لقد دأبنا في فترات مختلفة أن نستشف سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومواقفه وأخلاقه وطبيعته في تصرفاته المتعلقة بالدين والتشريع، لما في ذلك من تسديد منهاج المسلم، ولما تعلق بذلك من الأمر الشرعي الذي أوجب على المسلم اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان هديه يحقق الرحمة التي جاء الإسلام ليرسي معالمها وأركانها.

وأعتقد أن غاية البشر قاطبة إدراك ماهية ذاته من خلال إمتاعها بجميع حاجياته الضرورية وغيرها، وحول هذه الغاية جرت نظريات علم النفس، ولكن للأسف لا يمكن لأي شخص أن يصل إلى أدق الكمال النسبي في هذه الحياة، وإدراك حقيقة ذاته حتى يتحلى بصفات جميلة في أمور الدين والمعاش. نقرأ للقاضي عياض مثلا حين يقول: [لْكَمَالِ فِي الْبَشَرِ نَوْعَانِ:

– ضَرُورِيٌّ دُنْيَوِيٌّ: اقْتَضَتْهُ الجبلّة (أي: الخلقة التي خلق الإنسان عليها)، وضرورة الحياة الدنيا

– مكتسب دِينِيٌّ … وَهُوَ مَا يُحْمَدُ فَاعِلُهُ وَيُقَرِّبُ إِلَى الله زلفى..]. الشفا: 1/139 .

ويشمل النوع الأول: الضروري المحض وهو ما ليس للإنسان فيه اختيار ولا كسب، ومن ذلك كمال الخلق والجمال وقوة العقل وفصاحة اللسان.. ويلحق بذلك ما تدعو إليه ضرورة الحياة من المأكل والمشرب والملبس .. ونحو ذلك.

وأما النوع الثاني وهو الأفعال المكتسبة الدينية أو الأخروية، فيدخل فيه جميع الخصال الحميدة والأخلاق الشرعية المنيفة نحو التقوى والدين والعلم والحلم وجماعه حسن الخلق. (الشفا: 1/140).

وهذه الخصال يسعى الناس في تحصيلها على أتمها ويكسب التمدح والمكانة بين العباد بالنسب؛ حسب توفرها وكثرتها أو قلتها وضآلتها في أخلاق الناس. أما نبي الرحمة – صلى الله عليه وسلم- فقد بوأ الحظ الاوفر من هذه الخصال فكان القدوة الحسنة للبشرية جمعاء ، وهديه خير الهدي وأكمله، ولا بد من تذكيرنا بهذه التوطئة لا سيما في وجه موجات الإلحاد والتشكيك في هذه الشخصية العلية.

وحديثنا هنا عن هدي هذا القائد الملهم، والنبي المختار صلى الله عليه وسلم في الزكاة، ولا يمكن أن يفصل القول في هذا الموضوع ببيان حتى نعرف حالة النبي في ضروريات الحياة التي تختلف الحالات في التمدح بها بين القلة والكثرة، وإذا كانت فريضة الزكاة تتعلق بالمال والمتاع، وهما مما يصنف ضمن ضروريات الحياة، ويتفاضل فيهما الناس بين التفاخر والتمدح بهما، فيلزم تبعا لذلك أن نبين هدي النبي صلى الله عليه وسلم في المال وامتلاكه، ثم ندرُج إلى طريقة صرف الزكاة منه.

ثراء النبي صلى الله عليه وسلم

لو نظرنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ندرك أنه قد أوتي من المال الكثير، فهو كما قال الباحث عبد الفتاح السمان: كان ثريا زاهدا لا فقيرا فاقدا[1]. فقد أوضح المولى سبحانه في مقام تعداد نعمه على رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) [الضحى: 8]. والإغناء الذي أنعم الله به على نبيه نوعان: أعظمهما غنى القلب إذ ألقى في قلبه قلة الاهتمام بالدنيا، وغنى المال حين ألهم خديجة مقارضته في تجارتها[2].

وفي سورة الضحى إشعار بأن الفقر نقص لا يجوز وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم به، على النحو الذي يحرم وصفه باليتم والضلال، ووصفه بالفقر يناقضه ما جاءت في السورة من النعم المتعددة التي أسداها الله على نبيه صلى الله عليه وسلم.

لهذا السبب نقرأ في (الشفا) وصفا محكما لثروة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في التصرف فيها، فإنه قد أوتي خزائن الأرض، ومفاتيح البلاد، وأحلت له الغنائم، ولم تحل لنبي قبله، وفتح عليه في حياته صلى الله عليه وسلم بلاد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق، وجلبت إليه من أخماسها، وجزيتها، وصدقاتها ما لا يجبى للملوك إلا بعضه، وهادته جماعة من ملوك الأقاليم، فما استأثر بشيء منه ولا أمسك منه درهما، بل صرفه مصارفه وأغنى به غيره، وقوى به المسلمين[3].

وأدلة ذلك ما يقوله صلى الله عليه وسلم: (ما يسرني أن لي أحدا ذهبا يبيت عندي منه دينار، إلا دينار أرصده لدين عليّ) [أخرجه مسلم].

– وكان تأتيه صلى الله عليه وسلم دنانير مرة فقسمها، وبقيت منها ستة، فدفعها لبعض نسائه فلم يأخذه نوم حتى قام وقسمها، وقال: «الآن استرحت»[4].

وهذا التوصيف يرد بشكل واضح ما اشتهر بين خطباء المسلمين اليوم حين يصفون الرسول صلى الله عليه وسلم بالفقر والإشادة به أنه ميزة الصلاح، ويستدلون بمشاهد الجوع في سيرته صلى الله عليه وسلم، وقد اجتهد الباحث عبد الفتاح السمان في رد هذه الشبهة حيث اعتبرها ضعيفة مردودة:

1- بنص القرآن، فقد كان الفقر وعد الشيطان (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 268]. لذلك وصفه هند بن أبي هالة بأنه صلى الله عليه وسلم: وسع الناس بسطه وخلقه[5]، أي بطلاقة وجهه وبشره.

2-  وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر لحمه قبل وفاته وثقل، قالت عايشة رضي االله عنها واصفة هذه الحالة: (لما بدّن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثقل، كان أكثر صلاته جالسا) [مسلم 117].

وثراء النبي صلى الله عليه وسلم اشتهر في التراث لا يمكن الغض منه، سواء في حياته أو بعد وفاته، وهذا ما جعل ابن كثير يعلق منبها على ثراء النبي صلى الله عليه وسلم، ويوجه الأحاديث التي ذكرت قلة تركة رسول الله لأهل بيته، يقول:

“قد ورد أحاديث كثيرة .. في ذكر أشياء كان يختص بها صلوات الله وسلامه عليه في حياته من دور ومساكن نسائه وإماء وعبيد وخيول وإبل وغنم وسلاح وبغلة وحمار وثياب وأثاث وخاتم وغير ذلك.. فلعله عليه السلام تصدق بكثير منها في حياته منجزا، وأعتق من أعتق من إمائه وعبيده، وأرصد ما أرصده من أمتعته، مع ما خصه الله به من الأرضين من بني النضير وخيبر وفدك في مصالح المسلمين، إلا أنه لم يخلف من ذلك شيئا يورث عنه قطعا”[6].


[1]  تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أمواله كسبا (7)

[2]  التحرير والتنوير (30/402).

[3]  الشفا (1/203).

[4]  أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (13/58) من حديث عائشة رضي الله عنها.

[5]  شرح السنة ، البغوي (13/274).

[6]  البداية والنهاية (5/306).