العقيدة السمحة هي مايجب أن يَعقِد عليه المسلم قلبه، ويصدّقه تصديقاً جازماً، كالإيمان بالله ومايجب له في ألوهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته ، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر ، والقَدَر خيره وشره ، وبكل ما جاءت به النصوص الصحيحة من أصول الدين.
فالعقيدة الصحيحة هي الأساس الذي يقوم عليه الدين، وتصحّ معه الأعمال. وجوهر العقيدة الإسلامية هو (التوحيد). والعلماء اتخذوه عنوانًا لعلم العقائد كلها، تنبيهًا على أهميته، وتذكيرًا بمنزلته.
وعندما جاءت هذه العقيدة موافقة للفطرة التي فطر الله الناس عليها كانت سمحة ميسرة للفهم، لاتستعصي على الصغير ولا الكبير، ويُدركها ويَقنع بها العامي والمثقف .
ولقد غفل كثير من الدعاة اليوم عن تعليم العقيدة الصحيحة للناس، ولم يجعلوها في أولويات دعوتهم كما كان هدي النبي ﷺ، بل صوّروها للناس على أنها مباحث شائكة، ومادة علمية معقّدة، تحتاج إلى شيوخ متقنين لشرح تفاصيلها، وبيان غوامضها، وطلاب أذكياء يستوعبون دروسها، ويحسنون تلقّيها..!!! وماذلكم إلا بسبب العدول عن أخذها من مصادرها الأصلية ( كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ) والرجوع فيها إلى كتب المتكلمين، وآراء الفلاسفة ونظرياتهم. فهذا رسول الله ﷺ يُعلّم معاذاً أهم دروس العقيدة وهما يركبان حماراً !
يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه : كُنْتُ رِدْفَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى حِمارٍ يُقالُ له عُفَيْرٌ، فقالَ: يا مُعاذُ، هلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ علَى عِبادِهِ، وما حَقُّ العِبادِ علَى اللَّهِ؟، قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: فإنَّ حَقَّ اللَّهِ علَى العِبادِ أنْ يَعْبُدُوهُ ولا يُشْرِكُوا به شيئًا، وحَقَّ العِبادِ علَى اللَّهِ أنْ لا يُعَذِّبَ مَن لا يُشْرِكُ به شيئًا، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ أفَلا أُبَشِّرُ به النَّاسَ؟ قالَ: لا تُبَشِّرْهُمْ، فَيَتَّكِلُوا. – رواه البخاري-
وفي درسٍ آخر يُردِف خلفَه ﷺ على بغلته غلاماً صغيراً، ويلتفت إليه، ويعلّمه كلمات تجمع أصول الدين وقواعده.
يقول لابن عباس: “يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وإن اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ . صحيح الترمذي.
فانظر بالله عليك سهولة مسائل العقيدة التي توافق مافطر الله الناس عليه، وتأمّل اهتمامَ النَّبيّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بتأصيل أصحابه عليها، فها هو يَجمَعُ المواعِظَ الجمَّةَ، والوصايا الجامِعةَ، وأهم مسائل العقيدة، وتوحيد العبادة والطلب، والإيمان بالقدَر، وحُسن التوكل على الله عز وجل، في الكلامِ القليلِ، ويعلّمه لغلامٍ صغير لم يبلغ الحُلُم بعد.
ثم بعد ذلك يروي الغلام روايته ويتناقلها الناس جيلاً بعد جيل، لتكون هذه الكلمات قواعد يبني عليها أهل السنة دينهم.
ما أعظم هذه العقيدة ، وما أيسر أن تأخذ قواعدها وأصولها – أخي المسلم – من نبعها الصافي، وماأهم أن تجعلها أيها الداعية من أولويات دعوتك وركائزها، كما كان هدي المعلم الأول عليه الصلاة والسلام الذي أرشد سفراءه ورسله أن يبدؤوا بدعوتهم بالعقيدة قبل الأمر بما أوجب الله عليهم من العبادات، لأنها إن استقرت في النفس، وعقد عليها القلب، سهُل على الجوارح أن تنقاد بالطاعات لله عز وجل مهما كانت.
