حين نتحدث عن سليمان – عليه السلام – ، فإننا نستحضر سيرة أعظم سلطان على وجه البسيطة ، و أعرق سيادة عرفها التاريخ ، وأقوى إمبراطورية حكمت الأرض في الذاكرة الإنسانية ، وقصة الحضارة الحقيقية بشتى أبعادها و ركائزها  .

قال تعالى على لسان سليمان – عليه السلام  –  :      (.. قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ . فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ . والشياطين كل بناء وغواص..) ص: 35 – 37 .

استجاب الله له وأعطاه ما سأل وأراد ، فسخر له أسباب القوة والمنعة ، وطوع له الأرض بما فيها ومن فيها ..

إننا وفي تأملنا لدعوة هذا النبي الكريم ، نلمس اتقاد الهمة وطموح النفس ، وحماسة ومثابرة الزعيم ، وعزيمة بلغت شأوا عظيما .

  إننا وفي تأملنا لدعوة هذا النبي الكريم ، نلمس اتقاد الهمة وطموح النفس ، وحماسة ومثابرة الزعيم ، وعزيمة بلغت شأوا عظيما

لقد ورث سليمان عن أبيه  داود – عليهما السلام – النبوة والملك ، ومقاليد الحكم ونظام السلطان ، و منظومة سياسة الشعوب ، وكيفية إدارة شؤون البلاد ..، ومواصفات القيادة بكل جوانبها .. كيف لا وقد تربى وتدرب في كنف أمير عظيم محنك فذ . .         ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ).   النمل : 16 .

فالقضية بإيجاز.. : أوتوا كل أسباب القوة والسلطان ..

s1
مواصفات القيادة التي ورثها سليمان عن داود عليهما السلام

لكن الابن وإن ورث مواصفات الأب في القيادة ، لكنه فاقه في بعضها ، كما في القصة المشهورة في الفصل بين الخصوم والقضاء بينهم ..

(  وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين . فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا .. ) الأنبياء : 78 – 79 .

فقد جاء لداود –عليه السلام – خصمان لأحدهما غنم وللآخر زرع من كرم ، فتعدى الغنم على الكرم وأكله. فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم ..، فقال سليمان : غير هذا يا نبي الله ! قال : وما ذاك ؟ قال : تدفع الكرم إلى صاحب الغنم ، فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها ، حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ، ودفعت الغنم إلى صاحبها ..، فذلك قوله : ( ففهمناها سليمان ) . تفسير ابن جرير .

فتأملوا الفهم السليم والقضاء السديد ، والنظرة التنموية والبعد الإنتاجي في علاج مشاكل المجتمع !!.

الإبداع في إدارة شؤون الدولة :

سلط القرآن الكريم الضوء على مشهد حي واقعي – في سورة النمل – ، في حسن تدبير وإدارة السلطة في الامبراطورية الإسلامية الكبيرة .. والإشارة إلى البروتوكول في العلاقات الدولية والتعامل مع الآخر – تأمل – ..إنه مشهد الهدهد في حواره مع سليمان عليه السلام ، و حصوله على الخبر المتعلق بمملكة ذات حضارة مشهود لها ، مملكة سبأ .. ، والتي انتهت بخضوع هذه المملكة العظيمة لحكم سليمان واعتناقها للدين السماوي ..

والمتأمل في هذه القصة ، يستخلص صفات قيادية مركزية .. منها :

– تفقد أحوال الرعية : حيث افتتحت القصة بـ ( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ) 20 . فمع اتساع رقعة مملكة النبي الكريم جغرافيا ، وكثرة ساكنيها وتنوعهم ..إلا أن ذلك لم يحل دون تتبع أحوالهم وتفقدها .. وهذا استشعار منه بحجم المسؤولية وعظم الأمانة الملقاة على عاتقه . ناهيك عن دقة ملاحظته ونباهته كيف ميز غياب الهدهد .

– الحزم : فالرعية لا يصلحها إلا الحزم – إن الله يزع بالسلطان لا ما يزع بالقرآن – حتى تنتظم أمورها على السوية ، وتمتثل الصراط القويم ، وتسير وفق القانون والدستور ..( لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) . 21

-تشجيع المبادرات : الفردية والجماعية ، والحث على الإيجابية ، فكل فرد له قيمة في المجتمع الحضاري الفاعل.. ، فالهدهد مع ضعفه وقلة إمكاناته ، جاء بخبر هام للدولة (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) (22)

slaiman
تدبير وإدارة شؤون الدولة لدى سليمان عليه السلام

-التحري والتثبت من الأخبار : فلا يعقل في دولة مترامية الأطراف ، أن يصدق القائد كل ما يتداول من أخباروشائعات ، وأن يرخي أذنه لكل سفيه أحمق ، وبالتالي يتخذ قرارات كارثية .. تزلزل كيان الأمة ..( قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ . اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ . ) 27 – 28

 فالرعية لا يصلحها إلا الحزم – إن الله يزع بالسلطان لا ما يزع بالقرآن – حتى تنتظم أمورها على السوية ، وتمتثل الصراط القويم ، وتسير وفق القانون والدستور

فالتحري بالوسائل والأساليب الحديثة أوالمتاحة ..يؤدي لاتخاذ القرار الأنسب والأصلح

-عزة النفس واستعلاؤها على الدنيا : فقد رفض سليمان هدية بلقيس التي أرسلتها له ، بل وغضب من ردها هذا .. فهو صاحب رسالة حضارية لا مادية ،جوفاء من القيم ، وتبحث فقط عن التوسع في السلطان ، والاستحواذ على مقدرات الآخرين .

(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ . فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ) 35 – 36 .

الفراسة والذكاء السياسي : والتوقع الصائب لما سيحدث ، والاستشراف الدقيق للمستقبل ، والقدرة على اتخاذ كافة الإجراءات لذلك ..حيث توقع سليمان أنهم سيأتونه خاضعين وكان ..( قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) .(38)