تقع سنة الاستبدال ضمن منظومة سننية أعلى وهي سنة “التغيير” ، فالثابت في حركة التاريخ والأمم والإنسان أن التغيير هو المبدأ الذي يحكم حركة الكون والأحياء { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمن:29]، إلا أن هذا التغيير والحركة الدائمة في الكون لهما قوانينهما وسننهما الثابتة التي يمكنها أن تفسر لنا هذا التغيير واتجاهه وعوامله، كما تتنبأ بحدوثه.
ونظرية الوحي في التغيير تعتمد في تفسيرها على حالة الإنسان الفرد الذي يمكن من خلال ملاحظته الوعي بمآل المجتمع الذي ينتمي إليه في الصعود والهبوط، وفي ذلك يقرر الوحي هذه السنة المنظومية في هذه الآية الكريمة {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } وصنو هذه الآية أيضًا { ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ }..هاتان الآيتان توضحان قواعد حركة التغيير الكبرى التي تحدث في التاريخ والحضارات والأمم، فالإنسان هو محرك التاريخ وكذلك هو مؤشر الصعود والهبوط للأمم والحضارات.
وتتضمن المنظومة السننية للتغيير في القرآن الكريم مجموعة من السنن التي تندرج تحتها مثل: سُنَّة التدافع، وسُنَّة التداول، وسُنَّة التجدد، وسُنَّة الهلاك، وسُنَّة موت الأمم، وسُنَّة التمكين، وسُنَّة العلو والانحطاط، وسُنَّة الاستبدال. ولكلٍ من هذه السنن مقدماتها المادية والمعنوية التي يمكن أن تقاس في تاريخ الأمم في واقعها والتنبؤ بما ستؤول إليه، أو بالعوامل التي أدت إلى وضعها الحاضر. ونهتم هنا بسُنَّة الاستبدال ضمن السلسلة التي بدأناها بسنة التدافع، وعلاقة الترف بهلاك الأمم وفنائها، والضمير المجتمعي ووظائفه الحضارية.
“الاستبدال” الموقع القرآني
وَرَدَت لفظة “الاستبدال” في القرآن في موضعين: الأول في سورة التوبة{ إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا}[39], والموضع الثاني، في سورة محمد { أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [38].
والظاهر من هاتين الحالتين لمفردة “الاستبدال” أنهما وُضعتا في موضع جواب شرط لفعل شرط مفاده العطاء الإنساني، الأول موضع (سورة التوبة) عطاء في مجال “التدافع الحضاري” وهو “النفير”، والثاني موضع (سورة محمد) في مجال تداول حركة “رأس المال ” في المجتمع أي تحقيقًا لضابط حركة المجتمع نحو الاتزان والاستقرار المادي {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} [الحشر:7].
ويذكر القرطبي في تعليقه على آية (سورة محمد) قوله: وإن تتولوا أيها الناس عن هذا الدين الذي جاءكم به محمد _ﷺ_ فترتدوا راجعين عنه..يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلًا منكم، ويحدد أوصاف هؤلاء القوم الآخرين: 1. يصدقون به 2. ويعملون بشرائعه 3. ثم لا يبخلوا بما أمروا به من النفقة في سبيل الله 4. ولا يضيعون شيئًا من حدود دينهم 5. يقومون بما يؤمرون به كله.
أركان سنة الاستبدال (وَإِن تَتَوَلَّوْا)
الركن الأساس في هذه السُنَّة “الاستبدال” هو “التوَلِي” عن أمر الله تعالى، وللتوَلِّي أشكال ومظاهر، نتناولها بعد إطلالة على الفضاء اللغوي القرآني للفظة “تَتَوَلَّوْا”. لفظة “تَتَوَلَّوْا” جذرها اللغوي “وَلِي”، ويشير الراغب الأصفهاني -في المفردات- إلى معاني التولي في القرآن كما يلي:
1-من الولاء والتوالي: ويشير هذا المعنى إلى أن يحصل شيئان فصاعدًا حصولًا ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث: المكان، والنسبة، والدين، ومن حيث: الصداقة، والنصرة، والاعتقاد، ومن حيث: الولاية والنصرة. وفي ذلك نفى الله تعالى الموالاة بين المؤمنين والكافرين في أكثر من آية منها:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]. وجعل بين الكافرين والشياطين موالاة في الدنيا { إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [ الأعراف27].
2-من الإعراض: فقولهم تولَّى إذا عُدِّيَ بنفسه اقتضى معنى الولاية، وحصوله في أقرب المواضع: مثل وليت وجهي أي أقبلت عليه{ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] . وإذا عُدِّيَ بـ (عن) لفظًا أو تقديرًا اقتضى معنى الإعراض، وتَرْكِ قُرْبِه. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران:63].
ووَلّى عن الشيء انصرف عنه أو أعرض عنه، أو ذهب بعيدًا عنه..ووَلَّى وجهه إلى الشيء: اتجه إليه. وتولى أعرض وانصرف[1].
أبعاد (إِن تَتَوَلَّوْا) ومظاهرها
كما سبق وأشرنا فإن سنة الاستبدال ركنها الركين هو التولي، نلقي الضوء هنا على أبعاد هذا التولي في القرآن ومظاهره. وقد وردت مشتقات الجذر (ولي) حوالي (80) مرة بحسب التتبع المعجمي، كان من بينها (64) موضوعًا تشير إلى عوامل الاستبدال -للأمم والأقوام والنظم والمكانات والقوة والمنعة- وتوضح أركان التولي (فعل الشرط) لحالة الاستبدال (جواب الشرط). وقد حاولنا تصنيف هذه الأبعاد النزوعية والمظاهر السلوكية ومآلاتها تصنيفًا مبدئيًا أخذ الشكل التالي، الذي نشير فيه إلى البُعد/المظهر الخاص بشكل (التولي) مع ذكر رقم الآية والسورة الوارد فيها.
