بعد أيام قليلة يُطلُّ عليها عيد الفطر الذي يُشرَع فيه للمسلم أن يختتم عبادة الصيام والقيام في شهر رمضان المبارك بأداء زكاة الفطر التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمسكين كما جاء في حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما الذي أوضح أحكام هذه الزكاة ووقت إخراجها ومصارفها: “فَرَضَ رسولُ اللهِ صدقةَ الفطرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ والرَّفثِ وطُعْمَةً لِلْمَساكِينِ، فمَنْ أَدَّاها قبلَ الصَّلاةِ فهيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، ومَنْ أَدَّاها بعدَ الصَّلاةِ فهيَ صدقةٌ مِنَ الصَّدَقَات. ونظراً لأن زكاة الفطر من المسائل الفقهية المتجددة بسبب تشعُّب أحكامها كما سنرى، سنقدم في هذه السطور أفكاراً حول زكاة الفطر تتعلق بأحكامها الشرعية المختلفة وآثارها الاجتماعية والاقتصادية.

سيكون ذلك من خلال الاعتماد على رسالتَيْن خفيفتَيْن، الرسالة الأولى للدكتور سعيد بن علي بن وهف القحطاني وعنوانها (زكاة الفطر: آداب، أحكام، وشروط، ودرجات، ومسائل في ضوء الكتاب والسنة)، أما الرسالة الثانية فهي للدكتور محمد عبد الفتاح البنهاوي مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بطنطا وعنوانها (زكاة الفطر وآثارها الاجتماعية)، ونحن نعتقد أن من قرأ هاتَيْن الرسالتَيْن سيتوصل إلى خلاصة مهمة حول زكاة الفطر وأحكامها الشرعية وآثارها الاجتماعية.

مفهوم زكاة الفطر

للحديث عن زكاة الفطر أحكامها وآثارها، نبدأ بما جاء في الحديث الذي رواه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “فَرَضَ رسولُ اللهِ صدقةَ الفطرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ والرَّفثِ وطُعْمَةً لِلْمَساكِينِ، فمَنْ أَدَّاها قبلَ الصَّلاةِ فهيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، ومَنْ أَدَّاها بعدَ الصَّلاةِ فهيَ صدقةٌ مِنَ الصَّدَقَات”.

ولكن ما المقصود بزكاة الفطر لغة واصطلاحاً؟ الزكاة في اللغة النماء والزيادة والبركة، وفي الاصطلاح عرفها الفقهاء تعريفات عديدة، حيث جاء في “الإقناع لطالب الانتفاع” لموسى بن أحمد الحجاوي الحنبلي أن زكاة الفطر “صدقة تجب بالفطر من رمضان، طهرة للصائم من اللغو والرفث”، وذكر محمد رواس في “معجم لغة الفقهاء” تعريفاً لزكاة الفطر أكثر وضوحاً، فقال إنها “مقدار معلوم عن كل فرد مسلم يُعيله قبل صلاة عيد الفطر في مصارف مخصوصة”، وجاء في “منتهى الإرادات” للفتوحي أن زكاة الفطر “صدقة واجبة بالفطر من رمضان وتسمى فرضاً ومصرفها كزكاة”.

حكم زكاة الفطر

ذهب علماء  الإسلام إلى أن زكاة الفطر فرض على كل مسلم واعتمدوا في ذلك على عموم القرآن الكريم وصريح السنة والإجماع، فمن الأدلة القرآنية على أن الأصل في زكاة الفطر الوجوب قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

أما أدلة العلماء من السنة على وجوب زكاة الفطر فمنها حديث ابن عباس السابق: “فَرَضَ رسولُ اللهِ صدقةَ الفطرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ والرَّفثِ وطُعْمَةً لِلْمَساكِينِ.. إلخ”، وقد أكد ابن المنذر في “الإجماع” على إجماع أهل العلم على وجوب زكاة الفطر فقال: “وأجمعوا على أن زكاة الفطر فرض، وأجمعوا على أن صدقة الفطر تجب على المرء إذا أمكنه أداؤها عن نفسه، وأولاده الأطفال الذين لا أموال لهم، وأجمعوا على أن على المرء أداء زكاة الفطر عن مملوكه الحاضر”.

وقد أوضح سعيد بن علي بن وهف القحطاني أن الحكمة من وجوب زكاة الفطر تتمثل في أمور عديدة، منها أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين وإغناء لهم عن السؤال، ومواساة للمسلمين أغنيائهم وفقرائهم، وزكاة للبدن حيث أبقاه الله تعالى عاماً من الأعوام، وشكر نعم الله تعالى على الصائمين بإتمام الصيام، وحصول الثواب والأجر العظيم بدفعها.

شروط زكاة الفطر

ولزكاة الفطر شروط ذكر سعيد بن علي بن وهف القحطاني ثلاثة منها: أولها الإسلام لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: “فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين: حر أو عبد، أو رجل أو امرأة، صغير أو كبير”، قال ابن قدامة في “المغني“: “وجملته أن زكاة الفطر تجب على كل مسلم مع الصغر والكبر والذكورية والأنوثية في قول أهل العلم عامة، وتجب على اليتيم ويخرج عنه وليه من ماله، وعلى الرقيق”.

