أليست هذه الشمس التي تشرق على الحياة كل يوم بهيئتها وصورتها المتكرّرة، ويرى الناس منها أول ما يرون ضوءها الذي يكشف أسجاف الظلام، لتظهر أمام أبصارهم جوانب الحياة في تقلّباتهم على هذه الأرض، ثم يحسّون حرارتها الدافئة في خيوط أشعتها الملتهبة، لا يعلم العامة منها أكثر من هذه الظواهر التي يفيدون منها في مختلف مصالحهم، وينتفعون بها في شتى منافعهم، في دائرة علمهم المحدود بمستوى ما بلغته معارفهم من حقائق الكون، ومظاهر الطبيعة؟! ومع ذلك كأنما هم منها في جديد عند إشراقة كل يوم، لم يكونوا يرونه، ولا أحسّوه من قبل!
فإشراقها على الحياة في جانب من جوانب هذا الكوكب الذي يحيا فوقه الناس حدث واحد في كل وحدة من وحدات الزمن في إصلاح الحياة، ولكنه يتراءى جديداً يقبل على الأحياء والأشياء بتجدد الحياة وتقلّباتها!
واحتجابها عن الحياة وراء الأفق في جانب آخر من جوانب الأرض حدث واحد في وحدة أخرى من وحدات الزمن، يُرى وكأنه جديد، وهو مقبل ومعه رهبة الليل وهدأته وسكونه، لتهدأ فيه الحياة، وتسكن حتى تستجمع عناصر حركتها مقبلة مع إشراقة الشمس من جديد بكل جديد، يتراءى أنه يولد مع الشمس كل يوم في كل مكان تشرق من أفقه!
وهذا الجديد (المتكرّر) هو معترك أفكار العلماء والباحثين والمفكّرين الذين لا يقفون مع ظواهر الأشياء في عناصر الكون، ولكنهم يحاولون أن ينفذوا إلى مداخلها وأعماقها ليعرفوا حقائقها .. ومن ثم فهم لا يكتفون بما اكتفى به العامة من رؤية ضوء الشمس، يرونه بأبصارهم، ولا بحرارة أشعتها يحسّونها بحواسّهم؛ بل إنهم يجهدون في تعرّف حقيقتها عن طريق تعرّف خصائصها الذاتيّة التي تنشأ عنها هذه الظواهر!
وقد عرف العلماء والباحثون من خصائص الشمس الذاتيّة الكثير مما قصرت دون معرفته أنظار العامة بمداركها المحدودة .. وهذا الكثير مما عرفه العلماء والباحثون هو الذي يفتح أمامهم في كل آن باباً جديداً من المعرفة والعلم بالمجهول .. وكل باب جديد يُفتح يكشف عن منافذ للعلم والمعرفة التي تتجدّد على مرّ الزمان في سائر الأمكنة والأوطان التي يأرز إليها العلم بفنونه وآلاته!
وهكذا كلما ازداد العلماء والمفكّرون معرفة بحقائق الكون ازدادوا تطلّعاً إلى أبعد مما وصلوا إليه من العلم بالمجهول .. ولا يزال العلم يكشف للفكر الإنساني عن جديد مجهول من خصائص الشمس يزيده علماً ومعرفة بحقيقتها الكونيّة كنموذج لظاهرة كونية تمدّ الحياة بقوّة الحيويّة الخصبة!
والشمس لا تزال -مع تعلق البحث وزيادة العلم والمعرفة بخصائصها- هي الشمس مشرقة وغاربة، لا تنقطع عنها سبحات الدراسة والبحث، ولا يتوقّف العقل الإنساني عن النظر وراء ما يكشفه من خصائصها الكونيّة!
وهذه الشمس التي يبذل العقل الإنساني جهده في البحث عن خصائصها الكونية -ولن يصل إلى نهايتها- إن هي إلا شمس صغيرة إلى جانب الشموس الكبار، من مجموعة الكواكب والنجوم السابحة في فضاء الكون، محجوبة بأبعادها الشاسعة، وعظمتها الهائلة عن مجال الإدراك الحسّي والعقلي، حتى يستطيع العلم -وهو سيّار لا يتوقّف- بوسائله المعروفة وغير المعروفة، إبداع ما يشق طريقه لإخضاعها للنظر والدرس والبحث، ليكشف عن خصائصها الكونيّة، وقد بدأ يعرف طريقه إلى أطراف المجهول، وهو دائب طموح إلى الوصول!