فعن عبد الله بن عباس: لَمّا بَعَثَ النبيُّ ﷺ مُعاذَ بنَ جَبَلٍ إلى أهْلِ اليَمَنِ قالَ له: إنّكَ تَقْدمُ على قَوْمٍ مِن أهْلِ الكِتابِ، فَلْيَكُنْ أوَّلَ ما تَدْعُوهُمْ إلى أنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تَعالى، فَإذا عَرَفُوا ذلكَ، فأخْبِرْهُمْ أنّ اللهَ قدْ فَرَضَ عليهم خَمْسَ صَلَواتٍ في يَومِهِمْ ولَيْلَتِهِمْ، فَإذا صَلَّوْا، فأخْبِرْهُمْ أنّ اللهَ افْتَرَضَ عليهم زَكاةً في أمْوالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِن غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ على فقِيرِهِمْ، فَإذا أقَرُّوا بذلكَ فَخُذْ منهمْ، وتَوَقَّ كَرائِمَ أمْوالِ النّاسِ.- صحيح البخاري –
وإن تعجبْ فعَجَبٌ أن تجد شيوخاً لهم سُمعة، ومكانة، ومظهر، يتحاشون الكلام في أصول الدين وأسهل مسائل العقيدة، إن سُئل عنها أحدُهم ارتبك، وصار يبحث عن مَخرج ليهرُب من هذه الورطة، وينجو من هذه المِحنة. فلو سئل – مثلاً – عن صفات الله تعالى التي تكرر ذكرها كثيرا في القرآن والسنة لأجابك بكلام لايفهمه هو نفسه، غير معقول ولا منقول، مع أن الله تعالى قال ببيان ووضوح : { لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَیۡءࣱ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیر }.
ولو سئل عن الأناشيد المنتشرة التي فيها الاستعانة بغير الله أوطلب المدد من الأموات، لأجابك مثل ما أجاب الجاهليون الذين قالوا: {مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِیُقَرِّبُونَاۤ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰۤ} مع أنهم يقرؤون في اليوم والليلة أكثر من عشرين مرة { إِیَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِیَّاكَ نَسۡتَعِینُ }، ويحفظون وصية النبي ﷺ لابن عباس: ( إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله ..).
فوالله ….إنها الهداية، والتوفيق من الله تعالى لها، لذلك أوجب الله علينا الدعاء بها دائما : { ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَ ٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ . صِرَ ٰطَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمۡتَ عَلَیۡهِمۡ } وقد عرّفهم الله تعالى في سورة النساء بقوله: { وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُو۟لَـٰۤئكَ مَعَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ وَٱلصِّدِّیقِینَ وَٱلشُّهَدَاۤءِ وَٱلصَّـٰلِحِینَۚ وَحَسُنَ أُو۟لَـٰۤئكَ رَفِیقࣰا. ذَ ٰلِكَ ٱلۡفَضۡلُ مِنَ ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِیمࣰا }. فهؤلاء الذين لايطيعون الله والرسول، بل يسلكون طرق الضلالة والغي، ويعظّمون أولياء الشيطان من كل ميت وحي، دينهم ومذهبهم اتباع الهوى، فغناء، ورقص، ومعازف، وطرب ، أنى لهم الرشد والهداية ؟!
لا يغضبون لله مهما انتهكت محارمه، وحورب دينه وشرعه، لكنهم يعترضون ويغضبون إن تجرأتَ مرّةً على (الشيخ )، وسألته عن دليل مسألة ما، أو إن استنكرت شطحة من شطحات القوم التي ينكرها أصغر طالب علم، بل كل صاحب فطرة سليمة !!
وإن أردت أن تمتحن هؤلاء،وتتأكد أن الجهل بلغ بهم أنهم لايعرفون شيئاً عن صفات ربهم، فاسأل أحدَهم سؤالاً من كلمتين : أينَ الله ؟ وانظر كيف يتأول الحديث الصحيح الصريح، وماذا يهرِف، وكيف يشطح ويخرّف !! مع أن النبي ﷺ امتحن إيمانَ جاريةٍ صغيرة بهذين السؤالين :
“أينَ اللَّه ؟ قالَت: في السَّماءِ، قال: من أنا؟ قالت: أنتَ رسولُ اللَّهِ، قال لسيدها: أعتِقْها، فإنَّها مؤمنةٌ” – رواه مسلم –
فجاريةٌ ترعى الغنم – تربّت في مدرسة النبوة – أعلم بربها من كثير من أدعياء العلم الذين أضاعوا عمرهم بدهاليز علم الكلام، ومذاهب الفلاسفة.
نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن إمام الحرمين الجويني أنه قال عند موته: “لقد خضت البحر الخضم ، وخلّيت أهل الإسلام وعلومهم ، ودخلت فيما نهوني عنه ، والآن إن لم يتداركني الله برحمته فالويل لفلان ، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي” .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: حُكْمي في أَصحابِ الْكلامِ أَنْ يُضرَبُوا بالْجَرِيدِ، وَيُحمَلوا على الإِبِلِ ويُطافُ بهم في الْعَشائِرِ والقبَائِلِ، يُقَالُ: هَذَا جزاءُ مَنْ تَرَك الْكِتابَ وَالسُّنَّةَ وأَخَذَ فِي الْكلام.
وهذا الرازي الذي انتشرت تواليفه في البلاد شرقا وغربا، وقد بدى منها بلايا وطامات، كما قال عنه الذهبي رحمه الله. يقول عنه الشنقيطي في أضواء البيان: واعلم أيضا أن الفخر الرازي الذي كان في زمانه أعظم أئمة التأويل رجع عن ذلك المذهب إلى مذهب السلف معترفا بأن طريق الحق هي اتباع القرآن في صفات الله.
وقد قال في كتابه (أقسام اللذات): “لقد تأملتُ الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فلم أجدها تروي غليلاً، ولا تشفي عليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} ، وفي النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} ، ومن جرّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي”.
من هنا فإني أنصحك أخي المسلم إن أردت أن تلقى الله تعالى بعقيدة صحيحة، وقلب سليم – أن تأخذ الكتاب بقوة، وأن تفتح قلبك للقرآن حين تقرؤه، فتتدبر آياته، وتتعلم – من أهل العلم – أحكامَه وحِكمه، وتنهلَ من معينه، وتستكثر من خيراته وبركاته، (كِتَـٰبٌ أَنزَلۡنَـٰهُ إِلَیۡكَ مُبَـٰرَكࣱ لِّیَدَّبَّرُوۤا۟ ءَایَـٰتِهِۦ وَلِیَتَذَكَّرَ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ) فالله عز وجل لم يحكِر فَهمه على العباقرة من البشر، بل أنزله على أمّة أّمّيّةٍ. وجعل أمَّ الكتاب وأصول الدين في آياتٍ مُحكماتٍ لاتحتمِل التأويل. وعليك بسُنة رسول الله ﷺ فهي صِنْوُ الكتاب، وقد جاءت مبينة لمُجمَله، ولا يستغني عنها إلا هالك. قال تعالى : (وَأَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ یَتَفَكَّرُونَ) أي لتوضِّح لهم ما يحتاج إلى توضيح من الكتاب.
واربط فهمك له دائماً بفهم خير القرون من الصحابة وسلف هذه الأمة، ففيهم نَزَل، وهم أعلمُ بمراد الله منه. خُذ ما أخذوه من نبيهم، وقِف حيث وقفوا. واحذر من اتباع غير سبيل المؤمنين واجتنب طرق أهل الكلام ومذاهب الفلاسفة الضالين، والزَم طريق الراسخين في العلم وأئمة الهدى والدّين، فهم وَرَثة الأنبياء، ولاتحِد عنه فتضل وتهلك.
وإن هُديت إلى الحق ، “فاتبع طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغترّ بكثرة الهالكين ” ولاتغرنك ألقاب أو عمائم أو شهادات من جهل أصول الإيمان، وأُسس العقيدة الصحيحة، وغرق ببحر علم الكلام، أوزَيّن له الشيطانُ سوءَ عمله فصار يتعبّد الله بالهوى، ويتشفع إليه بالأولياء والأبدال وأصحاب القبور، ويتخبّط بأنواع البِدَع والشركيات وهو يحسب أنه يُحسِن صُنعاً، ثم يجادل عن دينه بالباطل، ويتهمُ أئمة أهلَ السنّة بصنوف التُّهم، ويشقّ على الناس أمرَ دينهم فيما لاتهواه نفسه، ولايدركه عقله، والنبي ﷺ يقول:
“إنَّ هذا الدينَ يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غَلَبهُ، فسدِّدوا وقارِبوا وأبشِروا ويسِّروا” – صحيح النسائي – واسألِ اللهَ دائماً الهدى والسداد، والتوفيق والرشد والثبات، فهو من الله وحده { یُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَفِی ٱلۡـَٔاخِرَةِۖ وَیُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِینَۚ وَیَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا یَشَاۤءُ } وادعُ الله دائماً: { رَبَّنَاۤ ءَامَنَّا بِمَاۤ أَنزَلۡتَ وَٱتَّبَعۡنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِینَ}.