مثلما أن ثورتي الاتصال والمعلومات دفعت بالبشرية سنوات عديدة نحو الأمام، مقارنة مع ما كان البشر عليه قبل أكثر من قرن، فإنهما كذلك صنعتا نظاماً صار يتعاظم ويتعملق وينتشر، بل ربما يسود بعد حين من الدهر قليل. إنه نظام التفاهة، كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الكندي المعاصر آلان دونو في كتابه “نظام التفاهة” أو النظام الاجتماعي الذي تسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على معظم مناحي الحياة، وبموجب ذلك يتم مكافأة الرداءة والوضاعة والتفاهة بدلاً عن الجدية والمثابرة والجودة في العمل.
العالم اليوم صار قائماً على هذا النظام، بل إنه يصنعه صناعة، ويدفعه دفعاً ليسود ويسيطر. فأينما وليت وجهك، شرقاً أم غرباً، أم أي اتجاه رغبت، فإنك تجد مصانع منتشرة للتفاهة. فهناك مصانع للتفاهات الثقافية، ومثلها للتفاهات السياسية، وأخرى للفنون التافهة، إلى آخر قائمة مجالات الحياة المتنوعة، التي تلوثت بتلك النوعية من المصانع التافهة إن صح وجاز لنا التعبير.
من أكثر ما يلفت الانتباه في هذا النظام، أن الإنسان بدأ يتحول تدريجياً وبشكل متسارع في الوقت ذاته، من ذاك المحترف أو صاحب حرفة إلى موظف أجير عند غيره، ليس له دور سوى أداء ما هو مطلوب منه من صاحب العمل، مقابل أجر مادي ينتظره آخر الشهر، وإن لم يكن الموظف مقتنعاً بعمله، الذي ربما يقوم به ليس عن حب وشغف، بقدر ما هو تأسيس مصدر دخل للإعاشة ليس أكثر.
المال في عصر التفاهة
هذا الواقع الحاصل يدفعنا أحياناً كثيرة، وبما أننا صرنا نعيش عالم وعصر التفاهة، إلى الاعتقاد بأن المال هو المعيار الأول، إن لم يكن الأوحد، فيما نسميه بالنجاح. أي إذا أردت أن تكون ناجحاً في ظل هذه الظروف المستجدة، فلا سبيل ولا مسلك إلا عبر المال. بمعنى أكثر وضوحاً: كلما استطعت جمع الكثير منه، كلما ارتقت درجتك في المجتمع الذي تعيش فيه، وغالباً ما يكون مجتمعاً مبتلى بالتفاهة، من قمة رأسه إلى أخمص قدمه.
إن نظام التفاهة هذا، يضمن لك ما ترغب.. يضمن لك إن دخلته من أي طرف شئت، تحقيق النجاح الذي تحلم به. يضمن لك بشكل رئيسي الحصول على المال، المعيار الأساسي للنجاح. دخولك عالم التفاهة، يعني دخولك مصانع التفاهة المتنوعة. ولك بعد ذلك أن تختار أي مصنع شئت، لتنتج تفاهة تتناسب ورغباتك وإمكانياتك وقدراتك، ثم لن يؤرقك كثيراً كيفية ترويج وبيع المنتج، وتحقيق الكسب السريع..
هذا النظام، صاحب شبكة واسعة، ليس في محيطك فحسب، بل العالم من حولك. هو يتولى ترويج ونشر المنتج، طالما يحقق معاييره، وأبرزها التفاهة، بكل ما تحمل الكلمة من معنى. لاحظ معي كيف أن قيمة النجاح في عالم التواصل الاجتماعي، تعني المال والمال فقط. أي لتكون ناجحاً في مجتمعك، فليس لك سبيل سوى كسب المال وبوفرة ملحوظة، بغض النظر عن طرق ووسائل الكسب. ما الذي دفع بمن يُطلق عليهم مشاهير التواصل الاجتماعي أو ” الفاشينستات” ذكوراً وإناثا، لتأكيد هذا المعنى، وإن كان بشكل ضمني غير مباشر؟ لقد وجدوا أن من أسهل طرق كسب المال هي صناعة التفاهة، التي قادتهم إلى البروز والشهرة والأضواء، وجحافل من المتابعين الإمّعات..
