كان هدي النبي ﷺ في شهر رمضان الجمع بين تحصيل العلم والعبادة.
يقال إن الإمام الزهري ومالكا والثوري كانوا يؤثرون مجالس العلم على ملازمة كتاب الله تعالى إذا دخل شهر رمضان، ويمتنعون عن التحديث والتعليم من وهلة دخول الشهر الفضيل حتى نهايته تعظيما لشأن القرآن الكريم ولإقبال على تلاوته والخلوة به، إلا أن الحق الذى انتهى إليه الدراسة والتحقيق عدم ثبوت ذلك عن أحد منهم[1]، وعلى فرض صحة الخبر فإنه لا يمثل عمل هؤلاء الرهط من أئمة السلف هديا عاما متبعا لدى الجميع، بل لا يكاد يكون هدي النبي عليه الصلاة والسلام منحصرا على ذلك ولا الصحابة ولا سلف الأمة كما سيأتي، وشهر رمضان بيت وظائف الطاعات والقربات، ومرصد الحسنات وتكفير الذنوب والخطايا، ومنازل السابقين إلى أنواع من العبادات والخيرات، ولا شك أن مدارسة العلم ونشره وبذله من أجل العبادات النافعة المتعدية وأفضل السبيل لنيل الثواب الجزيل في الشهر الفضيل.
عبادة النبي في رمضان
وأما عبادته عليه الصلاة والسلام في رمضان: فإنه قد خص الشهر بأنواع الطاعات والقربات دون غيره من الشهور، وكان يكثر فيه من الإحسان وأعمال الخير، وتلاوة القرآن، والذكر والاعتكاف،بل كان يواصل فيه الصيام أحيانا يومين أو أكثر، لشدة حرصه على مزيد الطاعات في شهر رمضان.
نعم، لم يكن يزيد في قيامه في الليل عن إحدى أو ثلاث عشرة ركعة، ولكن بطول القيام، حيث قام بسورة البقرة وآل عمران والنّساء في ركعة واحدة، وكان يبالغ ويزيد في العبادة في العشر الأواخر طلبا لفضيلة ليلة القدر.
وهكذا كان دأب السلف من بعده عليه الصلاة والسلام، وقد اجتهدوا في شهر رمضان بأنواع من الطاعات والعبادات ما لم يجتهدوا في غيره من الشهور، وذلك لعلمهم بفضله وتأسيا برسول الله ﷺ.
هدي النبي في رمضان مع العلم
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان رسول الله ﷺ أجودَ الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة.[2]
وفي العام الذي تُوفي فيه رسول الله ﷺ عارضه جبريل القرآن مرتين.[3]
وتأمل قوله:” وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل… أجود بالخير من الريح المرسلة ” أي كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس في رمضان نفسا ونشاطا في العلم وغيره من أنواع البر حتى فاق جوده الريح المرسلة، ولا يظن برسول الأمة عليه الصلاة والسلام العطلة والعزلة عن الناس شهرا كاملا دون مجالستهم في حلقات العلم والتدريس والاستماع إلى استفتائهم، أو يفهم كونه كالريح المرسلة على معنى الكرم والعطاء فحسب، وأي جود أو عطاء أو كرم أو صدقة أعظم من الجود بالعلم؟
وقد ذكر ابن القيم بأن الجود بالعلم وبذله وهو من أعلى مراتب الجود والجود به أفضل من الجود بالمال لأن العلم أشرف من المال.[4] إذن فرسول الله ﷺ أجود الناس بالعلم في رمضان.
وقال ابن رجب في فضل الجود في رمضان وتلاوة القرآن، ونوه بصفاته عليه الصلاة والسلام وأنه أجود بني آدم على الإطلاق وكان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم والمال…[5]الخ وما أحوج أهل العلم إلى استغنام فرصتصفيد الشياطين فيجيدوا بالعلم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، حيث تكون النفوس مقبلة على الخير وطاعة ربها ويا له من جود.
ثم تأمل قوله:” فيدارسه القرآن” فإن المدارسة توجب زيادة حضور فهم معاني القران وبيان ما يرشد إليه من العلم، ودل هذا على أهمية العناية بمدارسة القرآن الكريم في شهر رمضان تلاوة وفقها، وكل أحد أدرى بقدرته وحاله.
وقال العيني رحمه الله: وأما ملاقاة جبريل عليه السلام فإن فيها زيادة ترقيه في المقامات، وزيادة اطلاعه على علوم الله سبحانه وتعالى، ولا سيما عند مدارسته القرآن معه مع نزوله إليه في كل ليلة، ولم ينزل إلى غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما نزل إليه.[6]
قال ابن عيينة رحمه الله: ولم يزل ﷺ في زيادة من العلم حتى توفاه الله عز وجل[7].
