كيف يمكن لعالمٍ مسلمٍ في علوم النبات أن يزرع بذور المعرفة والإيمان في أرض بعيدة لم تعرف الإسلام من قبل؟ الدكتور صالح مهدي السامرائي ، العالم العراقي والداعية البارز، قدّم نموذجًا فريدًا للجمع بين العلم والدعوة في مجتمعات مختلفة. من العراق إلى اليابان، كرس حياته لنشر رسالة الإسلام، وبنى أول مسجد ومدرسة إسلامية، وترجم معاني القرآن إلى اللغة اليابانية، ليترك أثرًا خالدًا بين المسلمين في شرق آسيا.

من هو صالح مهدي السامرائي؟

يعد الدكتور صالح مهدي السامرائي رحمه الله (1932-2024) شخصية علمية ودعوية بارزة تميزت بمسيرة غنية وإنجازات علمية ودعوية على مدى أكثر من نصف قرن. بدأ حياته الأكاديمية في مجالات الزراعة وعلوم النبات، وامتدت إسهاماته لتشمل نشر الدعوة الإسلامية في مناطق بعيدة لم يكن الإسلام فيها معروفًا، حيث كان له تأثير ملحوظ في اليابان وشرق آسيا، عبر بناء مراكز ومساجد ومدارس دعوية، مقدماً نموذجًا مشرفًا للعالم المسلم العامل في نشر الدين بالعلم والعمل.

تستعرض هذه السيرة أبرز محطات وحياة الدكتور السامرائي حيث تعكس رحلته إلهاما كبيرا لكل من يسعى لخدمة دينه وإنسانية الآخرين.

النشأة والتعليم

وُلد صالح مهدي السامرائي في عام 1932 في مدينة سامراء التاريخية بمحافظة صلاح الدين العراقية، ونشأ في أسرة محافظة تنتمي إلى قبيلة البازي التي يمتد نسبها إلى آل بيت النبي محمد ()، مما أكسبه ارتباطًا عميقًا بالتراث الإسلامي منذ صغره. أكمل دراسته الابتدائية والثانوية في سامراء، ليبدأ مسيرة علمية ودعوية كانت أساسًا لحياته الحافلة بالإنجازات.

مع نهاية خمسينيات القرن العشرين، غادر السامرائي العراق إلى باكستان لدراسة العلوم الزراعية، حيث حصل على بكالوريوس في العلوم الزراعية من جامعة البنجاب (جامعة الزراعة حاليًا) عام 1960. كانت إقامته في باكستان فرصة للالتقاء بدعاة متميزين أثّروا فيه وحفّزوه على الدعوة الإسلامية، مما شكّل نقطة تحول جعلت الدعوة الإسلامية محور اهتمامه لاحقًا.


الدراسات العليا في اليابان

بعد حصوله على البكالوريوس، خطط السامرائي لمواصلة دراسته العليا في جامعة جنيف لدراسة الاقتصاد الزراعي، لكن نصيحة أحد الدعاة الباكستانيين بتوجيهه نحو اليابان لأداء رسالته الدعوية غيرت مسار حياته. اختار اليابان لكونها بلدًا بكرًا من حيث انتشار الإسلام، فأبحر إليها في رحلة طويلة انتهت بوصوله إلى يوكوهاما، ليبدأ هناك فصلاً جديدًا من حياته.

الدكتور صالح مهدي السامرائي مع راهب ياباني

استكمل دراسته العلمية في جامعة طوكيو، حيث حصل على درجة الماجستير في العلوم الزراعية عام 1963، ثم على درجة الدكتوراه في علوم النبات عام 1966. ساعدته فترة الدراسة على تأسيس علاقات مع المجتمع الياباني، كما استفاد منها لنشر التعاليم الإسلامية في بيئة جديدة، حيث شعر بالحاجة إلى دعم المسلمين الجدد وتوفير أنشطة دينية واجتماعية تسهم في ترسيخ دينهم.

أهم إنجازات صالح مهدي السامرائي

عمل الدكتور السامرائي رحمه الله أستاذًا في كلية الزراعة بجامعة بغداد فور عودته إلى العراق عام 1966م واستمر في العمل هناك لمدة عامين. في هذه المرحلة، بدأ السامرائي مشواره الأكاديمي المتميز في مجال التعليم العالي، حيث نقل خبراته ومعارفه إلى جيل جديد من الطلاب، قبل أن ينتقل إلى المملكة العربية السعودية ليؤدي دوره في خدمة التعليم والبحث العلمي هناك.

في السعودية، عمل في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود حاليًا) حيث شارك في تأسيس كلية الزراعة، التي تعد من أوائل الكليات الزراعية في البلاد، وتميزت ببرامجها الرائدة في المجال الزراعي. إضافة إلى ذلك، أجرى السامرائي العديد من الأبحاث العلمية التي ركزت على الزراعة في البيئات الجافة وتقنيات تحسين الإنتاج الزراعي، وقد ساهمت أبحاثه في تحقيق استدامة زراعية في المملكة والتغلب على تحديات المناخ الصحراوي.

