يكفي أن يهمس بها الإمام لتنتظم أفواج المصلين طوعا، ويلين المسلم بيد أخيه حتى تحاذي كل قدم أختها، ويتحول الجمع إلى أنموذج في الانضباط والانسجام، كي يتحقق المظهر الذي أثنى عليه الله تعالى في كتابه، وحثت السنة النبوية على لزومه.
لكن ما إن يتحلل المسلم من صلاته بالتسليم حتى يستعيد فوضاه، وتدافعه اليومي في الأسواق العامة والمصالح الإدارية ومواقف الأتوبيس. فترى عجبا، وتلمح انفصام العروة بين بيوت الله وطرقات العباد، وبين المنهج كما حدده الشارع الحكيم والواقع الذي يضج أنانية وإيثارا مفرطا للذات.
تحيل مادة [ص ف] في القرآن الكريم على معاني الانتظام والالتزام، والاستعداد لتلقي الأوامر، يقول الشيخ متوليالشعراوي ، فسحرة فرعون تبادلوا النصيحة بوحدة الصف لما فيه من الهيبة وإدخال الروع على قلب خصمهم، وذلك في قوله تعالى: ( فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا) طه-64.
ويكون العرض على الله تعالى صفوفا يوم القيامة فيقول سبحانه :( وعرضوا على ربك صفا) الكهف- 48، أي كما يستعرض القائد جنوده بترتيب لا يستطيع أحد فيه التخفي، ولا فرار له منه.
ويقول عز وجل عن ملائكته: (وإنا لنحن الصافون) الصافات– 165.أي نقف في انضباط بحيث لا يتعالى أحد على أحد رهبة ممن نحن مصفوفون أمامه.
وفي الصلاة كما في القتال يحب الله تعالى الاصطفاف دلالة على الطاعة والسكون، والتزام الأوامر.
ما الذي حدث إذن حتى صارت الفوضى اليومية أشد تعبير على حفظ الحروف وتضييع الحدود ؟
و لماذا يمضي أغلب المسلمين في تلاوتهم للقرآن الكريم، غير عابئين بأنهم المكلفون شرعا بمضامين خطابه؟
إن جزءا من المشكلة مرده بالأساس إلى غياب عنصر التربية الخلقية في تنشئة الطفل منذ الصغر. بالمقابل نجد اهتماما كبيرا بالقدرات العقلية ، من حفظ وشحن بالمعلومات، وتنمية للذاكرة والمهارات التي تخدم مساره المستقبلي. فتتولد حالة من الانفصام الواضح بين المعرفة وتطبيقاتها العملية، بحيث لا يبدي المسلم حرجا في لزوم النظام داخل الفصل الدراسي، وتبني الفوضى خارجه. ولا يمكن تجاوز هذا الوضع إلا بتحويل ما هو ظاهر إلى باطن، يقول الدكتور حسنالشرقاوي مؤلف كتاب( التربية النفسية في المنهج الإسلامي)، بمعنى آخر تحويل المظاهر الخارجية إلى عقيدة إيمانية من خلال رياضة النفس والتدرب على مخالفتها، وغرس القيم باعتماد القدوة الحسنة والممارسة الواقعية.
أما الجزء الثاني من المشكلة فيعبر عنه الفصل الحاد بين الأنا والآخر بشكل يهدم مقتضيات الأخوة الإيمانية، ويعلي من أنانية الفرد إزاء متطلبات الجماعة التي ينتسب إليها. ولاشك أن لمنظومة التغريب يدا في هذا الوضع من خلال إكساب مفاهيم القوة والطموح والتنافس دلالات متعارضة مع التصور الإسلامي، حتى صارت القوة رديفا للعنف، والمنافسة مبررا للفوضى وكسر الأعناق، وامتهان كرامة الآخرين.
في حين يعكس الجزء الأخير حالة استسلام غريبة، و تطبيع مع الوضع السائد. كأن قدر المسلم أن يحيا في فوضى مستمرة وزحام أبدي. وتطفو إلى السطح مقولات وانطباعات، بل حتى ” قفشات ” ترسم صورة سلبية لهذا الكائن الذي يعاني من متلازمة التخلف، ويقضي سحابة يومه في التدافع والتهافت، وبذل ماء وجهه لقاء أي شيء. و بذلك تصير الفوضى تجليا لعدم التوافق بين حركة الإنسان والبرنامج الحضاري الذي سطره الدين تحت شعار “الاستخلاف”.
إن تسوية الصفوف، داخل المسجد أو خارجه، هي إحدى تعبيرات التوازن الذي يعتمده الإسلام منطلقا لإنجاح تجربة الإنسان الفردية والجماعية في العالم. حيث يشكل النظام صورة من صور التكامل بين قيم الروح و قيم المادة. وكلما انحرف الإنسان عنه إلا ووقع ضحية تمزق نفسي تنعكس آثاره على النشاط الاجتماعي، فيعم الإحساس بالعبثية و اللاجدوى. وهنا تبدو وحدة الصف قرينةَ التغيير الذي يبدأ من داخل النفس قبل أن تبرز ثماره على السطح. ولن يتأتى ذلك إلا بتقديم المبادئ على الوسائل، واستعادة أصالتنا العميقة.
لقد انقلبت الموازين في غزوة أحد حين خالف الرماة أمر رسول الله ﷺ، وخرقوا الصف الإيماني سعيا وراء الغنيمة .ولعله المشهد الذي يتكرر كل يوم على امتداد العالم الإسلامي، ثم نرفع عقيرتنا بالشكوى من آثار الهزيمة النفسية والتبعية الحضارية، غير آبهين بالرد الإلهي الذي ذهلت عنه البصائر: ( قل هو من عند أنفسكم)آل عمران-165