والحديث السابق أبين الدليل على ما قاله رحمه الله، وهو عمدة الباب الذي يؤخذ منه استحباب مدارسة العلم في شهر رمضان، إذ أعظم مقاصد إنزال القرآن العظيم هو التدبر والتأمل والاستنباط وليس مجرد كثرة التلاوة والختمات مع الإقرار بفضائل كثرة القراءات، {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب}[ص: 29] وفي مقابل وبخ الله تعالى من أهمل مقصد إنزال القرآن، فقال عز وجل: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}[محمد: 24]
وقال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير الآية: {ليدبروا آياته} أي: هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة، تدرك بركته وخيره، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود.{وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} أي: أولو العقول الصحيحة، يتذكرون بتدبرهم لها كل علم ومطلوب، فدل هذا على أنه بحسب لب الإنسان وعقله يحصل له التذكر والانتفاع بهذا الكتاب.[8]
والقرآن العظيم منبع العلم وأساس كليات المعرفة والفقه والهداية، وكان به وعنه يصدر جميع أهل العلم فأنار عقولهم ورفع درجتهم وكبر أقوالهم، وشهر رمضان خير الزمن المعين على التزود والنهل من هذا المعين الصافي، لأن فيه نزل، وفيه طهارة النفس وانكساره، ورقة القلب وتسييره، وصفاء الفكر وعلوه….أدوات مساعدة متوفرة في هذا الشهر على كشف العلوم والأحكام والحكم والمعاني الكامنة في كلام الله تعالى، فاتفقت سعادة نيل العلم من أشرف الكلام في أشرف الزمان.
ومن المتقرر عند أهل العلم أن الانشغال بالعلم تعلما وتعليما ونشرا أفضل النوافل وأكثر الأجر من العبادات القاصرة، فمن استطاع أن يجمع بين الانشغال بالعلم في رمضان وبين غيره من العبادات فإن ذلك أفضل بلا أدنى ريب.
قال النووي رحمه الله: “والحاصل أنهم متفقون على أن الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بنوافل الصوم والصلاة والتسبيح ونحو ذلك من نوافل عبادات البدن؛ ومن دلائله…أن نفع العلم يعم صاحبه والمسلمين، والنوافل المذكورة مختصة به.[9]
وعن وكيع رحمه الله قال:” لو أعلم أن الصلاة أفضل من الحديث ما حدَّثت”[10] يعنى صلاة النافلة.
قال خباب بن الأرت رضي الله عنه:” تقرب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تتقرب إليه بشيء، أحب إليه من كلامه”[11] ومن تمام ذلك أن يوافق الإنسان للجمع بين القراءة والتدبر والتعقل والتعلم، سواء في مسائل عقدية، أو تفسيرية، أو حديثية، أو فقهية، أو أصولية، أو غيرها من العلوم.
وقال ابن عبد البر رحمه الله: والكلام في العلم أفضل من الأعمال، وهو يجري عندهم مجرى الذكر والتلاوة إذا أريد به نفي الجهل ووجه الله تعالى والوقوف على حقيقة المعاني [12]
وعن سليمان التيمي، قال: كنا عند أبي مجلز، وهو يحدِّثنا، قال: فقال رجل: لو قرأتم سورة؟ فقال أبو مجلز:” ما الذي نحن فيه بأنقص إليَّ من قراءة سورة”.[13]
وعليه، ولا ينبغي النعي على يعنى بالعلم في رمضان بحجة أنه على خلاف هدي السلف، وأن رمضان شهر القرآن فيكتفى به دون غيره من حلقات العلم، وإنه لحجة داحضة كما رأيت.
بل الذي جرت عليه عادة كثير من أهل العلم بالحديث المتقدمين[14] هو إقامة مجالس السماع والإملاء في شهر رمضان بهدف نشر السنة النبوية والتنويه بشأنها، ولتلك المجالس الحديثية الرمضانية شهرة بين الناس آنذاك دون الانكار، لأنها تؤدي غرضا أساسيا في خدمة القرآن الكريم وكذا بقية مجالس العلم الشرعية، إذ علم السنة هو أشرف علوم القرآن، وتعلمها وتعليمها على حد ذاتها علم الغاية وليس الوسيلة، والسنة النبوية هي مفصلة لمجمل الكتاب ومفسرة ومبينة له.
وقيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير: لا تحدثونا إلا بالقرآن، فقال مطرف: “والله ما نريد بالقرآن بدلا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا”[15] يعنى رسول الله ﷺ.
وفيما تقدم كفاية للحرص والحث على استغلال شهر رمضان بالتزود من العلم النافع والعبادة، والتحذير من الضياع والتضييع، وأن يتقلب الإنسان بين عبادات قاصرة ومتعدية النفع.