أثناء عمله في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، أسس السامرائي قسم زراعة المناطق الجافة في الثمانينيات، وظل يرأسه حتى عام 1996. ركز القسم تحت قيادته على توجيه الأبحاث نحو إيجاد حلول للتحديات البيئية التي تواجه المناطق ذات المناخ الجاف وشبه الجاف، مما جعله مرجعًا أكاديميًا وعلميًا في هذا المجال، حيث أثرّت أبحاث القسم إيجابيًا على تطوير التقنيات الزراعية المناسبة للبيئة الصحراوية ورفع كفاءة الإنتاج الزراعي المستدام.

السامرائي والدعوة في اليابان

مع عودته إلى اليابان للدراسة، أسس السامرائي في عام 1961 جمعية الطلبة المسلمين، التي كانت الأولى من نوعها في اليابان وركزت على دعم الطلاب المسلمين في البلاد، وتقديم العون الديني والاجتماعي للمسلمين اليابانيين الجدد. كما أشرف السامرائي على ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة اليابانية، لتكون أول ترجمة يقوم بها مسلمون، ما أتاح للمهتمين بالدين الإسلامي من اليابانيين التعرف على معانيه.

الدكتور صالح مهدي السامرائي مع الأستاذ أحمد سوزكي

في عام 1974، أسس السامرائي المركز الإسلامي في اليابان بالعاصمة طوكيو، الذي أصبح نواة الدعوة في اليابان وشرق آسيا. قاد السامرائي المركز لمدة طويلة، واهتم بنشر الكتب والدراسات الإسلامية، حيث أصدر المركز أكثر من 60 كتابًا باللغة اليابانية، من بينها كتاب “المدخل إلى الإسلام” الذي يعد من أهم الكتب التثقيفية التي تُقدَّم للمسلمين الجدد.

بناء المساجد والمدارس

من أبرز إنجازات السامرائي في اليابان هو إنشاء مسجد طوكيو، وهو أحد أقدم المساجد في اليابان، وقد أُنشئ بتمويل بلغ نحو أربعة ملايين دولار، ما يعكس حرص السامرائي على توفير مكان لممارسة الشعائر الإسلامية. إلى جانب المسجد، قام السامرائي ببناء أول مدرسة للمسلمين في اليابان بتكلفة بلغت ستة ملايين دولار، وذلك بهدف تقديم تعليم ديني وثقافي لأبناء المسلمين في اليابان.

بفضل هذا التوسع، ازداد عدد المساجد في اليابان بشكل ملحوظ ليصل إلى أكثر من 400 مسجد بحلول عام 2011 بعد أن كانت المساجد لا تتجاوز مسجدين فقط، وقد أسهم هذا العمل في توفير بيئة إسلامية حاضنة للجالية المسلمة في اليابان، وساعد المسلمين اليابانيين على ممارسة دينهم في بيئة تشجع على الفهم العميق للإسلام وتقدمه بصورة معتدلة ومنفتحة.

الإرث الثقافي والإسهامات العلمية

ترك الدكتور صالح مهدي السامرائي إرثًا علميًا مميزًا من خلال أبحاثه ومؤلفاته في مجالات متعددة، شملت تخصصه الأكاديمي في علوم الزراعة.

كتاباته في مجال الدعوة والثقافة الإسلامية أسهمت في إثراء المكتبة الإسلامية وجعلت من السامرائي أحد أهم المرجعيات الفكرية عن الإسلام في اليابان.، ومن أبرز مؤلفاته:

  • “الإسلام في اليابان”، الذي يروي تجربته الدعوية ومسيرته في نشر الإسلام باليابان.
  • “من هم المسلمون في اليابان”، الذي يتناول التاريخ والتطورات المتعلقة بالجالية المسلمة في اليابان.
  • ترجمة وتقديم كتاب “البحث عن الصراط المستقيم“، وهو كتاب يُعنى بالبحث عن الحقائق الدينية.
  • شارك في مراجعة ترجمة كتاب “العالم الإسلامي في رحلات عبد الرشيد إبراهيم“، والذي يروي تجارب عالم مسلم في دول آسيا.

وفاته

في 8 نوفمبر 2024، توفي الدكتور صالح مهدي السامرائي عن عمر يناهز 92 عامًا، تاركًا إرثًا علميًا ودعويًا كبيرًا أثرى به الحياة الإسلامية، خاصة في اليابان التي أسس فيها مؤسسات دعوية تعليمية متكاملة. نعاه العلماء والمؤسسات الإسلامية حول العالم نظرًا لإسهاماته الكبيرة، معتبرين إياه نموذجًا مشرفًا للداعية المثقف الذي جمع بين العلم والعمل لخدمة الإسلام.


الخاتمة

إن حياة الدكتور صالح مهدي السامرائي هي نموذج مشرق للجمع بين العلم والدعوة. قدّم السامرائي حياته من أجل خدمة الإسلام، ونشره في أماكن بعيدة لم تكن لتعرف الإسلام بدونه. سيظل إرثه الدعوي والتعليمي زادًا للمسلمين في اليابان ومرجعًا لجيل من الدعاة، سائلين الله أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يجعل جهوده في ميزان حسناته، وأن تبقى ذكراه حافلة بالعطاء الملهم للأجيال القادمة.