ويتمثل الشرط الثاني في الغنى، ولا يقصد الفقهاء بالغنى هنا أن يكون الإنسان صاحب مال وفير، وإنما المقصود به أن يكون عنده “يوم العيد وليلته صاع زائد عن قوته وقوت عياله وحوائجه الأصلية”، في حين يتمثل الشرط الثالث في دخول وقت وجوب إخراج زكاة الفطر وهو غروب الشمس من ليلة الفطر، كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق الذكر: “فَرَضَ رسولُ اللهِ صدقةَ الفطرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ والرَّفثِ وطُعْمَةً لِلْمَساكِينِ.. إلخ”.

وقت إخراج زكاة الفطر

جاءت في الحديث النبوي إشارات إلى أن إخراج زكاة الفطر ينبغي أن يكون قبل صلاة العيد، ومن تلك الإشارات الحديثية: “وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة”، “وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين”، ولكن الواضح أنه لا يجوز تأخير إخراج زكاة الفطر بعد صلاة العيد، والدليل على ذلك حديث ابن عباس السابق الذكر الذي أوضح الوقت الذي تتحول فيه زكاة الفطر من زكاة مقبولة إلى صدقة من الصدقات: “فمَنْ أَدَّاها قبلَ الصَّلاةِ فهيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، ومَنْ أَدَّاها بعدَ الصَّلاةِ فهيَ صدقةٌ مِنَ الصَّدَقَات”.

و في إطار الحديث عن زكاة الفطر أحكامها وآثارها، قد يتساءل البعض عن أول وقت يصبح فيه من الجائز إخراج زكاة الفطر: هل هو قبل العيد بيوم أم يومين أم ثلاثة أم أكثر؟ والظاهر أن هذا الموضوع محل لخلاف بين الفقهاء، ولعل سبب هذا الخلاف يعود إلى أن الأحاديث لم تحدد وقتاً معيناً بالنسبة لأول وقت، وإنما جاء في بعضها التصريح بوجوب إخراجها قبل الصلاة دون تحديد، مثل حديث ابن عباس السابق، وحديث ابن عمر: “وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة”، وجاء في رواية أخرى من حديث ابن عمر: “وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين”.

ويمكن القول إن اختلاف العلماء حول وقت وجوب إخراج زكاة الفطر يتمثل في قولين: القول الأول يرى أصحابه أن زكاة الفطر تجب بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان، وقد استدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: “فَرَضَ رسولُ اللهِ صدقةَ الفطرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ والرَّفثِ وطُعْمَةً لِلْمَساكِينِ، فمَنْ أَدَّاها قبلَ الصَّلاةِ فهيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، ومَنْ أَدَّاها بعدَ الصَّلاةِ فهيَ صدقةٌ مِنَ الصَّدَقَات”.

أما القول الثاني، فقد ذهب أصحابه إلى أن زكاة الفطر تجب بطلوع فجر يوم العيد، واستدلوا بما رواه البيقهي والدار قطني عن ابن عمر: “فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر وقال: أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم”، قال محمد عبد الفتاح البنهاوي معلقاً: “أضاف الإغناء في الحديث إلى يوم العيد والإضافة للاختصاص، فدلَّ هذا على أنها تجب بطلوع الفجر.

مقدار زكاة الفطر

إذا نظرنا إلى المقدار الذي كان يخرجه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، فإننا سنجد أن مقدار زكاة الفطر لا يعتبر من المسائل التي تطرح إشكالاً ملحاً، فهناك عدة أحاديث توضح لنا مقدار زكاة الفطر في ذلك الزمن، منها حديث ابْنِ عمر رضي الله عنهما قَالَ: “فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ”، وحديث أبي سعيد الخدري: “كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِن طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِن شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِن تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِن أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِن زَبِيبٍ.

وتحدث العلماء عن مقدار الصاع الذي تُؤَدَّى به زكاة الفطر، فقالوا إن الصاع أربع حفنات بكفي الرجل المعتدل، أي ليس بعظيم الكفين ولا صغيرهما، قال الفيروزبادي: “وجربت ذلك فوجدته صحيحاً”، وقال الشيخ ابن باز: “ومقداره أربع حفنات بملء اليدين المعتدلتين من الطعام اليابس كالتمر والحنطة ونحو ذلك، أما من جهة الوزن فمقداره أربعمائة وثمانون مثقالاً”، أما اللجنة الدائمة للبحوث العملية والإفتاء فأوضحت مقدار الصاع أكثر عندما قالت: “المقدار الواجب في زكاة الفطر عن كل فرد صاع واحد بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، ومقداره بالكيلو ثلاثة كيلو تقريباً”.

