“طواسين الغزالي” للروائي المغربي عبد الإله عرفة رواية صوفية بناها صاحبها على منهج الحلاج في كتابه (الطواسين)، وبينما بدأ الحلاج بطاسين السراج بدأ عبد الإله عرفة بطاسين التكوين، وكأنه بذلك الحلاج يجسد انمحاء البعد الزمني في فلسفة التصوف، من الأسئلة الضمنية التي تطرحها الرواية هو لماذا لا يصلب الغزالي كما صلب الحلاج صاحب الطواسين؟ وتجيب عن ذلك إجابة ضمينة أيضا، بأن قتل الحلاج كان سياسيا، وأن الغزالي أنجته السياسة أيضا.
الرواية عالية الترميز، ورغم أن بنيتها القصصية تسرد في الظاهر سيرة الإمام أبي حامد الغزالي (450 ـ 505هـ) إلا أنها في الحقيقة تحاور عصرنا وتقدم قراءتها ورؤيتها الخاصة لكثير من قضايا واقعنا الراهن، كثافة الترميز داخل الرواية يعكسها العنوان المكتنز بالمعارف والمواقف معا، فلـ”الطواسين” دلالتها الرمزية في الفكر الصوفي إذ هي عنوان الديوان المثير للحلاج، كما هي رمز مركزي في علم أسرار الحروف الذي نما في أحضان التصوف، وفي نسبة الطواسين للغزالي موقف صراح، أراد المؤلف من خلاله تبرئة الحلاج من خلال جعل (الطواسين) ليست مدعاة للحكم عليه، ما دام الغزالي حامل مشروع الدولة السنية أمام الحركات الباطنية صاحب طواسين.
يلعب المؤلف باللغة بطريقة ممتعة للغاية، ويستغل العلاقات الاشتقاقية والسياقية استغلالا بارعا، صانعا بذلك للقارئ عالما من التخيل والتوفز الذهني اللذيذ، فالغزّال بالتشديد التي هي نسبة والده يختار عنها الغزالي بالتخفيف التي هي اسم قرية من قرى طوس، ليستغل هذا الأخير في تداخل ممتع بين الغزل والفكر، فحين تخاطبه الطاهرة (حواء) بـ”يا غزالي” تكون قد تغزلت به وهي مرتاحة الضمير من خجل الموقف، لأنها بطريقة أخرى تحيل إلى نسبته العادية، ويستغل هذا الاسم (الغزال) ليربط بينه وبين (الحلاج) حيث “هو يحلج وأنا أغزل”، والحَلْجُ تدوير القطن والغزل معروف، فكأن عملهما تراتبي يكمل بعضه بعضا مثل عمل خط الإنتاج في الاقتصاد الصناعي، أما حين ينتقل من القدس إلى مدينة الخليل فيقول” انتقلت من المحبة إلى الخلة”، في توظيف ذكي لاسم المدينة بإعطائه دلالة صوفية.
يجسد الغزالي في الرواية ظواهر واقعية فردية واجتماعية عديدة، فهو في بعده الشخصي يمثل التطلع البشري والقلق الذي لا يهدأ لمعرفة حقيقة الوجود، ذلك التطلع الفضولي الذي كثيرا ما يسلك صاحبه بفعل سطوة الطين (النفس) إليه طريقا غير موصل، ثم لا ينتبه إلا وهو على حافة السقوط من شاهق أهوائه وأدوائه، كذلك كان الغزالي مدفوعا بذلك القلق المعرفي النهم والتطلع النفسي للأثرة والجاه.
