واكبت عدد من أقلام السلف، التي اهتمت بآداب حملة القرآن، خطوات القارئ لتسديدها، ولتنبيهه من المطبات التي قد تنشأ عن تفاعله اليومي داخل المجتمع. بمعنى أن لقارئ القرآن مساحة أضيق من التي يتحرك داخلها الإنسان العادي، ومرد ذاك التحديد إلى خصوصية كتاب الله التي تُلزم قارئه بآداب وسلوك مخصوص يميزه عمن سواه.

نشهد في السنوات الأخيرة عودة ملحوظة للقرآن الكريم، تؤكدها الأعداد الغفيرة من رواد الكتاتيب ودور التحفيظ، ويؤيدها ثقل الحضور على مستوى الفضائيات وشبكة الإنترنيت. وأسهمت الفعاليات الدولية المهتمة بالحفظ والتجويد في إضفاء سمة الحدث الإعلامي المميز على لقاءات التباري بين حملة كتاب الله. لكن، بعد أن انقسم اللغط إلى واقعي وافتراضي، وتنازل الناس عن قسط من حياتهم لصالح شبكات التواصل الاجتماعي، بات لزاما على قارئ القرآن أن يحتفظ بمسافة ضرورية تفصله عن تداعيات الاحتكاك اليومي بالمتصفحين والمتصفحات، وألا ينساق خلف تنافسية فجة، واحتفاء شبيه بالذي يلقاه نجوم الرياضة والغناء ،واللاهثون خلف التميز وتحطيم الألقاب.

ينتسب قارئ القرآن إلى أهل الله وخاصته، بمنطوق الحديث الشريف، ويزكيهم القرآن الكريم بقوله: (( يتلونه حق تلاوته)) [البقرة:121].ومن حقوق التلاوة التي خص بها أبو بكر الآجري رحمه الله قارئ القرآن : “أن يكون بصيرا بزمانه وفساد أهله، فهو يحذرهم على دينه… يطلب الرفعة من الله عز وجل لا من المخلوقين، ماقت للكبر خائفا على نفسه منه، لا يتأكل بالقرآن، ولا يحب أن تقضى له به الحوائج.. يصحب المؤمنين بعلم، ويجالسهم بعلم.. فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن، فكان كالمرآة يرى بها ما حسُن من فعله، وما قبُح منه.”

لقد تخيرت تلك العبارات لأنها تنسجم مع الغاية من هذه المقالة، وإلا فالحقوق كثيرة، وما عرضه الآجري في (مختصر أخلاق حملة القرآن) يصح دستورا أخلاقيا لكل قارئ ومعلم يتطلع لشرف الانتساب إلى أهل الله. إنها عبارات تروم وضع قارئ القرآن في مقابل الصخب اليومي المنبعث مما يصطلح عليه ب(السوشيال ميديا)، والاقتراب من شكل العلاقة التي تؤطر حركته في العالم الافتراضي.

يكفي أن يضغط بضعة آلاف من رواد الأنترنيت على زر المشاهدة لمقطع فيديو حتى ينتقل القارئ الشاب إلى مصاف المشاهير، وينتظم حوله ثلة من المعجبين الذين يُنشئون باسمه حسابات تواصل. وبما أن الإعلام تدحرج من صنع الخبر إلى خدمة الكتلة الضاغطة على الزر، فإن المواقع تتهافت لتحظى بلقاء أو دردشة مع النجم، في إطار احتدام يومي للبقاء في مربع “الأكثر متابعة”. ونظرا لكون الرواد أغلبهم من فئة الشباب فإن ما يثير تحديدا في مقاطع التلاوة هو الصوت الحسن، أو حالة الخشوع التي تولدت عن ترديد آية في مناسبة ما. وبتنا نعاين مفاضلة بين قارئ وآخر، وثناء يقطع عنق صاحبه حين تبلغ الإشادة مدى مؤسفا كترديد عبارة “القارئ المعجزة” والقراءة “الخرافية”.

