يُشرَعُ القنوتُ – وهو الدعاء في صلاة الوتر – وهذا مذهبُ الجمهورِ، وهو سُنَّة نبوية ثابتة .
والدعاء الذي ورد في الحديث الصحيح، هو: عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علَّمني رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم كلماتٍ أقُولهن في قُنُوت الوتر: “اللهم اهْدني فيمنْ هَديت، وعافِني فيمَنْ عَافيت، وتَولَّني فيِمَن توليت، وبَاركْ لي فيما أعطيت، وقِني شرَّ ما قَضَيت، فإنَّك تَقضي ولا يُقضَى عليك، إنه لا يَذِلُّ مَنْ وَاليت، ولا يَعزُّ مَنْ عَاديت؛ تَبََاركت ربنا وتعاليت” .
رواه أحمد (1/199،200)، وأبو داود في كتاب الصلاة (1425)، والترمذي (464)، والنسائي (1745)، وابن ماجة (1178) وغيرهم.
وهو دعاءٌ عظيم القَدْر؛ رفيعُ الشأن، فيه معاني جليلة, ومشتملٌ على مسائل في الإيمان عظيمة، وفي العقيدة والتوحيد، ففيه توسّلٌ بأسْماء اللَّه تعالى وصِفاته وأفعاله، وإثباتٌ وإقرارٌ بصفاته تعالى المثبتة والمنفية؛ وتوسلٌ بآلائه وإنْعامه، وفيه مقاصدُ ومَطالب للعباد عظيمة؛ بسؤُال أصُول السَّعادة والسّلامة في الدارين،في الدّين والدنيا والآخرة, والإيمان بالقضاء والقدر، والمشيئة، وغيرها؛ كل ذلك بأجْمل الألفاظ والمباني، وأوْسع الدلالاتِ والمعاني, مِنْ كلامِ مَنْ أوتي جَوَامع الكلم؛ وفَواتِحه وخواتمه؛ عليه أفضلُ الصلاة؛ وأزْكى التَّسليم.
وهذا شرحٌ مُيسّر لهذا الدُّعاء النَّبوي المُبارك :
– فقوله: “اللهم”: أصْل كلمة “اللهم” الله، والميم فيها عوض عن ياء النداء عند الجمهور، والمراد دعاء الله وحده لا شريك له، بقولك: يالله.
“اهْدنا”: مِنَ الهداية؛ أي: دُلنا على الحقّ؛ ووفِّقنا للعمل به؛ فإذا قلنا في دُعاء القنوت: “اللهم اهْدنا فيمنْ هديت” فإننا نَسأل الله تعالى الهدايتين: هداية العلم؛ وهداية العمل، كما في قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) الفاتحة: 6 .
فهذا يشملُ الهِدايتين: هدايةَ العِلم، وهدايةَ التوفيق للعمل، فينبغي للدَّاعي أنْ يَسْتحضر أنَّه يسأل الله عز وجل الهدايتين: هداية العلم؛ وهداية العمل.
فالعلمُ بلا عملٍ لا يَنفع صاحبه؛ بل يكون وبالاً عليه! والعمل بغيرِ علمٍ ضلال؟!
فالأول : حال المَغْضوب عليهم؛ مِنَ اليهود وأشباههم .
والثاني : حال الضَّالين؛ من النَّصارى وأشْباههم .
– قوله: “فيمنْ هَدَيت” : أي نسْألك الهداية؛ فإنّ ذلك مِنْ مُقْتضى رحمتك وحِكْمتك؛ ومِن سَابق فضلك؛ فإنك قد هَدَيت أناسًا قبلنا كثيرين؛ فنسألك أنْ تُدخلنا في جملة المُهديين وزُمرتهم، وهم مَنْ قال اللَّه تعالى عنهم: (ومن يُطع اللهَ والرسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا* ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما) النساء : 69-70 .
فاللهم اجْعلنا في زُمْرتهم برحمتك؛ وأنتَ أرحمُ الراحمين .
