منذ أن اخترع الإنسان الحاسوب، وهو في بحث وتقدم مستمر لتعزيز اختراعه هذا، بحيث يصل إلى مستوى إدارة معظم المهام التي تتطلب ذكاءً بشرياً ذات مشاعر وأحاسيس في الوقت نفسه، أو هكذا الهدف. المحاولات البشرية جادة وحثيثة منذ الخمسينيات لتقوم الآلة بعمل الإنسان، والواقع الحالي يفيد أن التقنية تتسارع وتيرتها بشكل مذهل، بحيث لا يمكنك توقع ما يمكن أن يحدث بعد عامين أو ثلاث، حتى أصبحت عبارة «المستقبل البعيد» التي كنا نطلقها على فترة خمسين إلى مائة عام أو أكثر، صارت تعني سنوات قليلة معدودة، وظهر مصطلح «الذكاء الاصطناعي» وصار متداولاً بكثرة في السنوات الأخيرة، للدلالة على مستقبل تقني قريب قادم.
الذكاء الاصطناعي أو كل ما هو مرتبط بالحاسوب أو الكمبيوتر، إنما وُضِعت أساساته بناء على أبحاث ودراسات عالم رياضيات إنجليزي يدعى «آلان تورينغ» الذي اشتهر بأبحاث ودراسات وأوراق علمية ساهمت في اختراع أول جهاز حاسوب في التاريخ، وأبرزها ورقة علمية قدمها عام 1936 – كما تقول المصادر الباحثة في هذا المجال – وكانت بعنوان (الأرقام المعدودة وتطبيقات لحل مسألة القرار) وضع فيها فكرة آلة شاملة قادرة على أداء جميع العمليات الحسابية. أي أن تلك الورقة هي الأساس أو المفهوم الرئيسي للحاسوب الذي بين أيدينا، وعليها قامت شركات التكنولوجيا في العالم باستخدام مفهومه في صناعة الحواسيب.
جهود «آلان تورينغ» استمرت بعدها بسنوات حتى قدم ورقة علمية عام 1950 بعنوان (الآلات الحاسوبية والذكاء) ووضع اختباراً سمي بعد ذلك باختبار تورينغ، الذي كان له أثر كبير فيما بعد حول أبحاث ومناقشات الذكاء الاصطناعي، حتى أن أي أحد منا يستخدم لوحة المفاتيح لجدولة بيانات أو معالجة كلمات وغيرها، إنما هو في الواقع يعمل على آلة من اختراع «تورينغ» أو بنات أفكاره، كما قالت عنه مجلة «تايم» الأمريكية التي وضعته في أحد أعدادها ضمن أهم 100 شخص خلال القرن العشرين.
تعريف الذكاء الصناعي
ما هو الذكاء الاصطناعي؟
هناك أنواع عدة من الذكاء الاصطناعي، منه المحدود الذي يهتم بنظام أو مجال واحد فقط كالألعاب مثلاً، أو ذكاء اصطناعي عام يقترب ليكون من مستوى ذكاء الإنسان، بحيث يمكنه القيام بأعمال ومهام فكرية يقوم بها الإنسان نفسه. أما النوع الثالث فهو ذكاء خارق، يفوق الذكاء البشري. ولن أتحدث عن مجالات الذكاء الاصطناعي لأنها متعددة ومتشعبة، لكن الحديث يقتصر على مجال واحد هو الإعلام بشكل عام.
الذكاء الاصطناعي الإعلامي
الإعلام بشكل عام قد يكون من المجالات التي سيكتسحها الذكاء الاصطناعي اكتساحاً وينطلق بلا حدود، الأمر الذي جعل كبريات المؤسسات الإعلامية العالمية وخاصة بعد أزمة كورونا الفائتة، تتسارع خطاها لتفعيل فكرة احتضان التقنيات المتقدمة كالذكاء الاصطناعي من أجل الإبقاء على الصنعة الإعلامية، في زمن باتت التقنية تختلط وتنافس مجالات عمل بشرية كثيرة، وليس صناعة الإعلام فقط. وخيراً يفعل معهد الجزيرة للإعلام بتنظيمه مؤتمراً في الدوحة بعد أيام، حول تأثير تقنية الذكاء الاصطناعي وتصميم المستقبل، والذي سيبحث المؤتمرون خلاله عن الفرص والتحديات والأخلاقيات.
