رحل قبل أيام قليلة العالم العراقي الفذ والمحقق الثبت الدكتور يحيى وهيب الجبوري عن عمر يناهز التسعين، قضاه في البحث والتدقيق والتحقيق في مخطوطات تراثنا العريق، وخاصة ما يتعلق منه باللغة والأدب.
ولد الفقيد ـ رحمه الله ـ في بغداد عام (1932)، وأكمل تعليمه في العراق، وتخصص في اللغة العربية وعلومها، ولاسيما الأدب؛ حيث اختار مجال الأدبين الجاهلي والأموي، فكانت رسالته في الماجستير عن: (شعر المخضرمين وأثر الاسلام فيه)، وأطروحته في الدكتوراه عن: (لبيد بن ربيعة.. حياته وشعره)، وقد برع في مجال تحقيق التراث والدراسات المتعلقة به.
درس الفقيد في عدة جامعات عربية منها دار المعلمين العليا بتونس سنة 1971 وجامعات ليبيا وقطر والأردن. وقد طار صيته في الآفاق بما صنف من كتب وما حقق من مخطوطات وما عرب من دراسات المستشرقين عن الشعر الجاهلي والحضارة العربية.
عُرف الفقيد بدراساته العلمية الكثيرة في مجالات اختصاصه العلمي واهتمامه المعرفي، فضلًا عن فن تحقيق كتب التراث ومناهج البحث والدراسات المتعلقة بتاريخ الكتاب وفنون الكتابة، وله في هذه المجالات عشرات الكتب منذ بداية مسيرته العلمية في منتصف ستينيات القرن الميلادي الماضي، حتى الأيام الأخيرة من حياته.
ومن مؤلفات التي أثرى بها المكتبة العربية: العباس بن مرداس السلمي، شعر عروة بن أذينة، شعر عبدة بن الطبيب، شعر عبد الله بن الزبعرى، وقصائد جاهلية نادرة، الشعر الجاهلي خصائصه وفنونه، كتاب المحن، منهج البحث وتحقيق النصوص، الشعر الإسلامي والأموي، بيت الحكمة ودور العلم في الحضارة الإسلامية، الحنين والغربة في الشعر العربي، الكتاب في الحضارة العربية، الخط والكتابة في الحضارة العربية، مع المخطوطات العربية، المستشرقون والشعر الجاهلي بين الشك والتوثيق، النساء الحاكمات من الجواري والملكات، وغيرها الكثير…
يقول تلميذه مصطفى غانم الحسني: “لست أبالغ إذا قلت ان ما بذله العلامة يحيى الجبوري من جهود في تأليف مصنفات عن الشعر القديم، وما ترك من جليل الآثار تعجز عن النهوض به فرق بحث مجتمعة ومجامع متعددة.
ومن منا لم يترب على ذوقه وهو طالب بالجامعة بكتبه (الشعر الجاهلي خصائصه وفنونه) و(الملابس العربية من الشعر الجاهلي) و(أصول الشعر العربي) الذي عربه عن اللغة الإنجليزية وهو كتاب مرجليوث، فضلا عن تحقيقه لعشرات الدواوين الشعرية لشعراء جاهليين ومخضرمين واسلاميين.
وقد كان الجبوري شعلة من النشاط والحيوية والانقطاع للبحث والتحقيق والتدقيق، ولم يكن يرى أن كبر السن يمنع من البحث، بل كان يقول -كما في مقابلة له مع صحيفة الاتحاد عام 2010- إن العالم كلما كبرت سنه كان أنضج وأقدر على الاستنباط الصحيح والكشف اليقيني عن مخبئات المسائل العلمية، وأن جلّ ما قدمه العلماء المشهورون في الحضارة العربية الإسلامية وغيرهم من حضارات الأمم الأخرى كان في سنّ السبعين، وقد تمتد إلى الثمانين والتسعين.
وقال إنه عرف في بعض الجامعات العربية، وأكثر الجامعات الأوروبية أساتذة بلغوا السبعين والثمانين وما زالوا في الجامعات متفرغين للبحث والإشراف على الرسائل الجامعية ويُستشارون في القضايا العلمية وهم في مكاتبهم، ويبقون أعضاء في المجالس.
كما استطرد رحمه الله في المقابلة ذاتها نماذج من علمائنا الأوائل الذين واصلوا عطاؤهم الفكري وهم في سن الثمانين والتسعين، ومنهم الجاحِظ الذي توفي وعمره اثنان وثمانون سنة (163 – 255هـ) وأنجز في هذا العُمر الحافل أربعين مُؤلَفاً بين كتاب ورسالة، وابن الجوزي، وقد قارب التسعين (508 – 597هـ)، وقد بلغت مؤلفاته المئات، وقيل ستمائة وصل منها خمسون كتاباً، والمؤرخ الطبري الذي بلغ السادسة والثمانين (224 ـ 310هـ) وأنجز روائع يكفي أن نذكر منها “تاريخ الأمم والملوك” في أحد عشر مجلداً، وأبو العلاء المعري الذي بلغ السادسة والثمانين (363 ـ- 449 هـ) وخلف سبعة عشر كتاباً، غير الدواوين الشعرية، وغير هؤلاء كثير.
ولم يقتصر الجبوري على الاستدلال بالأقدمين بل ذكر نماذج من المعاصرين الذين استمر عطاؤهم رغم كبر السن وإرهاق المرض، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: وصلاح الدين المنجد، وعبد الهادي التازي، وفؤاد سزكين، وناصر الدين الأسد، وشاكر الفحّام، ومازن المبارك.