هذه ظاهرة اجتماعية مستجدة لا شك أنها مغرية لكل شاب سيبدأ حياته بعد قليل. هذا الشاب، لابد أنه فكر وقدّر فيما هم عليه أولئكم المشاهير، أو فقاعات التواصل الاجتماعي، وكيف يحقق أحدهم كسباً سريعاً دون كثير جهد. فلماذا عليه أن يبدأ بالخطوات التقليدية المعتادة الطويلة، وبذل الجهد في المدارس والجامعات وما بعدها، ليكون موظفاً أو ترساً ضمن آلة عمل ضخمة، تضمن له المعيشة، لكن ليس الثراء السريع كما الحال الذي عليه أعضاء عالم التفاهة؟ هذا الشاب، لا ريب أنه سيعتقد بعد قليل من الوقت، أن الطريق نحو الثراء لا يتطلب مؤهلات ولا شهادات ولا خبرات، بل مهارة وقدرة في صناعة التوافه من الأفكار والمشروعات، ثم الدندنة عليها وحولها بمعية نظام التفاهة، لتجد حولك سريعاً مستهلكين وراغبين في بضاعتك الجديدة! أليس هذا هو الحاصل اليوم في أقطار عديدة حول العالم؟
التفاهة وهي تنتشر
إن تفحصت عالم الثقافة، فستجده مليئاً بتفاهات تجوبه بلا حدود، عبر كاتب هنا أو راوٍ هناك أو شاعر في موقع ثالث. وتكون بضاعتهم رائجة مكتسحة، والإقبال عليها غير منطقي. والأمر يتكرر في عالم الفن والسينما والمسرح. ولن نبالغ إن قلنا إن التفاهة اكتسحت عالم المال والصناعة، فصار كل منتج صناعي تافه لا يقدم ولا يؤخر كثيراً، هو من يكتسح السوق.
وبالمثل في عالم السياسة وعالم البحث العلمي وعالم الجامعات والإعلام بوسائله المتنوعة، وعوالم أخرى عديدة لم تسلم من ذبذبات التفاهة المتكاثرة والمتعاظمة في الوقت ذاته.
عالم التفاهة إذن، ومن يقفون وراءه بالدعم والتأييد والنشر والإعلام، إنما هدفهم كسر القيم والمعتقدات والثقافات والأعراف، وجعل الحياة بلا ضوابط ولا حواجز وموانع، سواء كانت على شكل تعاليم دينية أو أعراف وقيم مجتمعية وأخلاقية، والدفع بالمجتمعات للانقياد الأعمى نحو هذا العالم، عبر تزيينه وتيسير الولوج إليه، وأنه لا شيء في هذه الحياة يستحق بذل جهد وفكر ووقت من أجله، لأن الحياة سهلة يسيرة، وبالتالي ليس هناك ما يدعو لإضاعة متعة الاستمتاع بها!
هكذا يحدث التزيين، بل يزيدون عليها أن المسألة حريات شخصية، حتى وإن كانت منتجات التفاهة تضرب بالذوق العام وتدفعه للحضيض، وكل الآراء والتقييمات غير مهمة ولا يلقى لها بال. وعلى هذا المنوال، نجد عالم التفاهة يكبر، ويكبر معه جيل بعد آخر، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
عصر الرويبضة
نحن نظرياً وعملياً نعيش عصر التفاهة أو عصر الرويبضة الذي حذرنا منه نبينا الكريم –ﷺ– وأهمية التنبه له حين نبدأ نراه ونعايش رموزه، كما قال عليه الصلاة والسلام: “سيأتي على الناس سنوات خدّاعات يُصدق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة”..
ألم تخرج آلاف الرويبضات تتحدث في السياسة والاقتصاد والدين والثقافة والفكر وغير ذلك من مجالات الحياة المتنوعة، بلا علم ولا فكر ولا قيم أو أخلاق؟ هذا هو فعلاً عصر الرويبضات أو عصر التفاهة بلغة العصر.. فماذا نحن فاعلون؟