آتى الله تعالى سليمان عليه السلام ملكًا عظيما تمتزج فيه النبوّة بالقيادة الدنيوية، وخلافًا لغيره من الأنبياء الكرام  والملوك الصالحين اجتمع له في ملكه معجزاتٌ خارقة وجانب إنسانيٌّ مشرق، ولئن استحال على الحُكّام من بعده أن يحظوا بمثل ما حظي به من عطاء رباني خارق للسنن فإنّ بإمكانهم الإقتداء به في سيرته الحسنه وخلاله الكريمة وصفاته القيادية الفريدة، مع رجاء في مدد إلهي تختلف أشكاله وصُورُه، فيه التوفيق والبركة، لا يحرم الله منه عبادة الأتقياء على مرّ العصور: { كلاّ نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربّك محظورًا}  –   (سورة الإسراء: 20 )

لقد وفّق  سليمان في تسيير شؤون فلسطين بين السنن والخوارق.

–  العلم هو الأساس: كان مرتكز الحكم السليماني الرشيد العلم النافع الغزير الذي منّ الله به عليه وعلى والده من قبله: { ولقد آتينا داود وسليمان علما } – (سورة النمل: 15 ) وقال سبحانه: { ففهّمناها سليمان وكلاّ آتينا حكما وعلما } – (سورة  الأنبياء : 79 ).

حدث الاختلاف بين الابن والأب في مسالة عُرضت في ساحة التقاضي، وهذا شأن أمور الفهم والاستنباط، فرأى سليمان من أمارات الحقّ وتحقيق العدل والإنصاف ما لم يُحط به داود، وليس لأحد موثق من الغلط ولا أمان من الخطأ، { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم } –  (سورة المائدة : 54).

حتى بعض جنوده أو جلسائه يُحدث بالعلم  ما يُشبه المعجزة  {قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك } –  (سورة النمل:  40) بالعلم فاقت قدراته إمكانية العفريت ، فأحضر كرسي ملكة سبأ من اليمن إلى فلسطين بين طرفة عين وانتباهتها.

وكلّ دولة تأسّست على العلم واحتفت به وبأهله وتوسعّت في فنونه واعتلى سدةَ الحكم فيها أصحاب الكفاءة والمعرفة هي من غير شكّ أدنى إلى امتلاك عناصر القوّة والاستقرار والرقيّ.

معجزات خارقة

 سأل سليمان الله من فضله وطلب منه منحة ينفرد بها بين الحكّام ، بل من دون الناس قاطبة: { قال ربي اغفر لي وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب}  –  (سورة ص: 35 )، فاستجاب الله له وأعطاه من الخوارق ما لم يؤت غيره من بعده: { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب * والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد }- (سورة ص 36-38 ).

التحكّم في الريح: هذه الظاهرة الطبيعية أصبحت طيّعة بين يديه تأتمر بأمره، كما قال الله تعالى: {ولسليمان الريح غدوّها شهر ورواحها شهر} – (سورة سبأ: 12 ) وقال تعالى : { ولسلميان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها، وكنّا بكلّ شيء عالمين } – (سورة الأنبياء: 81) وأعظم بهذا التحكّم منّة تُذهل العقول، نؤمن بها ونسبّح ربّنا الفعّال لما يريد، وإن لم نُحط بكلّ جوانب وحقائق هذه النعمة، وقد قالت الملائكة لزوج إبراهيم عليه السلام :{ أتعجبين من أمر الله }  – (سورة هود: 75).

– التحكّم في الجنّ: ولعلّ هذه أكبر من أختها ، إذ لنا أن نتصوّر تطويع الله سبحانه وتعالى لمخلوقات غيبية لإنسان، يسخّرها في خدمة مملكته ويردعها عن إيذاء الخلق، رغم ظنّ أكثر الناس أن لديها قدرات تفوق قدرات البشر، فيخشونًها ويعوذون بها.

يقول الله تعالى: { وحُشر لسليمان جنوده من الجنّ والإنس والطير فهم يوزعون } –  (سورة النمل: 17 ) ويقول: { وأسلنا له عين القطر، ومن الجنّ من يعمل بين يديه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير، يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات} – (سورة سبأ: 12-13)  .

يستخدم سليمان مردة الجنّ لكفّ أذاهم من جهة ولإشغالهم بالإنتاج النافع لمملكته من جهة أخرى، كجزء من سياسة درء المفاسد وجلب المصالح التي ينتهجها كلّ حاكم صالح عارف بمقاصد الإسلام .

