ملامحك القديمة، هل تذكرها؟ تتطلع إلى المرآة كل يوم؛ ولذلك تعودت على شكلك الجديد، ولكن ماذا لو وقعت في يدك صورة قديمة تآكلت أطرافها فانخلع قلبك حين تأملتها؟ هذا الوجه البريء لمن؟ تلك الملامح الناعمة لمن؟

وهذه النظرة الوديعة التي تطل من عينيك رغم محاولتك الثبات أمام عين الكاميرا الناقد دون أن تعلم أن تلك اللحظة ستتجمد إلى الأبد، وتتغير أنت بعد ذلك، تتهدم وتتحول، تذبل وتذوي، بينما تصمد هي أمام الزمن القادم المتسلل.

صورنا القديمة

وأحيانا تشرد بينما تحدثك زوجتك.. لا تصغي لها وإنما تدقق في وجهها محاولا العثور على الفتاة النحيلة الصبوح التي وقعت في غرامها ذات يوم بعيد، ولا تدري -يا مسكين – أنها في ذات اللحظة تفكر في نفس الشيء وهي تكلمك، تتساءل عن وجهك القديم وعينيك المتوهجتين!

ثقيلة خطوة الزمن، تطأ وجهك ببطء، تدوس ملامحك وتدهس روحك، هل فكرت أن روحك تغيرت أيضا؟ هل ضبطت نفسك متلبسا بخطيئة لم تكن تتصور أيام البراءة الأولى أن تقترفها؟ من حسن حظك أنه لا توجد صورة قديمة لروحك لتدقق وتقارن وتشاهد حقيقتك بغير رتوش، بغير السكر الذي نرشه على السطح، يقولون إن عقلك الباطن هو أسوأ ما في العالم؛ لذلك نخفيه عن أنفسنا ونخدعها طيلة الوقت واثقين أنه لا يمكن التقاط صورة فوتوغرافية لأرواحنا، ولكن ماذا لو كان هذا ممكنا؟!

اللوحة المسحورة

 دوريان جراي فعلها.. المستحيل تحقق له فكان نكبة عليه وشقاء بلا حدود، ولكنه على الأقل لم يخدع نفسه -كما نفعل- في أي لحظة، كلا، لم تكن مجرد حيلة بارعة لمجرد إضفاء الغرابة من المؤلف البريطاني أوسكار ويلد أن تحمل الصورة عن بطل الرواية (درويان جراي) أعباء السنين وأثقال الخطايا في حين يحتفظ هو -أبد الدهر- بفتنة وجهه وروعة شبابه، ولكنه أراد للصورة المرسومة أن تكون “معادلا ماديا” للروح بحيث نستطيع أن ” نرى” ما يحدث فيها من تغيرات خفية بفعل الآثام.

دوريان جراي يمثل الإنسان كما خلقه الله في أحسن تقويم، بارع الحسن، فاتن الطلعة، غريرا، يوشك أن يكون في جماله وفتنته فلتة من فلتة الطبيعة؛ لذلك تحمس صديقه الفنان لرسمه، لكن الغلام لم يحب تلك الصورة قط  وشعر بالحقد عليها لأنها ستبقى محتفظة بكل هذا الشباب اليانع فيما يشيخ هو ويذبل؛ لذلك لم يكن غريبا حينما تمنى في نفسه لو حدث العكس، يحتفظ هو بالشباب بينما تشيخ الصورة وتكبر.

مسخ مخيف

 وتمر الأيام تلو الأيام وكلما ارتكب معصية جديدة ظهرت على الصورة فورا قبحا وإثما، وها هو ذا كلما تطلع إليها رأى  بشاعة الخطايا تسود وجهه وتلطخ روحه، والأعوام تحفر أخاديد الشيخوخة على صورته، والشيب يشيع في مفرقيه بينما يحتفظ هو بذلك الوجه الناعم الذي كان له وقت رسم اللوحة منذ عهد لا يذكره من السنين. الصبا والفتنة والجمال والطهارة والنقاوة التي لا ترى إلا في وجوه الصالحين، ومهما ترددت الشائعات عن سلوكه المريب وحياته الشائنة فقد كان وجهه النقي الصريح يكذب كل الشائعات.

وفي لحظة يكشف السر لصديقه الفنان الذي رسم الصورة وقد لذ له أن يجد من يشاطره سره العجيب فاقتاده إلى الغرفة المغلقة وكشف الستار بعنف، وما أن رأى الفنان دمامة الوجه المخيف حتى تملكه الذعر، هذا وجه فاسق أثيم، بل مسخ أسوأ ألف مرة من كل الإشاعات التي سمعها عن صديقه، وأحس دوريان جراي أنه يبغض هذا الفنان كما لم يبغض أحدا آخر في الوجود، إن هذه الصورة كانت سر مأساته وشقائه، وبدون أي تردد طعنه بالسكين حتى وقع جثة هامدة، ثم راح -في فضول- يتأمل الصورة التي تلوثت ببقعة حمراء مخيفة تصبغ يديه.

روح معذبة

حليف الشيطان، هذا هو لقبه الجديد، لكن شيئا في روحه يتمرد، لماذا حاول بدون وعي أن يثني صديقه عن قتل أرنب تأثر بظرفه؟! ولماذا عدل عن إغواء فتاة ساذجة رغم أن هذا كان ممكنا؟! لكن المدهش أنه حينما تطلع إلى صورته آملا أن تسجل له هذا الصنيع وجدها أكثر بشاعة، واكتشف أن نيته تلك لم تكن خالصة للخير كما تصور، بل هي لذة جديدة يريد أن يجربها، رغبة منه في الظهور في صورة أسمي من حقيقته، وها هي قطرات الدم قد بدت أشد احمرارا ولمعانا وكأنها لطخت اليدين في التو واللحظة.

وفي عزم أمسك بالسكين وراح يطعن الصورة المخيفة، ودوت صرخة هائلة سمعها خدم الدار فهبوا مذعورين وما أن دخلوا الغرفة المهملة حتى رأوا على الجدار صورة رائعة ورأوا على الأرض جثة ميت له أبشع وجه وقعت عليه أبصارهم، وقد استحالت عليهم معرفته قبل أن يفحصوا الخواتم التي تزين أصابعه.

حقا، من حسن طالعنا أننا لا نمتلك صورة مادية لأرواحنا القديمة المرهفة، تكفينا تلك الغصة التي نستشعرها كلما وقعت في أيدينا -مصادفة- صورنا القديمة تطالعنا بملامحنا الناعمة ووجوهنا الرائقة وابتسامة غافلة عما تخبئه لنا الأيام.