– قوله : “وعَافِنَا فيمَنْ عَافيت” : أي: اللهمّ عافنا مِنَ الأمراض والأسْقام كلِّها؛ أمراضِ القُلوب والأرْواح؛ وأمراضِ الأبدان وعللها؛ وأمراض الأبدان كثيرة ومعروفة؛ لكنْ أمراض القلوب تعود إلى أمرين :
الأول : أمراضُ الشَّهوات، وهي التي منْشؤها الهَوى والشَّهوة: فيعْرف الإنسان الحق، لكن تغلبه شهواته فلا يتَّبعه؛ ولا يَعمل به؛ بل له هوًى مُخالفً لأوامر الشَّرع الحَكيم، في القرآن الكريم، أو السَّنة النبوية الشريفة.
الثاني : أمراضُ الشُّبُهات التي مَنْشؤها الجهل والشّك، والبعد عن العلم الشرعي، لأنّ الجَاهلَ يفعل الباطل ويظنه حقًّا؛ وهذا مرضٌ خطيرٌ جدًّا .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: “القلبُ يَعْترضه مَرَضان يَتواردان عليه؛ إذا اسْتحكما فيه؛ كان هلاكه وموته، وهما: مرضُ الشَّهوات، ومرض الشُّبهات، هذا أصلُ داءِ الخَلق إلا مَنْ عافاه الله”.
وقال أيضًا رحمه الله تعالى: “مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم، وفساد القصد، ويترتب عليهما داءان قاتلان، وهما: الضلال والغضب، فالضلال نتيجة فساد العلم، والغضب نتيجة فساد القصد، وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها”.
وأمراض الشُّبهات مُتعدِّدة، وهي كلّ داءٍ يَشتمل على شُبهةٍ وشك، وهو على أنواع كثيرة:
1- النفاق: وهو إظْهارُ الخير وإبْطان الشر، وهو قسمان: أكبر وهو اعتقادي، بإظهار الإيمان وإبطان الكفر، وأصْغر وهو عملي، منَ التخلّق بأخْلاق المنافقين، وقد ذمَّ الشَّرع التخلق بأخلاق المنافقين وأفعالهم، لأنه يفضي بالإنسان إلى الوقوع في النفاق الأكبر.
2- الشَّك: وهو التَّردُّد في ثُبوت الحقِّ الذي دلَّ عليه الشَّرع، وأعظمه الشكُ في الله تعالى ووحْدانيته، أو في رُبوبية أو في الأسماء والصفات، وغير ذلك من القطعيَّات.
3- سُوءُ الظن بالله تعالى: بأنْ يُسيء العبدُ الظنَّ بربِّه، وأفعاله وأقداره، وآياته ورسله وأولياءه.
4- الرياء: بأنْ يُظهر العبدُ العبادات والقُربات، مراءاة للناس ومباهاة، وطمعا في الدنيا.
5- الوساوس: وسَاوس الكفر، والشرك، والشّك، والإلحاد، بأنْ تكثر على قلب العبد وفكره، ويستجيب لها.
وغيرها من الأمراض.
أمَّا أمراض الشَّهوات: فهي كلُّ داءٍ يشتمل على شَهوة، وهو على أنواع:
1- حبُّ الدنيا: بأنْ يفتنُ العبد بحب الدنيا وزخارفها، وتكون هي همُّه، ومبلغ علمه، وغاية مطلوبه ومراده.
2- فتنة النساء: بأنْ تستولي على القلب فتنة حبّ النساء، ويسعى العبد في سبيل الوقوع فيها بالحلال والحرام، من غير وقوف عند حُدود الشرع.
3- حبُّ الرئاسة: بأنْ يفتن العبد بحبّ الرئاسة والقيادة، وتستشرف نفسه لذلك، فيهلك.
4- حبُّ الشُّهرة: بأنْ يفتن العبد ويسعى بكل ما يستطيع لنيل الشهرة بين الناس، في العلم الشرعي، والأعمال الخيرية.
5- شهوة الكِبْر: بأنْ يُصابَ القلبُ بشهوة الترفُّع على الخَلق، والتكبر على عباد الله تعالى.
6- شهوة الظُّلم: بأنْ يَستلذ القلب ويَستمتع، بإيقاع الظُّلم بجميع صوره على الآخرين، من سبٍّ وشتمٍ، وغيبة ونميمة، واستباحة للأمْوال المعصومة.