وليس لنا أن نتوسّع كثيرا في موضوع تسخير الجنّ لأننا لا نملك من معلومات عنه سوى هذا الذي أشار إليه القرآن الكريم كواحد من مظاهر الإعجاز الرباني في نصرة نبيّه سليمان والتمكين له في الأرض، ولا يُستحسن – في رأينا – فتح باب تدخل منه الشعوذة والدروشة، وحسبُنا منه ما ورد فيه من آيات محكمات وأحاديث صحيحة صريحة نتعلم منها أن الجنّ مخلوقات مكلّفة ، منها الصالح ومنها دون ذلك كالبشر تمامًا، وقد خصّ الله تعالى عبده سليمان بتسخيرها له.

–  معرفة لغة الحيوانات : هذه منحة أخرى منّ الله بها على سليمان عليه السلام لحكمة يعلمها هو سبحانه وتعالى، وكم تاقت البشرية وما زالت تتوق – وعلماء الطبيعة فيها بصفة خاصة – إلى إدراك لغة التواصل بين الحيوانات لأنّها بشهادة القرآن الكريم أمم أمثالنا أي أن لها حياة مشتركة تقتضي تبادل الخطاب بشكل من الأشكال، قال تعالى: ” وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس عُلّمنا منطق الطير وأوتينا من كلّ شيء، إنّ هذا لهو الفضل المبين” – سورة النمل 16، ويتبيّن من سياق القصة أنّ تعليم  الله له تجاوز الطيور إلى باقي الحيوانات، فقد فهم كلام النملة وهي ليست طيرا: ” قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون، فتبسّم ضاحكا من قولها ” – )سورة النمل: (17  كما سرد القرآن الحوار الذي دار بين سليمان والهدهد.

–  صرامة كبيرة: كثيرا ما يوصف أصحاب الدين والتقوى بالضعف واللين المفرط في تسيير ما تحت أيديهم من شؤون عامّة في أيّ من ميادين الحياة، وكأنّ الالتزام الديني قرين الضعف والعجز، وهذه ليست حقيقة مسلّمة ، فلَولاَ الصرامة في التسيير وقيادة الجيوش والموظفين ومواجهة مختلف المواقف لماَ بنى المسلمون حضارة عظيمة ولا فتحوا البلاد القاصية والدانية، وهذا سليمان نموذج للقائد التقيّ العابد الذي يجمع بين تبتّل المحراب والقوّة في الحقّ، وهذا جانب إنساني مشرق تتجلّى فيه مؤهّلاته للقيادة، ونضرب لذلك مثالين اثنين:

قال تعالى :  { وتفقّد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين، لأعذّبنّه عذابا شديدا أو لأذبحنّه أو ليأتينّي بسلطان مبين } –  (سورة النمل: 20-21 ) إنه يتفقّد جيشه العرمرم المتكوّن من الجنّ والطيور فضلا عن البشر، فيلاحظ من بين هذا العدد الضخم غياب طائر صغير بغير إذن منه، فيتوعّده بالعقاب الشديد إذا لم يقدّم فور عودته مبرّرا مقنعا شافيا لغيابه، لأنّ الهدهد هنا جندي، والجنود لا يبرحون مواقعهم في الخدمة إلا بإذن مسبق حتى لا تعمّ الفوضى ويختلّ النظام، لذلك كان ردّ فعل الملك حاسما، حتى ينتظم أمر الجند وسائر موظفي الدولة في المؤسسات كلّها.

وعندما جاء الطائر المتغيّب بعذره لم يسارع القائد إلى تصديقه، فهذه غفلة يتنزّه عنها سليمان عليه السلام، وإنما كلّفه بمهّمة كان من جملة أهدافها تبيّن صدقه: { قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين } – (سورة النمل:27) .

شغل سليمان عليه السلام – مردة الجنّ بالأعمال الشاقّة لدرء أذاهم عن الناس، كما ذكرنا، وكان يراقبهم بنفسه مراقبة متواصلة كلّها جدّ وهيبة، حتى إذا مات وهو متّكأ على عصاه لم ينتبه الجنّ إلى ذلك وظنّوه حيًّا، وهذا يدحض مزاعم اطّلاع الجنّ على الغيب ويؤكّد خوفهم الشديد من سليمان :{ فلمّا قضينا عليه الموت ما دلّهم على موته إلاّ دابّة الأرض تأكل منسأته، فلمّا خرّ تبيّنت الجنّ ألو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } – (سورة سبأ: 14 ) وهذه الصرامة من نبيّ الله في مملكته هي عين الحكمة لردع كبار المجرمين وأصحاب السوابق في العدوان وتعكير صفو المجتمع وتهديد أمن البلاد في أرواح الناس وممتلكاتهم.

