كلما ارتفع دخان الشكاوى والاحتجاجات، والتنديد باختلالات مرفق عمومي أو ضعف الأداء العام لمؤسسة حكومية أو خاصة، إلا وكان خلف الحريق شرارة اسمها: ضعف الشعور بالمسؤولية. وغالبا ما تلجأ الجهات المعنية إلى إعفاء مسؤول وتعويضه بآخر، أو إرسال لجنة لتحديد المسؤوليات، ثم الشروع في إيجاد حلول مسؤولة تعيد ترتيب الأوضاع. وهكذا تضج السماء بتلك المفردة وأخواتها، من قبيل: سائل ومسؤول ومساءلة، ويهيمن البعد القانوني كإطار وحل لعلاج مشكلة تنغرز جذورها عميقا في تربة الأسرة والمدرسة.
ترتبط المسؤولية في الدين الإسلامي الحنيف بالفطرة التي تستوي داخلها النزعة الفردية والميل إلى الجماعة. فالإنسان فرد داخل المجموع، لكنها فردية تُشعره بالتبعية والمسؤولية عن أفعاله، ولا يصح أن يلقيها على كاهل غيره أو يحملها عن الآخرين. من هنا جاءت الآيات الكريمة التي تؤكد تلك التبعية وتُنميها داخل الحس الإنساني، كقوله تعالى ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾فاطر-18، وقوله عز وجل ﴿كل نفس بما كسبت رهينة ﴾المدثر-38.
إلا أن ما تُلام عليه الأسر في مجتمعاتنا الإسلامية هو التفريط في تغذية الشعور بالمسؤولية لدى الصغار منذ سن مبكرة؛ إما بدعوى أن الطفولة مرحلة لهو وطيش و”خفة عقل”، أو بسبب الرعاية الزائدة التي يتدخل الوالدان بموجبها في أدق التفاصيل. فنشأت أجيال تبتكر الأعذار لتقصيرها، وتواجه الخطأ بمغالطات وحيل لا شعورية متنوعة.وهيمن على المجتمع خطاب يلقي باللائمة على القدر أو على السلف، ويستظل في الأزمات بتأويل غير صائب لأحاديث الفتن وقيام الساعة!
كيف نربي صغارنا على الشعور بالمسؤولية وأداء الواجب؟
بالعودة إلى أدبيات الأمومة العربية قد يبدو السؤال متجاوزا، حيث تُعنى جل إصدارات المكتبة التربوية بالدعوة لغرس القيم والفضائل، وتعويد الطفل على المهارات والمواقف التي تغذي حسه الإنساني ليكون فاعلا في مجتمعه. إلا أن مسألة التوقيت، وتجاوب التعليمات مع درجة النمو أمر حاسم لكي تُثمر جهود التربية ما يصبو إليه الأبوان.
إن معرفة الأوقات المناسبة شرط أساسي ليكون تعليم المسؤولية أسهل. تقول كونستانسفوستر: “عندما يبدي الطفل رغبة واستعدادا لأن يقوم بنفسه بعمل من الأعمال مهما كانت سنه، فإن هذا يكون هو الوقت المناسب لتعلم تحمل المسؤولية.”[تربية الشعور بالمسؤولية عند الطفل.ص23]. فالرضيع قد يوجه رسالة بهذا المعنى حين يقرر فجأة أن يشرب من الفنجان. وعندما يبلغ طفلك عامه الثالث فإن أعمال المنزل تستهويه، وينبغي تشجيعه على ذلك باقتراح تصرفات آمنة، حتى وإن شكّل سلوكه مضايقة للترتيب اليومي للمنزل.
وترى فوستر أن المرحلة الممتدة من سن الثالثة إلى السابعة هي الفترة التي يكتسب فيها الطفل شعوره بالسعادة والرضا عن الأعمال التي يؤديها. فإذا لم يكتسب ذلك في هذه السن، فمن المحتمل ألا يكتسبها في سن العشرين.
ويرتبط تحديد وقت تحمل المسؤولية بسلوك الصغير نفسه، وبذلك تتحقق تنمية هذا الشعور دون ضغط قد يؤثر على طاقته الجسمية وقدراته. لكن يحتاج درس المسؤولية إلى بعض التنبيهات من لدن الآباء، كتجنب الوتيرة الواحدة في الأعمال المنزلية، وتحديد النصيب المعقول الذي يمكنهم المشاركة به، ثم السماح للطفل بالاعتماد على نفسه في الأماكن العامة، مع مراعاة التدخل بشكل غير مباشر عند احتمال الخطر.
مع اقتراب الطفل من سن المراهقة تظهر بوادر الاستقلالية والرغبة في اتخاذ القرار، كأحد مظاهر تحمل المسؤولية. وهنا ينبغي أن يحرص الأبوان على توسيع حضوره لينتقل من مجرد تنفيذ الأعمال إلى إشراكه في القرارات المنزلية، كتغيير الستائر وتجديد طلاء المنزل، وتخطيط ميزانية الأسرة وغيرها، شريطة ألا يتم ذلك على حساب ارتباطاته خارج البيت.
وليس المهم في إنجاز مسؤولياته أن نراعي دقة العمل، بقدر ما ينبغي الحرص على استدامته برغبة وأمانة، ثم الإطراء المناسب عند إتمام الواجبات. وهنا تُحذر فوستر من المقابل المادي الذي يرهن الإنجاز أو السلوك الطيب برشوةصغيرة قائلة:” نحن نخاطر عندما نحدد لسلوك الطفل قيمة مادية.. إن واجبنا أن نسعى إلى تعليم الأطفال نظاما معينا من السلوك، لا بغية الحصول على ثواب معين، وإنما لأن اتباع ذلك صائب وضروري.”
تُنمي تربية الشعور بالمسؤولية ثقة الطفل بنفسه، خاصة حين يجابه المواقف الصعبة. كما يصبح تقديم المساعدة طبيعة ثانية، تعزز من احترام الآخرين، وتخفف في سن المراهقة من مظاهر الشغب والتمرد، وإلحاق الضرر بالنفس والمجتمع؛ ذلك أن “الذين يشعرون بالمسؤولية الحقة، يكون الحب دائما أساس علاقتهم بغيرهم”.
إن الأسرة حين تُفوّت فرصة تعليم الطفل تحمل المسؤولية، فإنه يتجه لاحقا إلى الاعتماد على خدمة الآخرين وعنايتهم به؛ ويتقبل الأمر على أنه شيء طبيعي.
وعند التحاقه بالمدرسة يلجأ إلى حيلة الاكتفاء بالجهد الذي يضمن المواصلة والاستمرارية.
أما حين يحظى بفرصة عمل أو يندرج في سلك وظيفي، فإن ما يشغله هو التخلص من المهمة عوض أدائها بإتقان، وترقبُ موعد الانصراف.
بيَدنا إذن أن نعيد الأمر إلى نصابه، ونؤسس مدخلا تربويا لحل معضلة المسؤولية، والتي تعيق للأسف انتهاج أسلوب حياة ديموقراطي في مجتمعاتنا كافة.