وهذه الشموس الكبار العظام التي تعبر الوجود بكل خصائصها الذاتيّة المجهولة في غير توقّف إن هي إلا ذرّات من عناصر هذا الكون الهائل في هذا الوجود العظيم!
وإذا كانت هذه الشموس بعظمتها الكونيّة مشهودة وغائبة هي ضياء الحياة الماديّة التي يعيش على ضوئها العالمون، وهم بعد -على دأب عالميهم وجدّ باحثيهم في تعمّق الدراسة- لم يبلغوا من معرفة خصائصها الذاتيّة وآثارها الكونيّة، ومظاهر عناصرها الطبيعيّة إلا الشيء القليل الضئيل!
والرسول – ﷺ – في خصائص رسالته الخالدة، وخصائص إنسانيّته السامية هو شمس الوجود الروحي في هذا الكون المحجّب بغلائل الجلال الإلهي!
حظّ العامة منه حظّهم من شموس الوجود المادي، رأوا ضوء رسالته بأعين بصائرهم، فمشوا إلى نورها يستبشرون برحمتها، وأحسّوا حرارة هدايتها فدلفوا لها يستظلّون بعدلها!
والوجود الروحي الذي جعل الله تعالى محمداً – ﷺ – شمسه هو القوّة الربّانيّة المنبثّة في ذرّات الكون، تبثّ فيها الحياة، وتحرّكها حركتها المقدّرة في كتاب الغيب، فلا تحيد عنها مسرعة ولا مبطئة!
فكما لا يزال العلماء والمفكّرون والباحثون في جديد من شمس هذا الوجود الماديّ والحسيّ، يكشفون كل يوم من خصائصها الكونيّة الشيء بعد الشيء .. فكذلك شأن العلماء والمفكّرين والباحثين لا يزالون في جديد من خصائص رسالة محمد – ﷺ – وهدايتها .. ولا يزالون في جديد من خصائص محمد – ﷺ – الروحيّة وشمائله الإنسانيّة التي أعدّه الله بها جبلّة وتأدّباً، ليكون خاتم النبيين، ورسولاً إلى العالمين برسالة شاملة عامة خالدة، يجد فيها كل جيل في كل زمان وفي كل مكان مطالب حياته الروحية، ومجال عقله وتفكيره، ونظام حياته وعيشه، ووشائج علائقه في أفراده وجماعاته وأممه وشعوبه!
فما كُتب وما يكتب عن رسالة محمد ﷺ في شمولها تشريعاً وهدياً، وعمومها زماناً ومكاناً، وأعصراً وأجيالاً، وفي خلودها بمعانيها وحقائقها، وأنظمة الحياة في تقنينها وأحكامها، وحكَمها ودعائم قيمها الروحيّة، وأسلوبها في التعبير عن مقاصدها وأهدافها، ووسائلها، وطرائق منهجها في التوجيه والإرشاد لم يسجّل إلا نقطةً في خط الدراسة والبحث!
وما كُتب وما يكتب عن شخصيّة محمد الرسول – ﷺ – في حياته وشمائله وأخلاقه وخلائقه، وإبراز خصائصه الإنسانيّة التي جبله الله عليها، وأدّبه بها, لتكون عدّته في اقتداره على حمل عبء رسالته الخالدة الخاتمة لرسالات السماء، لم يأت ولن يأتي إلا على بعض معالم هدايته في رسالته، وإلا على بعض خصائصه في إنسانيّته، وما حباه الله به من الكمالات البشريّة؛ لأنه اختاره رسولاً إلى الناس كافة في الأزمنة والأمكنة والأحوال كافة!
فلابدّ إذن أن يكون لكل جيل من البشريّة في كل زمان ومكان، وجيل وقبيل، وعصر ومصر، وعلى أيّة حال من العلم والمعرفة حظّه من رسالته، وحظّه منه في دعوته وهدايته، ومنهجه وشمائله .. مهما اختلفت بالناس مناحي الحياة، وطرائق التفكير .. ومهما (تطورت) العلوم والمعارف ووسائلها، ومهما تنوّعت أساليب الحياة الاجتماعيّة في المجتمع البشري .. ومهما بلغ العقل الإنساني من مراتب النضج في التفكير!