يتحدث الآجري عن البصر بالزمان وفساد أهله، بمعنى أن ينتبه القارئ لمعدل انحراف المجتمع عن مقاصد الشريعة وضوابطها، حتى لا يقع في فخ الدنيوية التي تفسد نيته وعمله. وهي التي أشار إليها الآجري بقوله ” يطلب الرفعة من الله عز وجل لا من المخلوقين، ماقت للكبر، لا يتأكل بالقرآن ،ولا يحب أن تقضى له به الحوائج.” ومعلوم أن ما يهمين اليوم على شبكات التواصل الاجتماعي هو هاجس الإنجاز، ورصد أية حركة أو سكنة تصلح لكسب المعجبين وزيادة مستهلكي الخبر أو الصورة. وحين يُسلم القارئ نفسه لهواة التسويق والبحث عن “العالمية”، تبدأ الحدود التي سطرها الشارع الحكيم بينه وبين عامة الناس بالاهتزاز. أليس من المحزن حقا أن يلجأ قارئ شاب لإغناء صفحة معجبيه بصور تُظهر تسريحات شعره المختلفة؟

ومن تجليات طلب الرفعة من المخلوقين أن يسكت القارئ على الألقاب التي تبالغ في وصف أدائه، ويغض الطرف عن مبادرات تروم تسويقه ضمن قالب لا يختلف كثيرا عن نجوم الطرب. فعلى سبيل المثال يتم الترويج لفيديو تجلس فيه قارئة شابة بين يدي خبير مقامات تحت عنوان ” لقاء السحاب”!

ويجري القارئ حوارا مع صحفي من الدرجة العاشرة، فيجد نفسه أمام حرج الإجابة على أسئلة سخيفة قد تجعله مادة للتهكم أو السخط على مواقع التواصل الاجتماعي. وربما يزل اللسان برأي أو وجهة نظر في قضية اجتماعية، فيعزز انقسام الصفوف بدل لمّ الشمل.

وقد يقبل، راضيا أو مكرها، بالاحتدام الذي تشهده بعض المواسم الدينية كرمضان، حيث ينخرط المعجبون في سباق محموم لرصد مؤشر بورصة القراء. وتبدأ المفاخرة بعدد المصلين، خلف القارئ فلان أو علان، وحفز ظاهرة تنقل الناس من محل سكناهم إلى مساجد بعيدة، وفي بعض الأحيان قطع مئات الكيلومترات لتزكية سلوك نهى عنه النبي الكريم !

يضيف الآجري قائلا: ” يصحب المؤمنين بعلم، ويجالسهم بعلم..”، ومسؤولية هذا (العلم) تقع حقيقة على عاتق مؤسسات التحفيظ، التي ينبغي أن تدرج ضمن المنهاج مادة متعلقة بأخلاق القرآن وآدابه، يُمتحن فيها الطالب كما يُمتحن في أصول التلاوة وقواعد التجويد. وأن تُراعى كمعيار أساسي في قبول طلبات التباري ضمن المسابقات الكبرى. ومن شأن هذا المسعى أن يعزز في ذهن القارئ ووجدانه خصوصية كتاب الله، ويرسم له بشكل حاسم خطوات السير في طريق أهل الله.

إن القرآن مرآة القارئ، يرى فيه ما حسن من أفعاله وما قبح منها. وما يهيمن اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي من صخب التنافس والمتاجرة في كل شيء، والبحث عن نجومية زائفة، جدير بأن يحمل القارئ على ترك مسافة ضرورية بينه وبين أشكال اللغط، وأن ينتهج نهجا وسطيا لا ينكفئ فيه على نفسه، ولا ينساق خلف ألاعيب الأنفوميديا.

يقول الفضيل بن عياض رحمه الله:” ينبغي لحامل القرآن ألا تكون له حاجة إلى أحد من الخلق، وينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه”.

فتأمل !