ملك عظيم وعبودية خالصة

 كان سليمان عليه السلام على رأس مملكة إسرائيلية متينة الأركان اشتملت على عناصر التمكين وأسباب القوة والاستقرار، وكانت حضارة تجمع بين الربانية والإنسانية، بين الدين والقوّة المادية، مثلها مثل الحضارة الإسلامية على اختلاف العصور، لهذا قال سليمان: { وأوتينا من كلّ شيء } – (سورة النمل: 16) إلى درجة أن ملكة سبأ انبهرت بهندسة المجرى المائي الذي عبرته لدخول قصر سليمان و رفعت لباسها لئلاّ يبتلّ ، ولم تنتبه إلى أنه مغطّى بالزجاج السميك الفاخر: { قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجّة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرّد من قوارير } – (سورة النمل: 44).

في هذا الجوّ المفعم بالتحكّم في الجنّ والطيور والبشر والريح والإنجازات الضخمة كانت الحياة الروحية حاضرة بجلاء، لأنّ المُلك لا يُطغي عبدًا مصطفًى تقيًّا مثل سليمان ولا يُنسيه، بل هو يتقلّب في أحضان العبودية لله في جميع أحواله: { قالَ ٱلَّذِی عِندَهُۥ عِلۡمࣱ مِّنَ ٱلۡكِتَـٰبِ أَنَا۠ ءَاتِیكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن یَرۡتَدَّ إِلَیۡكَ طَرۡفُكَۚ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسۡتَقِرًّا عِندَهُۥ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّی لِیَبۡلُوَنِیۤ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا یَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّی غَنِیࣱّ كَرِیمࣱ } – (سورة النمل: 40) لو لم يكن الملك على درجة رفيعة من أخلاق النبوّة لأخذه الزهوّ ولتسلّل العُجب إلى قلبه أمام هذا الإنجاز الخارق الذي حقّقه واحد من رعيّته فأحضر كرسيّ ملكة سبأ من اليمن إلى فلسطين في طرفة عين، لكنّه قابل ذلك بالتواضع الجمّ ونسبة الفضل إلى الله تعالى واستشعار الابتلاء الرباني له في شكل منحة باهرة .

{ فتبسّم ضاحكًا من قولها وقال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي وأن أعمل صالحًا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادة الصالحين } – (سورة النمل: 19) فهم سليمان كلام النملة وهي تحذّر قومها منه ومن جنوده أن يحطّموا مستعمرتها بخيولهم من حيث لا يدرون، فانشرح صدره وابتسم، والعلم يشرح الصدر، فكيف إذا كان علمًا لَدُنيّا لا يملكه غيره؟ ثمّ أقبل على ربّه بالدعاء والتضرّع شاكرًا لأنعمه طالبًا التوفيق لمزيد من العمل الصالح وراجيا أن يُحشَر في زمرة الصالحين برحمة الله وفضله.

إنّه إخبات العبد الصادق في إيمانه المتمسّك بأهداب العبودية، تحميه أخلاقه الكريمة من الوقوع في الغرور، ولنا أن نتصوّر واحدًا من أبناء الدنيا أوتيَ مثل هذا الملك العظيم بل نصفَه أو عُشُره، كيف كان يُلقيه العُجب في أودية الاستغناء عن الله ويرميه في غياهب الجحود، وقد ذكر القرآن الكريم طرَفا من ذلك في قصّة صاحب الجنّتين – مجرّد بستانين من الزروع  و الأشجار المُثمرة – كيف اغترّ بثروته الزراعية فجحد النعمة ثم انساق إلى جحود العقيدة: { ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظنّ أن تبيد هذه أبدا وما أظنّ الساعة قائمةّ } – (سورة الكهف: 35)

وقد ذكروا في بعض الآثار أن سليمان مرّ في موكبه المهيب بمزارع يعمل في أرضه فقال الفلاح: لقد أوتي ابن داود مُلكًا عظيمًا، فسمعه سليمان، فقال: لتسبيحةٌ في صحيفة المؤمن خيرٌ من ملك ابن داود، فتسبيحة المؤمن لا تزول ومُلك ابن داود إلى زوال”.

إنّ هذه المدرسة الكريمة الجامعة  في تناغم جميل بين الربانية والإنسانية، وبين العبادة والرقي الدنيوي حَريّة أن تحيى  وتُرعى وتستمرّ في تخريج النخبة الطيبة من القادة الصالحين لأمّة الإسلام في كلّ زمان ومكان .