إن صحافة الذكاء الاصطناعي لا شك بأنها ستخلق ثورة في صناعة الإعلام، سواء الرزين المعتدل والصادق، أو الإعلام الكاذب والتافه، حيث لن تكون هناك حدود جغرافية، ولا قانونية، ولا أي قيود من تلك التي تضعها الحكومات أو الجهات المسؤولة في كل دولة على حرية الرأي ونقل الخبر والمعلومة، بل سيكون المتلقي أو المتفاعل مع المواد الإعلامية هو الحكم، وهو من يقرر صلاحية أي مادة إعلامية من عدمها، من بعد أن تتراكم عنده الخبرة الكافية بعد حين من الدهر لن يطول، يستطيع عبرها الفصل واتخاذ القرار.
هذا الأمر سيخلق منافسة شرسة للغاية بين المؤسسات الإعلامية المختلفة، وسيكون الرابح فيها دون شك هو ما يمكن تسميته قنّاص الفرص، الذي يكون على شكل مؤسسات إعلامية من تلك التي ترى مستقبلها واضحا وضوح الشمس، فتعمل في حاضرها لغدها، وتقوم بمسايرة هذا الواقع المتطور المتجدد والمواءمة معه، عبر اقتناص أي فرصة لتحديث وتعزيز منتجاتها، وتطوير طرق الإنتاج والإبداع فيها، من خلال الحصول على أحدث التقنيات المتطورة في عالم الذكاء الاصطناعي، والعمل على دمجها في صناعتها أو صناعة الإعلام بشكل عام.
أما الخاسر الأكبر دون ريب فهو المتأخر أو المسوِّفُ للأمور، حتى تجده يتحول بعد حين من الدهر قصير، إلى جهة مستهلكة أو ربما مخترقة من كل تلك الجهات قناصة الفرص، المسايرة للتطور التقني والمعلوماتي، والمسيطرة بعد قليل على سوق إعلام الذكاء الاصطناعي.
الذكاء الاصطناعي عالم يتمدد
الذكاء الاصطناعي بالطبع ليس فقط روبوتات ذكية، بل هو عالم يتمدد، يشمل منصات إنترنت الأشياء، والتي يقصد بها ذلك الترابط بين الأجهزة الإلكترونية من أبسطها إلى أعقدها عبر الإنترنت، بالإضافة إلى أجهزة الهواتف المحمولة عالية الدقة، وتقنيات كشف المواقع، وتطبيقات التوثيق وكشف الاحتيال والتزوير، بالإضافة إلى الطباعة ثلاثية الأبعاد، وأجهزة تحليل البيانات والخوارزميات المتقدمة، وتقنيات جمع المعلومات، وغيرها من التطبيقات الذكية التي لو يتم استثمارها بشكل علمي صحيح، فإنها ستدفع بصحافة الذكاء الاصطناعي خطوات بعيدة، بل ستضع أقدامها في المستقبل وهي ما زالت في الحاضر، أو هكذا يمكن التعبير عن ذلك.
كثيرون شاهدوا قبل سنوات أربع فارطة، قيام وكالة الأنباء الصينية «شينخوا» ببث فيديو لأول مذيع افتراضي، حيث تم فيه دمج التسجيل الصوتي والفيديو في الوقت الحقيقي مع شخصية افتراضية، من خلال تكنولوجيا محاكاة قدرات الإنسان الذهنية. ثم بعد ذلك ظهرت المذيعة الافتراضية «كيم» الكورية الجنوبية قبل عامين، لتقرأ نشرة إخبارية مع مذيعة حقيقية، بل وتقوم بتبادل الحديث معها، في تطور واضح للذكاء الاصطناعي يمكن الاستفادة منه أوقات الطوارئ والأزمات مثلاً، وإلى أن يتم تطوير التقنية واعتمادها ليكون المذيع الافتراضي يومئذ، شأنه شأن الحقيقي، يتم وضعهما على جداول الأخبار وربما تقديم البرامج بشكل منفرد بعد حين.
