حفل تاريخ الحضارة الإسلامية بأخبار جامعي الكتب وعشاقها ومن لم يمنعه كلفه بها من التطوع لإنشاء مكتبة تتيح الكتب للراغبين في التعلم، وهو التقليد الذي لم ينقطع حتى عصرنا الحاضر إذ نجد على امتداد العالم الإسلامي مكتبات ومؤسسات ثقافية نشأت بمبادرات فردية للقيام بواجب نشر المعرفة وخدمة طلاب العلم، وبعضها بلغ من الضخامة وثراء المحتوى ما دفع الدولة إلى ضمها لمكتباتها الوطنية الناشئة، وهو ما سنفصله في هذا المقال الذي يتطرق إلى تاريخ بعض أشهر المكتبات الأهلية في مطالع العصر الحديث.
مكتبة عارف حكمت
أسسها شيخ الإسلام العثماني عارف حكمت في المدينة المنورة، وأوقف عليها أبنية وأشجار وكتبا جمة أرسلها مع شيخ الحرم من حاضرة الخلافة قدرت بنحو ستة آلاف كتاب ” وكان ينوي إبلاغ كتب الخزانة إلى عشرة آلاف كتاب كانت تحت يده إلا أنه لم يتمكن من تحقيق ذلك لأنه حين عزم إلى الحضور إلى المدينة يستصحب بقية كتبه عاجلته المنية في دار الملك، فبيعت كتبه فيها مع تركته بأبخس الأثمان”.
أنشئت المكتبة عام 1270ه/1853م كما نقش ذلك على سقف قاعتها، وهي السنة التي أقيل فيها صاحبها من المشيخة، ويفترض الأستاذ عبد الله مخلص أن الإقالة ربما تكون بسبب تأسيسها، وأيا ما كان ذلك فإن المكتبة ما لبثت بعد عقود قليلة أن احتلت مكانتها بين غيرها من المؤسسات الثقافية العريقة وصارت مقصدا للعلماء فزارها السيد طاهر الجزائري والشيخ جمال الدين القاسمي والسيد محمود شكري الآلوسي والأستاذ محمد كرد علي وشكيب أرسلان وغيرهم، وقد وصفها الأستاذ محمد كرد علي بقوله “وأحسن خزائن كتب المدينة المنورة، وربما كانت خير مكتبة في البلاد العثمانية كلها بنظامها وانتقاء أمهاتها هي مكتبة عارف حكمت أفندي، ففيها نحو عشرة آلاف مجلد كتبت بخطوط المشهورين من الخطاطين كأن تجد الكتاب ذا العشرين جلدا مكتوبا بخط مشرقي بديع في مجلد أو مجلدين[1].
يشير هذا القول إلى بعض عناصر تميز المكتبة وهي: ما تضمه من نسخ دقيقة كتبت بأيدي خطاطين مهرة، وتمتعها بنظام مكتبي دقيق والفضل فيه يعود إلى وقفيتها التي حددت مواعيد فتح المكتبة بدقة وبينت مهام حفاظ الكتب (أمناء المكتبة) والعاملين بها، ووضعها ضوابط لاستخدام الكتب الموقوفة، وحظرها الإعارة الخارجية حيث اشترط واقفها “أن لا يخرج عن المكتبة المذكورة أي شيء من المصاحف الشريفة وكذلك الكتب، ولا يعار منها لأي فرد كان بل يخصص ويحصر الانتفاع والمطالعة بالمكتبة، وأن لا يظهر حفاظ الكتب العجز والإباء عن عرض وإعطاء الكتب للراغبين بأي وجه”[2].
وبفضل التوازن بين تشجيع القراءة الداخلية وحظر إعارة الكتب خشية ضياعها استطاعت المكتبة أن تكتسب مكانتها حتى اليوم كواحدة من بين أهم مكتبات المخطوطات في العالم إذ يصل عدد المخطوطات بها إلى 4373 مخطوطة، والمجاميع الخطية نحو 632 مجموعة، أما عدد الكتب المطبوعة فهو 7097 مجلدا مطبوعا، وقد آلت المكتبة أخيرا إلى مكتبة الملك عبد العزير في أعقاب التوسعة بالحرم النبوي الشريف.
المكتبة التيمورية
وتنسب إلى مؤسسها العلامة المحقق أحمد تيمور باشا الذي نشأ في بيت علم وأدب، ضم داره مكتبة صغيرة لم تشبع نهمه فشرع منذ عام 1889 في اقتناء الكتب والمخطوطات “وما زال ينفق على اقتناء مجموعاته عن سعة، وهو يطالعها ويعلق عليها ويخدمها بالفهارس والحواشي حتى تألف منها قبل وفاته خزانة كتب تقدر بنحو ثلاثة عشر ألف مجلد، عدا الصور التاريخية والآلات الفلكية ومحابر أقلام كانت لبعض المشاهير”[3].
