هل تعرف شخصا من حولك يعيش في زماننا هذا بلا ديون و التزامات مالية للبنوك؟ إن لم يكن الشخص مدينا فسوف يكون على الأغلب دائنا، لكن أغلب الناس من حولك هم من فئة الدينين ، أما الدائنون فهم قلة قليلة اتخذت شكل مؤسسات مالية أمسكت بخناق الاقتصاد الحديث وتحكمت فيه وبنت علاقتها على أساس (دائن – مدين ). هذا هو صلب موضوع كتاب “صناعة الإنسان المدين” حيث يضع مؤلفه موريزيو لازاراتو القارئ أمام “ميكانيزمات” الاستغلال والهمينة التي تمارسها هذه المؤسسات المالية على الدول ومؤسساتها الحكومية ولا سيما على الإنسان الفرد.
ما ميز طرح لازاراتو في هذا الكتاب أنه لا يعالج مشكلة الدين من منظور اقتصادي فقط ، بل من منظور اقتصادي وفلسفي واجتماعي أي أنه قدم قراءة لا إقتصادية للاقتصاد على حد تعبيره يقول موريزيو لازاراتو : ” لا يمكن فصل الإنتاج الاقتصادي عن إنتاج ومراقبة الذاتية وأنماط وجودها”.
سيلاحظ قارى كتاب “صناعة الإنسان المدين” أنه بنى أفكاره على أفكار عدد من علماء الفلسفة وعلم الاجتماع كأمثال نيتشة وفوكو ودولوز وغوتاري وغيرهم.
قديما كان يُقال : ” الدين هم بالليل وذل بالنهار” أما في العصر الحالي وتحت وطأة الاقتصاد الحديث أصبح المرء يستدين بالليل ويستدين بالنهار ، وما بطاقات الائتمان – على سبيل المثال – إلا صورة من الدَّين المصغر الذي يمارسه المرء بشكل شبه يومي وفي كل الأوقات من دون أن يشعر أن هذه المشتريات ماهي في حقيقة الأمر إلا نوع من الاقتراض السهل الميسر.
اعتبر لازاراتو في “صناعة الإنسان المدين” أن اقتصاد الدّين من صميم المشروع النيوليبرالي ، وسمى هذا النوع من الـ “اقتصاد الافتراضي” القائم على ثنائية (مدين – دائن ) حيث المال فقط هو الذي يولد المال. في السوق النقدية أو سوق الاقتصاد الافتراضي لا يتواجه سوى المقرضين والمقترضين،والمنافسة معدومة في إنتاج شيء جديد بين المؤسسات التمويلية ، بينما تأخذ البضاعة نفس الشكل : المال ، إنما التنافس يقع على من يصطاد المدين أولا !!
أما الاقتصاد الحقيقي فهو اقتصاد قائم على الإنتاج والخدمات والصناعة وغيرها مستندة على المعرفة والبحث والإبداع حيث أن السلعة هي التي تولد المال.
لكن المشكلة والغريب في الأمر أنه حتى هذا الاقتصاد الحقيقي أصبح يتداخل مع الاقتصاد الافتراضي التمويلي ، ذلك أن الاستثمارات في المنتجات المالية من طرف الشركات غير المالية تصاعدت بشكل أكبر من استثماراتهم في الآلات والإنتاج وفي قوة العمل ، فعلى سبيل المثال أصبحت شركات إنتاج السيارات تقدم خدمات تمويلية للأفراد بالإضافة إلى عملها الإنتاجي.
فإذا استمر الاقتصاد الافتراضي (اقتصاد الدين) في الانتشار والتغول على حساب الاقتصاد الحقيقي فإن هذا الوضع ينذر بكوارث وأزمات اقتصادية كتلك التي حدثت سنة 2008 أو ربما أسوأ منها.