في عالم الصحافة ظهرت تقنيات إنتاج مواد صحفية من أخبار وتحليلات اقتصادية وقصص إخبارية وغيرها بواسطة الذكاء الاصطناعي، وذلك عبر برامج وتقنيات تقوم باستخلاص بيانات هائلة من الأرشيف الرقمي، ثم تقوم بتحريرها وتدقيقها، بل وتوجيه المحتوى تلقائياً إلى جمهور محدد أو أفراد بعينهم !
ما المطلوب من الإعلام التقليدي؟
وتوفير جهود صحفييها المهدرة على أمور روتينية، لتقوم بها برامج ذكية متطورة، مثلما قامت به وكالة الأنباء الكندية من إنشاء نظام لتسريع الترجمات يعتمد على الذكاء الاصطناعي، أو نظام يكشف عن الصور المزورة كما فعلت وكالة الأنباء الفرنسية، وغيرها من أمثلة.
لكن هناك مخاوف لدى بعض العاملين في الإعلام من أن الذكاء الاصطناعي سيعمل على إلغاء بعض الوظائف التي يشغلها البشر حالياً. وهذا تخوف مشروع، بل هو ما سيحصل دون شك، ولكن لن يتم تسريح العاملين بالسهولة التي يتوقعها البعض المتشائم، وإنما يتم توجيههم نحو القيام بالمهام التي ما زال البشر متفوقين على الذكاء الاصطناعي وبرمجياته وتطبيقاته، أو ما نسميها بالصحافة العميقة. حيث المهام المتعلقة بالحوارات الإنسانية أو الصحافة الاستقصائية، التي لم تظهر بعدُ تطبيقات وأنظمة قادرة على تنفيذها حتى الآن. ولذا لن يكون من الحكمة عند أرباب المال أو أصحاب المؤسسات الإعلامية، تسريح العاملين من أجل توفير دراهم معدودة، فالبشر رغم التطور التقني في الإعلام، لابد أن يكونوا في صناعة الإعلام، هم المحاور التي ستدور تلك الروبوتات الذكية حولها.
اقرأ أيضا :
الذكاء الاصطناعي سيخلق أنواعا جديدة من العمل
صحافة الذكاء الاصطناعي، كخاتمة لحديث اليوم، هي ثورة إعلامية جديدة متوافقة تماماً مع التقنيات الحديثة للثورة المعلوماتية والصناعية. هذا الذكاء بدا للجميع أن تأثيره كبير على الإعلام والصحافة، من بعد أن اجتاحت الرقمنة كثيرا من المجالات الحيوية. ومن هنا نجد أن صحافة الذكاء الاصطناعي في تنامٍ كبير في عالم الصحافة والإعلام، وستؤدي إلى إحداث تغيير جذري في عالم الإعلام، وهذا التغيير سيؤثر بالضرورة على المنتجين، وكذلك المستهلكين الذين هم عموم القراء ومتابعو الوسائل الإعلامية. وكلما تسارعت خطى المؤسسات الإعلامية نحو الرقمنة أولاً، ومن ثم احتواء تقنيات الذكاء الاصطناعي وبرمجياته وتطبيقاته، والعمل على تطويعها من أجل تعزيز العمل الإعلامي وتطويره، كلما كانت فرص بقائها في ميدان التنافس كبيرة. والعكس صحيح دون أدنى ريب.
ولعل هذه الخاتمة هي إجابة السؤال الذي كان عنواناً لهذا الحديث، وما إن كان الذكاء الاصطناعي يهدد مستقبل الإعلام أم لا.