ذاع صيت المكتبة بما حوته من نوادر المخطوطات ومنها عشرات كتبت بأقلام مؤلفيها أو قرأ فيها أعلام من السلف فعلقوا عليها وأجازوها، وتردد عليها علماء من كافة الأمصار ومنهم: الشيخ طاهر الجزائري والأستاذ كرد علي وفيليب دي طرازي وغيرهم، وراسل صاحبها المشتغلين بالتراث والتحقيق وأمدهم بما يحتاجون إليه من مخطوطات ونوادر الكتب، فذكر الأستاذ كرد علي أنه أمده بكتابات كثيرة أثناء إعداده كتابه (خطط الشام)، وأمده بمخطوطات عديدة قدم لها في مجلة المجمع العلمي العربي[4]، وكذلك فعل مع الأستاذ اسكندر عيسى المعلوف الذي امتدح “كرمه الحاتمي على أرباب العلم”[5].
مرت المكتبة بتطورات عدة، فقد كانت خزائن المكتبة أول الأمر في قصره، ثم نقلها صاحبها إلى ضاحية عين شمس، ولما اندلعت الحرب الأولى خشي عليها ونقلها إلى قويسنا من أعمال مديرية المنوفية واستمرت زمنا، وعاودته الخشية عليها لأنها كانت ملاصقة لبيوت الفلاحين وهم يضعون الخوص والعيدان على الأسطح مما يعرضه للحريق، فأعادها ثانية إلى القاهرة بعد أن بنى لها دارا بالزمالك وأوقف عليها بضع أطيان تقوم بنفقتها لكنها آلت في نهاية المطاف إلى دار الكتب حسب وصيته حيث صارت جزءا منها، وأتيح للباحثين الإفادة منها.
وكذلك ازدادت أعداد الكتب زيادة مضطردة، فقد شرع في جمعها عام 1889 كما أسلفنا، وكان عدد كتبها قبل الحرب 7134 كتابا، المخطوط منها 3561 تقع جميعا في أكثر من ثمانية ألف مجلد، ومن بينها مخطوطات كتبت قبل الألف الهجري ويبلغ عددها 566 كتاب، والباقي كتب بعد الألف الأولى، وبينها أكثر من مائة وخمسين كتابا كتبت بخطوط مؤلفيها أو بخطوط علماء مشهورين، ومنها خطوط المنذري والقرطبي وابن حجر والسخاوي وزكريا الأنصاري ومرتضى الزبيدي وحسن الجبرتي وحسن العطار، واستمر صاحبها يزودها بالكتب حتى بلغت في نهاية حياته ثلاثة عشر كتابا موزعة على الفنون المختلفة.
وما يميزها أن صاحبها أعد لها فهرسا موزعا على الفنون والمعارف افتتحه بالتفسير وختمه بالمجاميع، وكل فن موزع إلى أقسام؛ فالتفسير مبدؤه التفاسير العامة ثم التفاسير الخاصة ببعض السور فآيات الأحكام فالمتشابه فإعراب القرآن، فمبهمات القرآن فأسباب النزول.. وكل قسم رتبت كتبه من الأقدم إلى الأحدث، وذكر في كل قسم ما يتعلق به من شروح وحواش ومختصرات[6].
ومع هذا الجهد الكبير صارت المكتبة أعظم المكتبات الشرقية الخاصة، ولم تزل مقصد الدارسين الذين يفدون إلى دار الكتب المصرية للاطلاع على مخطوطاتها النادرة.
المكتبة الخالدية
وهي أول مكتبة عربية عمومية تؤسس بمبادرة شخصية في فلسطين، تقع في البلدة القديمة في القدس بحي باب السلسلة يفصلها نحو 140 مترا عن باب السلسلة أحد أبواب الحرم القدسي الشريف.
تأسست المكتبة الخالدية عام 1900 على يد السيد راغب الخالدي الذي يوضح إلى دواعي تأسيسها في وثيقة الإعلان الرسمي فيقول ما نصه “إن العرب لما دخلت عليهم الحضارة والمدنية أسسوا المكتبات والمدارس، وتبعهم الإفرنج واقتفوا أثرهم، ولم تزل [الإفرنج] تترقى حتى بلغت الدرجة القصوى من الإتقان والانتظام .. و[هم ]ما زالوا ولن يزالوا تاركين التقاليد والأفكار المبنية على الظن والتخمين نابذينها ظهيريا، وأكثر اعتمادهم على اليقينيات والمجربات حتى طرحوا أكثر قواعد علم المنطق، وناقشوا من تقدمهم، ودققوا كتبهم، وأطلقوا عنان أقلامهم فنتج عن ذلك ما هم عليه من الثروة واليسار والطمع بما لدى غيرهم من الأراضي المخفية والمناجم المعدنية فاهتضموا حقوق غيرهم واستباحوا ما دونهم ممن ترك الجد والسعي”[7].