في اقتصاد الدين لا تقوم تلك المؤسسات المالية التمويلية بتقديم القروض والتمويل فقط أو لنقل بكلمات أدق إيقاع الناس في شَرَك الدين ، بل إن اقتصاد الدين يقوم بإعادة تشكيل الإنسان عقليا ونفسيا وسلوكيا، إذ يبرمج الفرد ليتحول إلى “الإنسان المستهلك” المفرط في استهلاكه وبالتالي يتحول وكأنه مؤسسة مالية صغيرة يقترض المال حتى وإن كان هذا الاقتراض ليس لحاجات ضرورية ، فيظل في دائرة الدين والسداد لسنوات طويلة فلربما تنتهي سنوات عمره ولا ينتهي سداده لهذا الدين.
يقول لازاراتو : ” إن الدين يشتغل كآلة للاستيلاء وافتراس أو استنزاف المجتمع في عمومه وكأداة تعليمات وتدبير ماكرو اقتصادي وكجهاز إعادة توزيع للمداخيل وهو يشتغل أيضا بوصفه جهازا لإنتاج الذوات الجماعية والفردية وإدارتها”.
لا يتحمل الفرد في اقتصاد الدين تبعات دَينه الشخصي فقط بل كذلك تبعات الدين العام الذي تقترضه الدولة من تلك المؤسسات المالية ولكن في نهاية المطاف يتحمل الفرد وزر هذا الدين العام إما على شكل ضرائب تفرض عليه أو من خلال خفض الدولة للنفقات العامة والخدمات الاجتماعية أو من خلال فخ “الخصخصة” والذي ينتج عنه غالبا تخفيضا للأجور وتقليصا للعمالة وبالتالي مزيدا من البطالة.
في ظل هذه الظروف القائمة على التقليص المتواصل للأجور وتدمير دولة الرعاية لا يبقى مخرج إلا اللجوء إلى القرض، وهكذا سيأخذ المرء على عاتقه التكاليف والمخاطر التي نفضت الدولة يدها منها ، أي أن تتحول الحقوق الإجتماعية إلى “قروض” إجتماعية.
الأمر الملفت في اقتصاد الدين هو أنه كيف استطاع هذا الاقتصاد والسياسات النيوليبرالية من تقويض سلطة الدولة وزعزعة مكانتها وذلك من خلال أذرعها المؤسساتية كوكالات التصنيف الائتمانية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وذلك عبر تدخلاتها في سياسات الدول المقترضة .
يقول لازاراتو : ” فالسلطة السيادية للدول تقوضت بشكل خطير نتيجة تدخل وكالات التصنيف الائتماني والمستثمرين الماليين والمؤسسات مثل صندوق النقد الدولي، ويقتصر دور الدول على تطبيق السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تمليها الأسواق” والمقصود بالأسواق هنا طبعا تلك المؤسسات المالية الدائنة.
بل وصل الأمر في قضية تقويض سلطة الدولة وتحييد صلاحياتها إلى درجة ” خصخصة العملة” و الذي تطور فيما بعد علاوة على ذلك هو أصل كل أنواع الخصخصة، وفي هذا يقول لازاراتو : ” إن الدولة هي التي حولت عمدا حقها السيادي في خلق العملة للقطاعي الخاص” .
في خاتمة الكتاب لا يضع لازاراتو تصور تفصيلي في كيفية الخروج من هذا المأزق المسمى اقتصاد الدين أو الاقتصاد الافتراضي ولكنه يدعو الأفراد والمجتمع والدول إلى العمل والكفاح من أجل التخلص من الدين و ” الدائن العظيم” ، يقول :” فالدين بوصفه ميدان المعركة يفرض تكاملا في جميع المجالات ، تكاملا بين الدول والفضاءات الوطنية وتكاملا بين الاقتصادي والسياسي والاجتماعي”.
ويختم قائلا : ” نحن مضطرون لأن نصعد إلى هذا المستوى من التعميم والترحل إذا كنا لانريد أن يتم اجتياحنا أو سحقنا من قبل الدائن العظيم”.