عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، قاضي إفريقيا وعالمها ومحدثها، ويقال إنه أول مولود رأى النور بعد دخول الإسلام إلى إفريقيا التي نشأ بها. وهوالإمام القدوة شيخ الإسلام أَبو أَيوب الشعباني، عاش فى ثلاث مناطق هى مصر وإفريقيا والكوفة بالعراق، إلا أنه تولى قاضى القضاة بإفريقية وعاش بها حتى الممات.
لا شك أن القضاء هو معيار العدالة والحق ودفع الظلم، فليس من حق القاضى أن يظلم أو يقف إلى جانب دون الآخر، فيجب أن يكون القضاء سلطةً مستقلة، وأن يكون للقضاء مصداقية لدى المجتمع لكي يطمئن الجميع لحكم القضاء وعدالته، حيث أن أهم شرط فى القاضي النزاهة والاستقامة والشجاعة والتعفف، عما في أيدي الملوك والسلاطين. فالقاضى الذى يبيع ضميره بالمال، ويقبل الرشوة، ويستخدم سلطته لظلم أصحاب الحقوق، وحرمانهم من العدالة هو شرّ الناس، ويحاسب حسابا عسيرا في الدنيا والآخرة.
ويعد عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، من أشهر قضاة المسلمين عفة ونزاهة وعدلا، فقد كان له مواقف شتى أمام السلطان ضد تفشى الظلم، فهو لا يحابي، ولا يجامل السلطان علي حساب الحق والعدل، بل يواجهه ويحاججه بعلمه وعقله وصراحته وقوته في الإيمان بالله. فمن هو هذا العالم القاضي الذي يجهله الكثير من الناس؟
من هو عبد الرحمن بن أنعم الإفريقي؟
هو أبو البقاء عبد الرحمن بن زياد بن أنعم بن ذري بن يحمد بن معدي كرب بن أسلم بن منبه بن النمادة بن حيويل بن عمرو بن أشوط بن سعد (75- 161هـ = 694- 778م) الشهير بعبد الرحمن بن زياد الإفريقي، المكنى أبو خالد وأبو أيوب، ويرجع نسبه إلى الشعباني الأفريقي المعافري. يعد أول مولود في الإسلام بعد فتح أفريقيا. لأن أباه زياد من وجوه الجند العربي الذي قدم مع عقبة بن نافع في المرة الثانية.
رحل عبد الرحمن بن زياد بن أنعم إلى المشرق للتفقه في الدين، فروى عن جماعة من التابعين، وصاحب زمانا أبا جعفر المنصور قبل خلافته وزاولا العلم معا، ثم رجع إلى إفريقية وولى القضاء العام بها وانتفع به جمع غفير، وعاد مرة أخرى إلى العراق و اجتمع بأبي جعفر المنصور وقد ارتقى إلى الخلافة، فعرض عليه المقام في بغداد فلم يقبل، وعندئذ عينه قاضياً على إفريقية صحبة محمد عبد الأشعث فبقي عبد الرحمان على القضاء إلى أن توفي في شهر رمضان سنة 121 هـ. ومن شعره يتشوق إلى مسقط رأسه القيروان مدة إقامته بالعراق:
مسيرة أشهر للعير نصّا *** وللخيل المضمّـرة العتـــاق
فبلّغ أنغما وبني أبيه *** ومـن يرجـى لنـا ولـه التلاقـي
فإن الله لو خلّى سبيلي *** لجــدّ بنـا المسـير إلى مٌـزاق
(مزاق: هو اسم لإفريقا قديما)]
المدرسة القيروانية في الحديث
إن دور المدرسة القيروانية في الحديث لا يقل أهمية عن دورها في الفقه. ولقد اعتني القيروانيون بالحديث وروايته في عهد مبكر من تاريخ الإسلام. ولا أدل على ذلك من الشهير بالعلم والورع المتبحر في التفسير والفقه ورواية الحديث. ألا وهو عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي الذي يقال إنه أول مولود ولد في الإسلام بإفريقية بعد فتحها، وأول محدث قيرواني تروي أحاديثه، كما هو مثبت في جمهور الكتب التي أرخت له.
