعالمية، وظهر في العديد من البرامج التلفازية والإذاعية في دول مختلفة.
كان عضوًا فاعلاً في العديد من اللجان الأكاديمية والثقافية والسياسية، وعضوًا في اتحاد طلاب جامعة الخرطوم لسنوات طويلة، ثم رئيسًا للجنة التي قدمت أول مذكرة لحكم عبود تطالبه فيها برجوع الجيش إلى ثكناته. تميز بحجته القوية في الكتابة والنقاش، واهتدى وأسلم على يديه الكثيرون بعد توفيق الله سبحانه وتعالى. أشرف على عشرات الرسائل العلمية لدرجتي الدكتوراه والماجستير، وكتب مقالات كثيرة في الصحف السودانية، وكان له باب أسبوعي في جريدة الميثاق الإسلامي بعنوان “جنة الشوك”، ومقالات في مجلات إسلامية وأكاديمية باللغتين العربية والإنجليزية. كما كان يكتب زاوية شهرية بعنوان “الإسلام لعصرنا” في مجلة البيان حتى أقعده المرض عام 2011.
لقد كان الشيخ جعفر شيخ إدريس، رحمه الله، “أمة وحده” في الجمع بين التكوين الأصيل في العلوم الشرعية، والتمرس العميق في الفكر الفلسفي، والتأسيس لخطاب عقلاني في زمن طغت فيه الخطابات الانفعالية. تميز بالتواضع وعلو الهمة، وحسن الخلق، وكان ممن لازموا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وتأثروا به . وقد نعاه عدد كبير من العلماء والدعاة والمؤسسات الإسلامية حول العالم، واصفين إياه بالعالم والمفكر الذي جمع بين عمق العلوم الشرعية ودقة الفهم للفلسفة الغربية، وبقي ثابتًا على منهجه المعتدل حتى آخر أيامه .
لقد كان البروفيسور جعفر شيخ إدريس نموذجًا فريدًا للمفكر الإسلامي المعاصر، الذي استطاع أن يجمع بين أصالة المرجعية الشرعية وعمق الفهم للفلسفة الغربية، مقدمًا خطابًا فكريًا عقلانيًا ومتوازنًا. لقد أثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفاته القيمة، وأسهم في تشكيل وعي أجيال من الشباب والباحثين، وترك بصمة واضحة في مجالات العقيدة والفلسفة الإسلامية وأصول الفكر الإسلامي. إن رحيله يمثل خسارة كبيرة للعالم الإسلامي، لكن إرثه الفكري سيظل منارة تهدي الساعين إلى فهم الإسلام في سياق العصر، وتجسير الهوة بين الأصالة والمعاصرة. إن دعوته إلى تقديم الإسلام بصورة تتناسب مع العصر الحديث، مع التمسك بالثوابت، تظل رسالة حية وملهمة للأجيال القادمة.