قال تعالى : { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } (العنكبوت : 45 )

لماذا تسوء أحوالنا.. رغم أن عدد المساجد بالآلاف، وعدد المصلين بالملايين؟.. نحن نطرح سؤالاً يبدو بسيطًا، وتبدو الإجابة عليه بديهية ومعلومة سلفًا، ولكن معرفة الحقيقة لا تكون إلا بالبحث والدراسة، وسنحاول الإجابة عن السؤال المطروح من خلال قراءة آيات القرآن الكريم؛ لنعرف موقفنا من الصلاة.

ففي سورة مريم يقول الله سبحانه وتعالى عن نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام ، وذريته: { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا * فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } (مريم: 58 – 59)، وهنا يخبرنا سبحانه وتعالى عن الخلف -الذين جاءوا من نسل النبي يعقوب عليه السلام وهم بنو إسرائيل، ومن نسل النبي إسماعيل عليه السلام وهم العرب- أنهم أضاعوا الصلاة.

ومن ذلك نعلم أن أداء الصلاة بدون إقامتها ينتج عنه ضياع الصلاة، فقراءة الفاتحة والركوع والسجود والقيام والقعود، هو أداء لتلك الأركان، بدون إقامة الصلاة، فتصبح كما قال تعالى: { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } (الأنفال :35) فإقامة الصلاة شيء وتأدية الصلاة شيء آخر.

والمحافظة على الصلاة هي مقابل إضاعة الصلاة، فهل نحن أضعنا الصلاة مثلما فعل الخلف؟ فضياع الشيء لا يعني زواله، ولكن يعني وجوده بعيدًا فيضيع الانتفاع منه. وهكذا المعنى في ضياع الصلاة هو إضاعة الهدف الأساسي منها وهو التقوى.

وسيلة أم هدف؟

فالصلاة وكل العبادات ليست هدفًا في حد ذاتها، يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21)، فالتقوى هي الهدف، وكل العبادات وسائل لبلوغ التقوى والخوف من الله والذي يقيم الصلاة هو الذي تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فيكون متقيًا لله، يقول تعالى: { اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون } (العنكبوت: 45).

والذي يضيع صلاته هو المصلي الذي يقع في المعاصي، وقد يكون مؤمنًا، ولكنه لن يكون من المفلحين، ولنقرأ قوله تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (المؤمنون: 9 – 11).

وهناك علاقة وثيقة بين الخشوع أثناء تأدية الصلاة والمحافظة على الصلاة بعد تأديتها بعدم الوقوع في المعاصي بين الصلوات الخمس، فالخشوع أن يؤكد المؤمن إخلاصه في صلاته، خاصة حين يقول في كل ركعة عند قراءته الفاتحة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، ولا يجتمع الخشوع في الصلاة وفعل الفحشاء وارتكاب المعاصي بعد الصلاة، وإلا أصبح قول الله جل وعلا: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } ليس له معنى، وتصبح الصلاة مراءاة للناس وخداعًا للنفس، وإقامة الصلاة هو المصطلح القرآني الذي يعني الخشوع في الصلاة والمحافظة عليها معًا.

ولنقرأ معًا قوله تعالى: { إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ } (المعارج: 22 – 23).
وقد ورد لفظ أقام ومشتقاته (40) مرة مرتبطًا بالصلاة في آيات القرآن الكريم، وفي اللغة العربية والمصطلح القرآني نجد مفهوم “قام على الشيء”، بمعنى حافظ عليه ورعاه، والله تعالى وصف ذاته باسم من أسمائه الحسنى وهو “القيوم”، { اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } (من الآية: 255 من سورة البقرة).

والآية توضح معنى القيوم أي القائم على كل شيء ولا يغفل عن شيء. ومن هذا المعنى يأمرنا سبحانه وتعالى أن نكون قائمين على رعاية العدل والقسط { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ } (النساء: 135).

ويمكننا أن نتعرف على من لا يقيم الصلاة بملاحظة سلوكياته، فكل من يرتكب الفجور والفساد والظلم لا يمكن أن يكون مقيمًا للصلاة، حتى لو كان ممن يعرفون بالصلاة في المساجد وبنائها ونقرأ قوله تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } (التوبة: 17 – 18).

وقد كان المنافقون في عهد النبي عليه الصلاة والسلام يؤدون الصلاة ولا يقيمونها، أي يتظاهرون بالصلاة رياء ونفاقًا؛ لذا لم يقبلها الله تعالى منهم، واعتبرها خداعًا ليس لله تعالى وإنما لأنفسهم {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً } (النساء: 142).

ثمار الصلاة

إن للقرآن الكريم مفاهيمه في الألفاظ ومنها مفهوم إقامة الصلاة والذي يعني الخشوع أثناء الصلاة، والتزام التقوى، ومكارم الأخلاق بين الصلوات، أما مفهوم إقامة الصلاة عندنا فيعني أذان الإقامة للمصلين في المسجد ” قد قامت الصلاة” ليقوموا لأداء الصلاة، إن إقامة الصلاة تعني التفاعل بالخير مع الآخرين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والمعروف هو ما تعارف عليه الناس من مكارم الأخلاق من صدق وإحسان وعدل وأمانة وإخاء وسلام وتسامح وغيرها، والنهي عن المنكر يعني الانتهاء عن الظلم والبغي والبخل والأنانية وغيرها، وإقامة الصلاة تثمر مجتمعًا تسود فيه مكارم الأخلاق، وهذا ما كان عليه في اعتقادنا مجتمع المدينة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام حين كانت إقامة الصلاة تظهر واضحة في تعامل الناس فيما بينهم.

إن من يقع في الشرك وفي المعصية ومع ذلك يصلي فلا معنى لصلاته، فإذا اكتفى البعض بمجرد تأدية حركات الصلاة فقد وقع في تكذيب دين الله تعالى؛ لأن صلاته ستتحول إلى مبرر لارتكاب المعاصي، معتقدًا أنه طالما قد صلّى فقد أصبح مغفورًا له مهما فعل، وهذا هو التكذيب لدين الله تعالى: { أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ } (سورة الماعون: 1).

وفي قوله تعالى: { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } (الماعون: 4 – 7) ، فالتعجب من ذلك الذي يكذب بالدين ويزجر اليتيم ولا يهتم بطعام المسكين ومع ذلك يؤدي الصلاة وهو ساه عنها وعن معاصيه، بل يرائي الناس بصلاته، وهذا هو حال من يقترن تدينهم بالغلظة والقسوة والجبروت والرياء والنفاق والتناقض بين الظاهر والباطن واستحلال أموال الناس بالباطل.

ونختم بقوله تعالى: { لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } (البقرة: 177).

فليراجع كل منا نفسه ليرى موقفه من الصلاة، ويعرف مكانه من ربه، نسأل الله سبحانه وتعالى لنا جميعًا الهداية والتقوى، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

محمد زهدي