فالمسلم في هذا الدعاء الشَّريف الجامع؛ يسألُ الله تعالى المُعَافاة والعَافية، مِنْ جميع أمْراض الأبْدان وعللها، ومِنْ جميع أمْراض القُلوب، التي هي أمْراضُ الشَّهوات؛ وأمراض الشَّبهات، بأقصر عبارة، وأجمع مقال.
– قوله: “وتَوَلّنا فِيمنْ تولَّيت” أي: كنْ ولياً لنا؛ الولاية الخاصَّة؛ التي تقتضي العناية بمَنْ تولّاه الله عزَّوجلَّ؛ والتوفيق لما يُحبه ويَرضاه؛ والصَّبر عنْ كل ما يُغضب اللَّه تبارك وتعالى مِنَ الأقوال والأعْمال.
ففيه توسلٌ إلى اللَّه تبارك وتعالى بفعل الوِلاية, وهو مُشْتق من اسْمين للَّه تعالى من الأسْماء الحُسنى؛ وهما: ” الوَلي”، و”المَولى” اللذين يَدلان على معنى الولاية؛ وهي ولايتان :
الولاية العامة: وهي لكلّ الخَلائق , كما في قول اللَّه تعالى: ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَق ألا له الحُكْمُ وهو أسْرعُ الحاسبين) الأنعام : 62 .
والولاية الخاصَّة: وهي ولاية اللَّه تعالى للمؤمنين المُتقين، كما قال تعالى : (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) البقرة: 257 .
وقال: (بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) آل عمران: 150.
وفي هذا تنبيهٌ: على أنَّ مَنْ حَصَل له ذُلّ في الناس، فهو بنقصان ما فاته مِنْ تولّي اللَّه تعالى له, وإلا فمَعَ الولاية الكاملة؛ يَنْتفي الذُّل كلُّه، ولو سلّط عليه مَنْ في أقطار الأرض .
– وقوله : “وباركْ لنا فِيما أَعْطَيت”: أي: اجعلْ لي البركة فيما أعطيتني، وأنزلْ لي البركة فيما وهبتني؛ والبَرَكَة: هي الخَيرات الكثيرة الثابتة.
– وقوله : “فيما أعْطَيت” : أي ممَّا أعْطيت؛ منْ جميع النّعم والهِبات؛ مِنَ المال والولد، والعلم والجاه والمَنْصب؛ وغير ذلك ممَّا أعْطى اللهُ عزَّ وجلَّ عباده، فتسألُ اللهَ البَركة فيها؛ لأنّ الله إذا لم يُبارك لك فيما أعطاك، حُرمت خيرًاً كثيرًاً؛ ولم تنتفع بتلك النِّعم.
وما أكثرُ الناسِ الذين عندهم نِعَم ولم ينتفعوا بها؛ فهذا لديه مالٌ كثير؛ لكنه في عداد الفقراء؛ لأنَّه لم يَنْتفع بماله، يَجمعه ويحصّله؛ ثم يَحبسه ولا ينفقُ منه، لا على نفسه؛ ولا على مَنْ تجب عليه نفقته مِن زوجةٍ وولد وغيرهم، فلا يستفيد من ماله شيئاً؛ ولا يستمتع به، فيعيش عيشَ البمُحتاجين الفقراء؛ ويُحاسب في الآخرة حساب الأغنياء؛ وهذا مِنْ نَزْع البَركة مِنَ المال؛ والعُقوبة فيه .
وكثيرٌ من الناس عنده أولادٌ وذريّة، لكنْ أولادُه لا ينفعونه بشيء؟! لِمَا فيهم مِنَ العجز والكسل؛ أو العُقوق والعصيان، وهؤلاء لم يُبَارَكْ لهم في أولادهم من بنين وبنات .
وبعض الناس أعْطاه الله عِلمًا كثيرًا؛ لكنَّه بمنزلة الأمِّي الجَاهل؟! تجده لم ينتفعْ الناسُ بعلمه، لا بتدريسٍ وتعليم، ولا بتوجيه وإرْشاد، ولا بتأليف وتصنيف، بل عِلْمه مُقْتصرٌ على نفسِه، وهذا بلا شك حِرمانٌ عظيمٌ مِنْ أجْرِ العِلم وفضله؛ وتعليمه للنَّاس؛ فإنَّ العلم مِنْ أفضل ما يُعطاه العبد من النعم والفَضائل .