وهو حينما ينزل بواسطة حبل -مدفوعا بفضوله- إلى قعر بئر مظلمة لا يدري ما يجده فيها، فهو يجسد ذلك القلق الذي ينسى صاحبه في فوران فضوله مخاطر الطريق، ليس هذا فحسب بل إن المؤلف يريد أن يقول من خلال نجاح الغزالي في فك ترميز الباب السري الموصل إلى حدائق حسن الصباح الفردوسية أن الوصول إلى الحقائق يحتاج علوما حدسية وروحية لا ظاهرية أو استظهارية فقط، روح التطلع تلك دفعته أيضا إلى المكث وحيدا ثلاثة أيام وحيدا -مستعينا بمعارفه الحدسية- من أجل اكتشاف السر الذي في الصندوق وتربيع المثلث، فانفتحت خزانة السر التي كانت تمثل عبوره إلى حواء الطاهرة، وذلك سر آخر، هنا يصبح استدعاء مقولة الجويني دليلا كافيا بالنسبة للمؤلف “الحدسيات للغزالي”
عاش الغزالي في فترة عنفوان الحركة الإسماعيلية التي جسدت الرواية تغلغلها وقوة دعوتها في شعاراتها (المثلث والطاووس) المنتشرة في كل مكان، ودعاتها الذين يعملون بتنسيق محكم من أجل إيقاع الشباب النابه في شباكهم، تماما كما تفعل الحركات المتطرفة اليوم، كانت أجنحتها الثلاثة تعمل بتنسيق محكم، جناحها الأمني المتمثل في تنظيم الفداوة (الفدائيين)، وجناحها الفكري المتمثل في إخوان الصفا وجناحها الاجتماعي المتمثل في من جنَّدتهم أو استعطفتهم بأموالها أو أخافتهم من العلماء ووجهاء المجتمع.
كان الغزالي الشاب النبه الجريء مشروعا استراتيجيا بالنسبة لحسن الصباح زعيم الإسماعيلية، فهو إما فدائي شجاع أو داعية مؤثر، أمره بعد لقاء قصير بالذهاب إلى نيسابور من أجل إكمال دراسته في المدرسة النظامية التي كانت أنشئت كجزء من خطة المواجهة السنية للمد الشيعي، وكان حسن الصباح قد دس فيها كثيرا من أتباعه للدعوة ونشر المذهب بين الطلبة، في حرب سرية تذكرنا بمدارس حركة الخدمة التركية في العالم الإسلامي ومثيلاتها من مدارس التعليم المتشيعة في إفريقيا، أهداه بعض النقود التي تحمل صرتها شعار الحركة الإسماعيلية (المثلث)، كان ذلك في نظر شيخ الجبل هو المدخل المفترض لاغتيال الوزير نظام الملك، أو تكوين داعية بنباهة وذلاقة الغزالي.
أراد المؤلف أن يقول إن روح المتصوف قوامها الحب، لذلك بدأ حب الغزالي من تعلقه بالطاهرة تلك الشابة الحسناء التي كانت مكلفة بتجنيده لمشروع حسن الصباح، تعلق بها قلبه، ولكنه استطاع أن يقنعها بخطورة الباطنية بدل أن تقنعه بضرورة الالتحاق بالتنظيم السري، كانت معركة فكرية تجري بينهما على أرضية الحب، أخير انتصر الحب والفكر معا، فتابت الطاهرة من العمل للحركة الباطنية، وتزوجها الغزالي.
كان الغزالي يجدد بالطاهرة (حواء) روحه التي تربت في اليتم، كان يتعرف من خلال طقوسها الباذخة في الحب والعرفان على مفاتيح أرحب لجمال الروح، كي تصبح روحه المتصوفة أكثر أناقة، الأمر الذي أثر في شخصيته وطبيعة تصوفه، كانت تجربة حبه مع الطاهرة (حواء) إذن مرقاته نحو الحب الأكبر، الحب الإلهي فيما بعد، ذلك بأن أعلى درجات الحب لا يوصل إليها إلا عبر سلم من ذات المعدن النفيس، وليكن هنا معدن الحب الآدمي الطاهر.
الطاهرة (حواء) تمثل في الرواية الصورة المزدوجة للحركات الباطنية (التنظيمات السرية بمفهوم اليوم)، وذلك في استغلالهم كافة الوسائل للتأثير على المدعويين، وتأتي المرأة في مقدمة ذلك، كانت الطاهرة تمثل الظاهر والباطن في آن واحد، فهي داعية للمذهب الإسماعيلي بفكرها الثاقب وجمالها الأخاذ، اسمها الظاهر (الطاهرة) وروحها الباطنة (مجندة للمذهب).