1-الإعراض عن..وجاء ذلك في ( 22) موضوعًا موزعًا حسب نزوعات الإعراض وموضوعاتها التالية:
-الإعراض عن الالتزام بعهد الله ومواثيقه: [البقرة:64].
-الإعراض عن القيم الإلهية : [البقرة:83].
-الإعراض عن الإيمان والهدى: [ البقرة:177], [ هود:52].
-الإعراض عن الإسلام وتعاليمه: [آل عمران:20]، [آل عمران:23]، [آل عمران:32]، [آل عمران:64]،[هود:57]،[هود:3]،[النحل:82]،[يونس:72]،[المعارج:17]، [الأنبياء:109]،[النجم:33]، [التغابن: 12].
-الإعراض عن سماع كلام الله: [ الأنفال: 23]، [الأنفال: 40].
-رفض البراءة من المشركين: [التوبة:3].
-الإعراض عن الاستجابة إلى التوبة: [ التوبة:74].
-الإعراض عن ذكر الله: [النجم:29].
-الإعراض عن الآخرة: [ الممتحنة:6].
2-موافقة الهوى وطاعة الشيطان: [المائدة:43]، [النحل: 100]، [الحج:4].
3-التكذيب بالآيات والسنن: [طه:48]، [القيامة: 32]، [الغاشية: 23]، [الليل:16]، [العلق:13].
4-التخلف عن الجهاد/الفرار من الزحف: [البقرة:246]، [ آل عمران: 155]، [الأنفال:15], [الفتح:16].
5-التخلي عن نصرة المسلمين في عثرتهم: [التوبة:50]، [التوبة:129].
6-التوجه إلى الانحلال الأخلاقي: [آل عمران:82]، [المائدة: 49].
7-الانصراف إلى الإفساد في الأرض: [ البقرة:205]، [ آل عمران: 63]، [محمد:22].
8-مخالفة الله ورسوله: [ المائدة: 92]، [ الأنفال:20]، [ النور:47]، [ الصافات:40]، [الفتح:17]، [النساء: 115].
9-موالاة الباطل وأعداء الإسلام والمنافقين: [النساء:89], [المائدة:80], [التوبة:23], [المجادلة:14]، [الممتحنة:9]، [الممتحنة:13].
10-التهرب من الإنفاق في سبيل الله: [ محمد:38].
11-الانصراف إلى جمع الكيد للمؤمنين: [ طه:60].
12-عظم الإثم: [النور:11].
13-محاولة الهروب من عقاب الله: [ الصافات: 178].
14-الانصراف إلى ملذات الدنيا وشهواتها: [ النجم:29].
15-دعوة الناس إلى غمط حقوق الناس: [ الحديد:24].
المسلمون وسُنَّة “الاستبدال”
جاء استبدال الأمم السابقة عن طريق هلاكها، كما في أقوام: ثمود، وصالح، ولوط، وشعيب، وكان ذلك بهلاك مباشر من الله تعالى {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:39]، وشكل آخر للاستبدال هو نقل العزة والغلبة من أمة إلى أمة {غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } [الروم:2-3].
ثم كان نقل راية القيادة للبشرية لبني إسرائيل على يد سيدنا موسى { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} [القصص:5-6 ]، وهذه سنة التمكين الوجه المقابل لسنة الاستبدال، فما كان هناك استبدال لقوم إلا ويوازيه تمكين لقوم آخرين -وكل بشروطه وقوانينه- حتى استحقوا الاستبدال بما فعلوه في نشر المنكر وتحريف شريعة الله ومخالفة عهوده ومواثيقه فاستحقوا الاستبدال { وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا } إلى آخر الآيات التي توضح مصيرهم بنهاية زعماتهم وتخليهم عن راية الله.
ثم تسلم المسلمون هذه الراية باعتبارهم الأمة الخاتمة والشاهدة والوسط على الأمم السابقة والحاضرة، ومنح الله هذه الأمة خيريتها بشروطها: 1. الإيمان بالله. 2. الأمر بالمعروف. 3. النهي عن المنكر. 4. امتلاك مؤهلات التمكن لتحقيق الشهود على الأمم. 5. تبليغ رسالات الله بلاغًا مبينًا.
ولقد فقدت الأمة كثير من هذه الشروط وجلها, فتراجعت عن الشهود وعن البلاغ, وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخلها وخارجها. وأصبحت تابعة يستذل أبناؤها لغيرها من الأمم, ومن ثم فقدت الشهود الحضاري, والإمكان الحضاري, والإرادة الحضارية.
لقد جرت على المسلمين سُنَّة الاستبدال، وتوفرت عوامله وشروطه، وازدهرت بين طبقاته الحاكمة والعالمِة وفي ضميره الجمعي، وتراجعت في الأمة سُنَّة “التدافع” بين الخير والشر, وكثر شرها, وانتشر المنكر ودعا إليه علماؤها وحكامها، وغابت رسالتها نحو البشرية كلها، وتحلل كيان الإنسان فيها، فلم يعد هو ذاك الإنسان القادر على صناعة تاريخه، وتبليغ رسالته؛ بل أضحى إنسانًا مريضًا، مجبرًا لا حرًا، ومسيرًا لا مخيرًا، تابعًا لا قائدًا، متشبهًا لا حضاريًا.
من أجل ذلك استحقت الأمة الاستبدال، واستبدالها ليس بهلاكها، وإنما بضعفها ونقل راية العزة والرفعة والمنعة والقيادة لغيرها من الأمم.
[1] أحمد عبدالفتاح: القاموس القويم للقرآن الكريم، ص361.