وقد ولي عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قضاء إفريقية من قبل كل من الدولتين الأموية والعباسية. فقد ولاه مروان بن محمد الأموي وأثني عليه كثيرا، كما ولاه أبو جعفر المنصور، وكان محل إعجاب وثقة عند الجميع. وكان في قضائه محكما لكتاب الله وسنة نبيه محمد ﷺ، مثالا للعدل والنزاهة مشتهرا بقول الحق ولو كان مرا، لا تأخذه في الله لومة لائم. ويشهد لذلك قصته الشهيرة مع الخليفة أبي جعفر المنصور.
شيوخه وتلامذته وروايته للحديث
تعلم عبد الرحمن بن أنعم على يد كبار العلماء، حيث بلغ عدد معلميه حوالى 15 معلما اكتسب منهم كافة أنواع علوم الحديث وغيرها التى استند إليها فى القضاء، كما نقل هذا العلم إلى العشرات من تلاميذه. وقد رويت أحاديثه في كتب الحديث المشتهرة كسنن أبي داود والترمذي وابن ماجة والسنن الكبرى للبيهقي.
أما في مجال رواية الحديث فقد روى عن أبيه ، وبكر بن سوادة ، وأبي عبد الرحمن الحلبي ، وعبد الرحمن بن رافع التنوخي صاحب لعبد الله بن عمرو ، وأبي عثمان المصري صاحب لأبي هريرة ، ومسلم بن يسار ، وزياد بن نعيم ، وعدة من التابعين .كما روى عنه ابن وهب ، وأبو أسامة ، وجعفر بن عون ، ويعلى بن عبيد ، وأبو عبد الرحمن المقرئ ، وخلق كثير .
هذا وقد ضعف حديثه كثير من المحدثين، ووثقه جماعة آخرون فمن الذين ضعفوه ابن معين وأحمد النسائي والترمذي وابن خزيمة. أما الذين لم يضعفوه، بل وثقوه فمنهم أبو داود وعبد الله بن وهب وسحنون وكذلك البخاري كان يقوي أمره، ويقول: هو مقارب الحديث. وعليه فإن روايته للحديث محل خلاف بين المحدثين إلا أن كفة الذين ضعفوه كانت أرجح ومهما يكن من أمر فإنه يعتبر مشاركا في الحديث وروايته مشاركة هامة بالرغم من أنه متقدم تاريخيا على الكثير من المحدثين، وبلده في عصره ناء عن مراكز الحديث.
قال عنه العلماء
يعتبر الإمام الشيخ عبد الرحمان بن أنعم الإفريقي من المحدثين الثقات، قال عنه الذهبي: الإمام، القدوة، شيخ الإسلام، أبو أيوب الشعباني، الإفريقي، قاضي إفريقية، وعالمها، ومحدثها، على سوء في حفظه.
قال عنه البخاري في “التاريخ الكبير”: “عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الافريقى، سمع أباه وأبا عبدالرحمن الحبلي وبكر بن سوادة، روى عنه الثوري، قال المقرئ: هو الشعبانى المعافرى أبو خالد أول مولود في الإسلام – يعني بعد فتح إفريقية – جاز المائة”.
وقال الذهبي في “ميزان الاعتدال في نقد الرجال”: “كان البخاري يقوي أمره ولم يذكره في كتاب الضعفاء. وقال ابن حجر العسقلاني في “تهذيب التهذيب”: “قال أبو العرب القيراني” كان ابن أنعم من أجلة التابعين عدلا في قضائه صلبا أنكروا عليه أحاديث ذكرها البهلول بن راشد سمعت الثوري يقول: جاءنا عبدالرحمن بستة أحاديث يرفعها إلى النبي – ﷺ – لم أسمع أحدا من أهل العلم يرفعها، حديث: أمهات الأولاد، وحديث: إذا رفع رأسه من آخر السجدة فقد تمت صلاته، وحديث: لا خير فيمن لم يكن عالما أو متعلما، وحديث: أغد عالما أو متعلما، وحديث: العلم ثلاثة، وحديث: من أذن فهو يقيم.. قال أبو العرب: فلهذه الغرائب ضعف ابن معين حديثه، وقال الغلابي: يضعفونه ويكتب حديثه، ذكره ابن البرقي في باب من نسب إلى الضعف وقال سحنون عبدالرحمن بن زياد: ابن أنعم ثقة، وقال الحربي: غيره أوثق منه وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم”.
وقال عنه أبو الحسن بن القطان: “كان من أهل العلم والزهد بلا خلاف بين الناس ومن الناس من يوثقه ويربأ به عن حضيض رد الرواية والحق فيه أنه ضعيف لكثرة روايته المنكرات وهو أمر يعتري الصالحين”.
