وقفتُ من خلال قراءاتي لأحد العلماء المعاصرين أن إشكالية الشاب المسلم ليس في معرفة العبادات المحضة؛ بل في كيف يعبد ربه في المعاملات وفي الرفاهية وفي الفن.. تأمّلَ الكاتب هذه العبارة وأمرّها كما جاءت بعد طول تأملٍ.
كان من أهم المنتزهات الكبيرة في الدوحة – قطر، أيام كان الكاتب فيها طالبا ما يعرف بـ “City Center” ومن ثم وجد في كوالالمبور بماليزيا منتزها عالميا مثلها يسمى “Pavilion” و “KLCC” حيث البرجين، وSunway!.
يظهر لبعض الناس من الوهلة الأولى أن مثل هذه الأماكن هي عمارات مدنية عالمية وحضارية أو سياحية، وأنها لا تتسم بطابع ديني عموما! مع أن هؤلاء لا يعرفون عن هذه الأماكن إلا ما تخيِّل لهم عقولهم الباطنية!
يظهر لبعض الناس من الوهلة الأولى أن مثل هذه الأماكن هي عمارات مدنية عالمية وحضارية أو سياحية، وأنها لا تتسم بطابع ديني عموما! مع أن هؤلاء لا يعرفون عن هذه الأماكن إلا ما تخيِّل لهم عقولهم الباطنية!، وقد انقسم هؤلاء حول هذه الأماكن إلى طائفتين: من يرى أنها من أماكن المنكرات، ومن تنازل قليلا فأقر أنها ليست من المنكرات في شي لكن زيارة غيرها أفضل منها، وأن البقاء في المسجد في عبادة أو درس أو قراءة قرآن أو البقاء في البيت أفضل من ذلك. وهنا يسأل الباحث هل يمكن التدين في الرفاهية والحضارة، أم أن التدين من خصوصيتة الفقر والخشونة؟
سنة الغنى والفقر
مصطلحا “الغنى” و”الفقر” من المصطلحات الفضفاضة، لافتقادهما إلى معيار ثابت وإلى ضابط مسلّم به؛ مما يجعل فقير قوم غني آخرين، والعكس صحيح، بل مما جعل الغنى والفقر نفسيهما أمر نسبي لا حد لهما إلا بالرضا والقناعة، فيعبد هذا ربه بشكر نعمه، ويعبده ذاك بصبر بلائه، إذ لا يمكن استمرار الحياة وتحقيق معنى الابتلاء إلا باختلاف الحظوظ.
الرفاهية وعلاقتها بالحضارة
لما هبط آدم عليه السلام بدأ يكابد صعوبة الجوع والظمأ والعري، فطفق يبحث عن طعام وشراب ومأوى! ومنذ ذلك الحين إلى يومنا هذا والإنسان يواصل مكابدته من أجل العيش، وإن اختلفت مستوياتها، تسمى المرحلة الأولى “البدائية” وتسمى اللاحقة “الحضارة”. اتسمت البداوة بالجهل والتقشف والبساطة، لتتميز الحضارة بالعلم والرفاهية والنظام، سكن الإنسان الكوخ والكهف والمغارات، لينتقل إلى البيت والقصر وناطحات السحاب. وهكذا دواليك.. ويخلق ما لا تعلمون.
تدين صاحب المال
طلب الإسلام من صاحب المال أن يعبده بالكسب من الحلال والإنفاق في وجوه الخير، ولكي ينجح في ابتلائه هذا عليه: أن لا يحتقر الغير، وأن لا يسيئ استخدام المال، بالقفز فوق القانون، وجعل الحق باطلا والباطل حقا، ويظن أنه ليس بمبعوث ليوم عظيم.
وإن من أوسع وجوه تدين الغني صرف ماله على نفسه وأهله وأولاده وذوي قرباه، فالأصل في كل ما لم يرد فيه نص بالأمر أو الترك الإباحة، والإباحة تتحول بالنية إلى عبادة؛ ومن هنا تكون حياة المسلم كلها عبادة إذا أحسن النية، ولا يعرف الإسلام تجزيء الحياة وجعل بعضها مقدسا والبعض الآخر مدنسا، أو جعل بعضها دينا وتدينا، والآخر مدنية: سياسةً أو اقتصادا.
ومن هنا فإن من المباح للمسلم بل من علامة سعادته البيت الواسع والزوجة الصالحة، أو الزوجات الصالحات، ومنه السيارة المريحة، كما منه الإنفاق على الأولاد والتوسعة عليهم في المأكل والمشرب والمدرسة وفي شؤون الحياة. وكل ما أنفق صاحب المال ماله في أمر حلال على نفسه وعلى أهله ومن يعول بنية التقرب إلى الله وبينة العبادة وبنية التدين فإنه بثاب على ذلك وفق الشريعة الإسلامية ومقاصدها الكريمة.
السرف قيمة نسبية
كل ما زاد على حده انقلب إلى ضده؛ وكما أن التمتع بالطيبات من شكر نعم الله وإظهارها المطلوب شرعا، فإن الإسراف في ذلك محرم مذموم، لكن السرف قيمة نسبية وليست مطلقة، فإذا اشترى من يملك ألفا هاتفا بمائة مثلا، أو ساعة بمائة، بينما اشترى آخر يملك ألفين ساعة بمائتين فإن كلا منها فعل ما يناسبه، ولا لوم لعليه ما دام أنفق في حدود طاقته وبعد أداء حقوق ماله، فالنظر إلى الرقم الإجمالي المنفق منه مهم لحساب السرف أو التقتير.
وقُلِ الأمر نفسه على مستوى الدول، فهناك دول ما تزال تعيش إشكالية أساسيات الحياة من مطعم ومشرب وملبس وأمن وتعليم، وأخرى تجاوزت ذلك فهي تصرف أموالها في بناء الملاعب والمتاحف والمراكز والأبراج العالمية، وليس في ذلك سرف مذموم.
وهذا المثال السابق الذي ضُرب على الأفراد مثلا؛ يصلح أن ينطبق على المؤسسات وعلى الدول، فمؤسسة قليلة الممتلكات قد تتصرف تصرف الفرد صاحب الألف، ومؤسسة صاحبة العشرة آلاف قد تتصرف تصرف الفرد صاحب العشرة آلاف، وهكذا، وما قيل هناك يصلح هنا، وقُلِ الأمر نفسه على مستوى الدول، فهناك دول ما تزال تعيش إشكالية أساسيات الحياة من مطعم ومشرب وملبس وأمن وتعليم، وأخرى تجاوزت ذلك فهي تصرف أموالها في بناء الملاعب والمتاحف والمراكز والأبراج العالمية، وليس في ذلك سرف مذموم.
وعقلية المسلم تراعي كل ذلك، والقرآن يقول:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)ن فالرفاهية قد تكون سبيلا للتدين، مثلما الفقر يكون سبيلا للتدين، وعقلية الإنسان المسلم لا ينكر ابتداءً الذهاب إلى “City Center” في الدوحة وإلى “Pavilion” و “KLCC”، وSunway في كوالالمبور، وغير ذلك!