وأيضا هو كالجَاهل في حياته؛ لأنه لا يَظهر أثرُ العلم عليه، ولا في أخْلاقه ومعاملته مع الناس؛ لا مع أهله وأقاربه؛ ولا مع جيرانه وأصْحابه، ولا يَظْهر أثرُ العلم في سُلوكه وآدابه، ولا في حياته اليومية وتعاملاته.
فيكون كمَن ذَكره الله تعالى بقوله: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) الجاثية: 23.
بل قد يُكْسِبه العلمُ استكبارًا على عباد الله؟! وعلوًّا عليهم، واحتقارًا لهم؟! وهو بعيدٌ كل البُعد عن أخْلاق العِلم والعلماء؟!
وما عَلِم هذا؛ أنَّ الذي منَّ عليه بالعِلم والمَعرفة؛ هو اللهُ وحده لا شريك له؛ العَليم الحَكيم؛ كما قالت الملائكة الكرام: (سُبحانكَ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمتَنا إنَّكَ أنتَ العليمُ الحَكِيم) البقرة: 32.
– وقوله: “وقنا شرَّ ما قَضَيت”: ما قضيت (ما) هنا اسمٌ موصول بمعنى “الذي”؛ أي : قِنَا شرَّ الذي قَضيتَ، فإنّ اللهَ تعالى هو يقْضي ويُقدّر الخيرَ والشرِّ؛ ولا يقدّر الشرّ إلا لحِكمةٍ بالغة حميدة، لأنَّ قضاء الله عزَّ وجل وفعله كلّه؛ ليس فيه شرٌّ، إنَّما الشرُّ في المَخْلوق المقضي؛ الذي يُقدّره الله لحكمةٍ بالغة.
فالمَرضُ مثلاً شرٌّ؛ لكن قد يقدّره على مَن لا يَعرفُ نِعمة الله عليه بالصِّحَّة؛ إلا إذا مَرِضَ، وقد يُحْدِثُ المرضُ له توبةً ورجوعاً إلى الله تعالى؛ بعد أنْ كان عاصياً بعيداً عن الله تعالى، أو يُعرِّفه المرضُ بِقَدْرِ نفسِهِ، وأنَّه ضعيفٌ، ومُحتاجٌ إلى الله عزّ وجل، بخلافِ ما لو بقيَ الإنسانُ صَحيحاً مُعافى، فإنه قد يَنسى قَدْرَ هذه النِّعمة، وربَّما يفتخرُ على غيره ويستكبر؛ كما قال الله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ* وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) هود : 9-10 .
ومثل القَحْط والفَقْر؛ فهو خيرٌ من ناحية تذكير الناس بحاجتهم لربّهم الغني الوهّاب، وفقرهم ولُجوئهم إليه, بالدُّعاء والاسْتسقاء؛ كما قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الروم : 41.
فظاهرُ هذه الأمُور, منَ المَصائب شرُ, ولكنَّها في حقيقة الأمر خيرٌ من وجهٍ آخر, فيجب أنْ يُعلم أنَّ اللَّه تبارك وتعالى لا يَخْلق شراً مَحْضاً لا خيرَ فيه ألبتة, بل كل شرٍّ مهما عَظُم وكبر، لا بدّ فيه من الخير، فالشَّر واقعٌ في بعض مخلوقاته, لا في خَلقه, ولا في فعله, ولا في أسْمائه وصفاته جلّ جلاله وتقدَّست أسْماؤه .
فما قَضَاهُ الله عزّ وجل قد يكونُ خيراً للإنسان، وقد يكون شرًّا له وعقوبة؛ فقضاؤه سبحانه الذي هو فِعْلُه كلُّه خير، وإنْ كان المقضيُّ شرًّا؛ لأنه لا يُراد إلا لحكمةٍ عظيمةٍ بالغة.
ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فيما أثنى به على ربّه سبحانه: “لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ؛ والخَيْرُ كُلُّهُ في يَدَيْكَ، والشَّرُّ ليسَ إلَيْكَ، أَنَا بكَ وإلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ”. رواه مسلم .
فلا يُنْسب الشَّر المُطْلق إلى الله سبحانه وتعالى .
– وقوله: “فإنَّك تَقْضي ولا يُقْضَى عليك” يعني: تَحكُمُ بما تَشاءُ وتُقدِّرُه؛ ولا مُعقِّبَ لحُكمِك؛ ولا رادَّ لقَضائِك؛ قال سبحانه: (والله يَحكمُ لا مُعقّب لحُكمه وهو سريعُ الحساب) الرعد : 41.
والله تعالى يَقضي على كلِّ شيء؛ وبكلّ شيء؛ لأنَّ له الحُكم والقضاء التام الشامل .
فهو عزَّ وجلَّ يقضي القضاء الشرعيًّ؛ وهي أحكام الشَّرع؛ من واجبٍ وحلال وحرام وغيرها؛ ويَقْضي القضاءَ الكونيًّ، مِنْ حياةٍ وموتٍ؛ ورزقٍ ومُلكٍ؛ وعزّ وذل؛ وغيرها .
– وقوله: “ولا يُقْضى عليك”: أي لا يَقْضي عليه أحدٌ منْ خَلْقه، فالعباد لا يَحْكمون على الله سبحانه، بل الله تعالى يَحكم عليهم، والعباد يُسألون عما عملوا، وهو لا يُسأل عما يَقْضي ويَحكم؛ قال سبحانه: (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) الأنبياء: 32 .
– وقوله: “إنه لا يَذِلُ مَنْ واليت، ولا يَعزّ مَنْ عَاديت”: هذا كالتعليل لقولنا فيما سبق من قوله: وتولّنا فيمن توليت، فإنه إذا تولّى اللهُ العزيز في أسْمائه وصفاته الإنْسان؛ فإنه لا يَذِل أبداً، ولا يلحقه هوانٌ في الدنيا، ولا في الآخرة .
وإذا عادى اللهُ الإنسانَ؛ فإنه لا يعِز أبداً .
وهذا يقتضى أنْ نَطلب العزّ من الله سبحانه، ونتقي من الذُّل بالله عزَّ وجلَّ؛ بطاعنه واجْتناب معصيته، كما قال سبحانه: (مَنْ كان يُريدُ العزّة فللّه العزةُ جَميعاً) فاطر: 10 .
فلا يُمكن أنْ يذلّ أحدٌ حقيقةً؛ والله تعالى وليّه ومَولاه، والواجب الاجتهاد في سبيلِ تحقيق هذه الولاية؛ وبماذا تكون هذه الولاية؟ وقد قال تعالى: (ألا إن أولياءَ الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يَحزنون* الذين آمنوا وكانوا يتّقون) يونس: 62-63 .
فطريق الولاية: الإيمانُ بالله تعالى؛ والأعْمال الصَّالحة؛ وترك ما حرَّم الله عز وجل.
وإذا تولّى اللهُ عزّ وجل أمْرك؛ سخّر لك أسبابَ الصَّلاح والنّجاح؛ ويسّر لك طرق السَّعادة والفلاح؛ وأنتَ لا تدري ولا تشعر!
قال بعضُهم: تولّى الله عزّ وجل أمرَ نبيه يوسف عليه السلام؛ فأحوجَ القافلة في الصحراء للماء؛ ليُخرجوه مِنَ البئر!
ثم تولّى ٲمْره؛ فأحْوجَ عزيزَ مصر للأولاد؛ ليتبنّاه!
ثم تولّى أمْره؛ فأحوجَ الملِك لتفسير الرُّؤيا؛ ليُخرجه مِنَ السِّجن!
ثم تولَّى أمْره أيضا؛ ولكنْ هذه المَرة أحْوجَ مصر كلّها للطَّعام؛ ليُصبح هو عزيز مصر وواليها!