تبرهن مقدمة الوثيقة أن تأسيس المكتبة جاء في إطار الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب، وأن مؤسسها كان يعتقد أن الغرب لم ينهض إلا بنشر العلم وهو الهدف الذي لا يتحقق إلا من خلال تأسيس المكتبات وجعلها متاحة للعامة، خصوصا أن عائلات فلسطين المعروفة كلها تمتلك مكتبتها الخاصة ولم يكن للعامة أي مكتبات.
ما أن تم تجهيز مبنى المكتبة وهو مبنى أثري يعود إلى عصر سلاطين المماليك حتى أوقف عليها السيد راغب بضع أوقاف وشرع في جمع الكتب من أفراد عائلته ومن وجهاء المدينة وعلمائه فتجمع لديه 1156 كتابا منها نحو 685 مخطوطا والباقي مطبوع فصارت نواة المكتبة، وفي هذه الأثناء قدم إلى القدس الشيخ طاهر الجزائري وكان صديقا مقربا للسيد راغب فطلب منه أن يعاونه في تصنيفها وفهرستها، فاقترح عليه الشيخ طاهر الاستعانة بمحمود الحبال محرر صحيفة ثمرات الفنون للقيام بمهمة وضع الفهرس، وبالفعل أنجز الحبال مهمته وطبع تحت الفهرس تحت عنوان “برنامج المكتبة الخالدية العمومية” وفيه يشير إلى أنه طلب إليه ” ترتيب الكتب، وإفراد كل فن على حدة، وكتابة أسمائها على ظهورها مع وضع نمر لها”[8].
تميزت العقود التالية بالزيادة المضطردة في أعداد الكتب فلم يحل عام 1917 حتى بلغ عدد كتب المكتبة زهاء أربعة آلاف كتاب، وارتفع العدد إلى اثني عشر ألف كتاب عام 1945، لكن بعد الاستيلاء على المدينة عام 1967 تقلصت محتوياتها إلى ستة آلاف كتاب حيث امتدت إليها يد العدوان وسلبت محتوياتها، وتقدر محتوياتها حاليا بنحو ألفي مخطوطة وما ينوف عن خمسة آلاف كتاب مطبوع[9].
حققت الخالدية في عقودها الأولى الزاهرة سمعة طيبة فقدم إليها المستشرقين ومنهم مارجليوث، ولويس ماسينيون وهاملتون جيب وكاله، وزارها من الباحثين العرب محمد كرد علي ومحمد أسعد طلس وعبد الله مخلص، ولم تزل إلى الآن مقصدا لزائري المدينة المقدسة ومعلما من معالمها الإسلامية.
خلاصة القول أن المكتبات الأهلية نهضت في مطلع العصر الحديث بذات المهمة التي تنهض بها وزارات الثقافة في عصرنا، فعملت على نشر العلم والمعرفة أمام الراغبين، وإحياء التراث وتدقيقه، وتزويد الدارسين بما يحتاجونه من كتب ومخطوطات لإنجاز بحوثهم.
[1] نقلا عن: محمد بهجة الأثري، مكتبة عارف حكمة بك بالمدينة، القاهرة: الزهراء، ع 8، أغسطس 1925/شعبان1344، ص474.
[2] راشد بن سعد بن سعيد القطحاني، وقفية مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، المدينة المنورة: مكتبة الملك عبد العزيز، ص 23.
[3] محمد كرد علي، حياة العلامة أحمد تيمور باشا: ذكريات شخصية، دمشق: مجلة المجمع العلمي، س 11، ج3 مارس 1931، ص 132-133.
[4] محمد كرد علي، المرجع السابق، ص 135.
[5] عيسى إسكندر المعلوف، خزائن الكتب العربية: الخزانة التيمورية، دمشق: مجلة المجمع العلمي، س 3، ج8، أغسطس 1923، ص 225.
[6] نفس المرجع السابق، ص 227-228.
[7] أنظر صورة الوثيقة على الرابط التالي:
[8] وليد الخالدي، المكتبة الخالدية في القدس 1720-2001، ص 31.
[9] نفس المرجع السابق.