كان الغزالي بحاجة إلى كل تلك التجارب الأولى، تجربة اليتم الذي تشف أشجانه الروح وترقق القلب، وتجربة الحب الذي يبل يابس النفوس ويهذب الوجدان، وتجربة الجاه والمال حيث الأناقة والرفاهية تصبغان النفس بلين يحتاجه المتصوف فيما بعد، كأن كل تلك التجارب كانت ضرورية كي يحسم الغزالي الصراع بين القوة الفقهية والقوة الروحية المتصارعتان في نفسه.
أخطأت فراسة حسن الصباح في الغزالي، أو صدقت لكن في الاتجاه الآخر، فأصبح الغزالي بعد ذيوع صيته قائد التيار المعادي للحركات الباطنية، أصبح يمثل المذهب السني والعقيدة الأشعرية والسلوك الصوفي والخلافة العباسية، لتبدأ محنة الخوف من الاغتيال بعد تعرضه للتهديد من حسن الصباح الذي خابت ظنونه في حجة الإسلام، وهنا يؤكد المؤلف بطريقة غير مباشرة على دور الحاضنة الاجتماعية في حماية العلماء من بطش الحركات السياسية.
يظهر ذلك حين يعرض الغزالي في مشهد لا يحسد عليه، وهو خائف يترقب، ويقول على لسانه: “.. وضاقت علي الأرض بما رحبت، ففي المشرق يتوعدني الحسن الصباح وفتيانه بخناجر الغدر، وفي بلاد الأندلس بالمغرب يؤلب أصحاب الرسوم والمناصب علي الساسة والناس، أما في بغداد، فالدولة تريدني لأمر لا أريده لنفسي، أريد وجه الله تعالى، والدولة تريد لي أن أدفع عن وجهها هجمات خصومها، وفي دفاعي عنها هلاكي المحقق، فما ذا أصنع؟”
تجسد هذه الفقرة محنة الإنسان الحر صاحب الفكر المتنور، الذي يطارد في كل وجهة من أعداء يريدون رأسه أو أصدقاء يريدون عرضه، وهو يريد أن يهرب من كل ذلك، أن يعيش حر النفس والفكر والقرار.
وقد عرض المؤلف لمحنة الغزالي التي مر بها وانسحابه من المشهد العلمي والتعبوي ببغداد وهو في عز شهرته ونجوميته، حيث كانت الرسائل تأتيه من المغرب مستفتية وهو في أيام انسحابه الأولى، وقد تعرض في سبيل ذلك لمواجهة عنيفة مع نفسه وأقرانه وكذا الأمراء في زمانه، ولكنه كان مندفعا نحو قراره بالانخراط في حياة التصوف والخمول حتى يستطيع أن يكبح جماح نفسه التي أحسها تريد الإفلات من بين يديه.
تمتلئ الرواية بمواقف المؤلف وآرائه التي يوردها على لسان الغزالي وخصوصا في موقفه من الشخصيات المثيرة في تاريخ التصوف مثل الحلاج، الذي يقول إن الغزالي يتحد معه في فلسفة التصوف، ولكنهما يختلفان في طريقة التعبير عنها “إنه أراد إصلاح كثافة العباد واشتغلتُ بغزل لطائف الوداد”، هذا هو الفرق فقط، في نظر المؤلف، ثم يقول عنه أيضا على لسان الغزالي: “لقد ذاق اليقين بكل أنواعه، مثل الفراش يحوم حول المصباح وقنعنا من اليقين بعلم الحقيقة، فضوء المصباح علم اليقين وحرارته عين اليقين والاحتراق به حق اليقين، كان الحلاج فراش الحقيقة الذي احترق من شدة القرب إلى حد المماهاة، ولم يدر أن حقيقة الفراش وحقيقة المصباح مختلفتان”.