– وقوله: “ولا يَعِزّ مَنْ عاديت”: يعني مَنْ كان عدوًّا لله؛ فإنه لا يَعزّ أبداً، بل حاله الذُّل والهَوان والخُسْران؛ والفشل والخَيبة، ولهذا لو كان عند المسلمين اليوم اعتزازٌ بالإسْلام؛ وتمسّكٌ بأحْكامه وشرائعه؛ لكان لهم عزّ الدُّنيا والدّين؛ وعزّ الولاية والقَهر للأعداء؛ ولم يكن للكفار القوة والغلبة على المسلمين؛ كما هو الحال الذي نحن فيه الآن؛ بل إنَّ أكثر المُسلمين اليوم- مع الأسف- لم يعتزُّوا بدينهم، ولم يَأخذوا بتعاليمه ونُصُوصه، إنَّما رَكنُوا إلى الحياة الدنيا، وزينتها وزخارفها؛ ولهذا أُصِيبوا بالذُّل والهَوَان، وسُلّط الكفار عليهم؛ وعلى ديارهم وأموالهم .
– وقوله: “تباركت ربنا وتعاليت” تباركت: أي كثُرتْ بركاتُك وخيراتُك؛ وعمّت ووسِعَت الخَلق كلّهم؛ فبها يتقلّبُ أهلُ السَّموات؛ وأهلُ الأرض؛ وما بينهما؛ في الدُّنيا والآخرة .
والبَركة: هي الخيرُ الكثير الدائم .
وهذا ثناءٌ على الله عزَّ وجلَّ بأمرين: أحدهما: التّبارك، والتاء للمبالغة؛ لأنَّ الله عزَّ وجلَّ هو أهلُ البركة؛ ومنه تكون.
وقوله: “ربنا” أي: يا ربّنا، فهو مُنادى حُذفت منه ياء النداء.
وقوله: “وتعاليت” وهو الثّناءُ الثاني هنا؛ وتَعاليت مِنَ العُلو، أي: لك العُلُو المُطْلق مِنْ كلّ وجُوه الكمال؛ وإثبات صفة “التعالي” المشتقة منْ أسمائه سبحانه: العَلي، الأعْلى، المُتعال.
كما في قوله: ( وهو العلي العظيم ) البقرة: 255.
وقال: ( سبح اسم ربك الأعلى ) الأعلى: 1.
وممَّا ورد في الحديث النبوي: قوله ﷺ في ذِكر العُلو والفوقية، قوله في السجود: “سبحان ربي الأعلى”.
والعُلُو لله تعالى هو ثلاثة أنواع :
الأول: علوّ الذَّات: فهو سُبحانه وتعالى عليَّ بذاته على كلّ شيء، فوق جميع خلقه، بائنٌ منهم؛ مَسْتوٍ على عرشه، عالٍ عليه؛ كما يليق بجلاله وكماله؛ كما قال سبحانه عن نفسه: (الرحْمنُ على العَرْش اسْتوَى) طه: 5.
وقال : (يَخَافُون ربَّهم مِنْ فوقهم) النحل: 50 .
وقال : (وهو الكبيرُ المُتعال) الرعد: 9.
وقال : (سبّح اسمَ ربّك الأعلى) الأعلى: 1.
الثاني: علوّ الصّفات: فله الكمال المُطْلق في صفاته التي لا أكملَ منها، ولا أعلى منها، والتي لا تُحيط كلُّ الخلائق؛ ببعضِ معاني صفة واحدة من صفاته .
وكما أنَّ له مِنْ صفات الكمال أعْلاها وأتمّها، فله النّزاهة عن كلّ العيوب، والنقائص، والآفات؛ لكماله منْ كلّ الوجوه؛ فهو المُتعالي عن الشَّريك، والنظير، والمَثيل؛ والصَّاحبة والولد والوالد؛ فلا يُمكن أنْ يكون في صفاته نقصٌ بوجهٍ منَ الوجُوه .
الثالث : علوّ الغلبة والقَهر: فهو الغَالبُ والقَاهر لكلّ شيء، فلا يُنازعه مُنازعٌ، ولا يُغالبه مُغالب، لا في حُكمه ولا في مُلْكه؛ ولا في أمْره ونهيه؛ بل دانتْ له كل الكائنات، وخَضَعت تحت سلطانه كلُّ المخلوقات والموجودات؛ جلّ جلاله؛ وتقدّست أسْماؤه .