قصته مع الخليفة أبي جعفر المنصور
من بين المواقف التى تدل على عدم خوفه من الحاكم، حينما ظهر بإفريقية ظلم من السلطان، فذهب “بن زياد” إلى السلطان، واشتكى العمال إليه من هذا الظلم، وأقام “بن زياد” بباب “أبى جعفرالمنصور” شهرا ثم دخل عليه، فسأله السلطان ما الذى جاء بك، فرد عليه قائلا: ظهر الظلم ببلدنا فجئت لأعلمك لعل الظلم يخرج من دارك، فغضب السلطان غضبا كبيرا، وأمر بإخراجه من مجلسه.
ومن بين الروايات الأخرى التى تدل على أن “بن زياد” لم يكن مواليا ذات يوم للسلطان، حيث ذخب إليه ذات مرة ووجد معه وزيره ويدعى “الربيع” فسأله السلطان أبو جعفر قائلا: يا عبد الرحمن كيف ما مررت به من أعمالنا إلى أن وصلت إلينا؟ ، فرد عليه القاضى قائلا: يا أمير المؤمنين رأيت أعمالا سيئة وظلما فاشيا ظننته أبعد البلاد منك فجعلت كلما دنوت منك كان أعظم للأمر.
السلطان أبو جعفر نكس رأسه طويلا ثم رفعه قائلا: كيف لي بالرجال ؟ فرد عليه القاضى قائلا: أفليس عمر بن عبد العزيز كان يقول : الوالي بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها، فإن كان برا أتوه ببرهم وإن كان فاجرا أتوه بفجورهم، فأطرق طويلًا فقال: لي الربيع “أى الوزير” وأشار إليه كى يخرج من مجلسه فخرج القاضى ” بن زياد” ولم يعد إليه مرة أخرى.
وقال محمد بن سعد الجلاب: حدثنا جارود بن يزيد قال: أخبرنا عبد الرحمن الإفريقي قَال: كنت أطلب العلم مع أَبي جعفر المنصور قبل الخلافة فأدخلني منزله فقدم إليَّ طعامًا، ومريقة من حبوب ليس فيها لحم، ثم قدم ألي زبيبا ثم قال: يا جارية عندك حلوى؟ قالت: لا، قال: ولا التمر؟ قالت: لا، فاستلقى وقرأ {قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (الأعراف-129)، فلما ولي الخلافة دخلت علَيه فقال: بلغني أنك كنتَ تعدّ لبني أمية فكيف رأيت سلطاني من سلطانهم؟ قلت: ما رأيت في سلطانهم من الجور شيئا إلا رأيته في سلطانك، فقَال: إنا لا نجد الأعوان، قلْت: إن السلطان سوق، قال: فسكت.
مقولته التاريخية ..”القاضي والهدية”
يعد الشيخ العالم عبد الرحمان بن زياد بن أنعم الشهير بـ”الإفريقي” من “القضاة الأوائل” الذين يمتازون بالنزاهة ومخافة الله، تحدى السلطان بعد تفشى الظلم بأفريقيا فطرده من مجلسه، و من أبرز ما قاله في هذا الشأن مقولته الشهيرة: “إذا رأيت الهدية تدخل دار قاض فاعلم أن الأمانة خرجت منها”، وهي مقولة تاريخية قالها القاضى البليغ عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافري الإفريقي، كانت بمثابة نبراسا للعشرات بل للمئات من القضاة، وضعوها مقياسا لمعاملاتهم مع الأفراد، وخاصة المتعاملين معهم باستمرار منعا للتشكيك فى أحكامهم.
كان القاضي عبد الرحمن بن أنعم نموذجا فريدا للقاضي الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، فكان يخشى الله ويتقيه، وكان مثالا للنزاهة والتعفف عما فى أيدى الناس، والملوك، والسلاطين، بل أن مقولته الشهيرة تلك أصبحت تكتب بماء الذهب.
لقد وقف عبد الرحمن بن أنعم ندا للسلطان، حينما وقف شهرا كاملا بباب السلطان جعفر من أجل نصرة المظلوم، ومحاربته للظلم، فلم يبالي بغضب السلطان لإيمانه بقيمة رفع الظلم عن كل مظلوم، وقد عُرف واشتهر عنه محاربته للظلم، ووقوفه مع المظلوم.