لقد رأينا من خلال الأحاديث السابقة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يخرجون زكاة الفطر من الطعام أو الشعير أو التمر أو الأقط أو الزبيب، ولكننا لم نقف على حديث نبوي يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يخرجون زكاة الفطر من النقود، ولا شك أن هذا الأمر يمثل إشكالاً فقهياً خاصة في ظل دعوة بعض العلماء المعاصرين إلى إخراج الزكاة من النقود والعملات المختلفة.

ومن دون الدخول في التفاصيل، وفي خضم التطرق لزكاة الفطر أحكامها وآثارها، نود أن نذكر بأن الخلاف حول إخراج زكاة الفطر من النقود ليس خلافاً معاصراً وإنما خلاف قديم حديث، فقد حصل خلاف بين الفقهاء حول هذه المسألة قديماً وحديثاً، فذهب فريق إلى وجوب إخراج زكاة الفطر من قوت البلد تمسكاً بالنصوص الشرعية الصريحة، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: “ولا تجزئ القيمة لأنه عدول عن النصوص”، وذهبت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء إلى أنه “لا يجوز إخراج زكاة الفطر نقوداً، لأن المسألة الشرعية دلت على وجوب إخراجها طعاماً، ولا يجوز العدول عن الأدلة الشرعية لقول أحد من الناس”.

أما الفريق الثاني، فذهب إلى جواز إخراج زكاة الفطر من القيمة واستدل على هذا الرأي بجملة من الأدلة، منها “أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة نص في تحريم دفع القيمة”. 

مصارف زكاة الفطر

كانت الأحاديث النبوية صريحة في تحديد مصارف زكاة الفطر، فقد رأينا في حديث ابن عباس: “فَرَضَ رسولُ اللهِ صدقةَ الفطرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ والرَّفثِ وطُعْمَةً لِلْمَساكِينِ.. إلخ”، ورغم أن الفقهاء أجمعوا على أن زكاة الفطر تصرف لفقراء المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم: “أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم”، إلا أنه وقع خلاف بين العلماء هل تصرف على الأصناف الثمانية المنصوص عليها في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أم لا؟

وقد حاول الدكتور محمد عبد الفتاح البنهاوي أن يخلص آراء الفقهاء حول هذه المسألة، فقال إن اختلافهم كان على ثلاثة أقوال: ذهب الفريق الأول (جمهور الفقهاء) إلى أنه يجوز صرف زكاة الفطر على الأصناف الثمانية كما يجوز تخصيصها للفقراء، وذهب الفريق الثاني (الشافعية وابن حزم وأحمد في رواية) إلى أنه يجب صرف زكاة الفطر على الأصناف الثمانية المنصوص عليها، أما الفريق الثالث (مالك وأحمد في رواية) فيرى أنه يجب تخصيص زكاة الفطر للفقراء والمساكين ولا تصرف لغيرهم واستدلوا بحديث ابن عباس السابق الذكر.  

آثار زكاة الفطر

للزكاة بشكل عام أهداف وآثار اجتماعية واقتصادية عديدة بعضها يعود على المزكي وبعضها يعود على الفرد الواحد المستفيد منها وبعضها يعود على المجتمع بشكل كامل، ولا يخفى على عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرض زكاة الفطر إلا لحكمة بليغة وغاية عظيمة تخص مصلحة المزكي والفرد المسلم والأمة الإسلامية جمعاء في كل زمان ومكان، وقد كانت هذه الحكمة والغاية واضحة من خلال الأحاديث النبوية وخاصة حديث ابن عباس الذي جاء فيه أن “صدقةَ الفطرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ والرَّفثِ وطُعْمَةً لِلْمَساكِينِ”.

وإذا أردنا أن نكشف عن بعض الآثار الاجتماعية لزكاة الفطر من خلال حديث ابن عباس السابق، فإننا يمكن أن نقول إن أول أثر من آثار زكاة الفطر يتعلق بالفرد، ويعني ذلك أن زكاة الفطر “تعمل عمل السنن الراتبة مع الصلوات الخمس المفروضة، تجبر ما قد يحدث فيه من غفلة، وما اعتراه من شائبة”، وقد ذهب وكيع ابن الجراح إلى أن زكاة الفطر لشهر رمضان كسجدة السهو للصلاة، فتجبر نقصان الصوم كما يجبر السجود نقصان الصلاة.

أما الأثر الثاني الذي يمكن أن نستنتجه من خلال الحديث فيتعلق بالمجتمع “طُعْمَةً لِلْمَساكِينِ”، إذ لا شك أن إدخال السرور والفرح على المساكين في يوم العيد المبارك أمر عظيم له أثر بالغ في النفوس المؤمنة ودور بارز في إسعاد المجتمعات المسلمة، فـ”الفقير إذا وجد الغني يهتم به ويعطف عليه ويعطيه مما عنده فإن هذا يسعده أيما سعادة، ويحب الخير لهذا الغني ويدعو له بالمزيد، ويزول الحقد من قلوب الفقراء على الأغنياء، فيتماسك المجتمع المسلم وتعم الفرحة والسرور، ويصبح العيد عيداً سعيداً على الجميع”.