أحكام تعامل المسلم مع غيره من القضايا التي أخذت حظها في تراث سلف الأمة رضوان الله عليهم، إلا أن إبرازها في الواقع الحالي له اعتباراته الخاصة نظرا للحاجة إليها في هذا الوقت وهو ما يعرف بــ: “السياقية” أو “ذات صلة” “relevantization” أو “contextualization؛ إذ إن بعض رواد تيار “أسلمة المعرفة” مثل الأستاذ محمد كمال حسن والأستاذ ممتاز علي وغيرهما يرون أن العلوم الإسلامية أيضا تحتاج إلى “أسلمة” العنصر الإنساني فيها – المرتبط بالمكان والزمان والأعراف – كذلك بخلاف العنصر الرباني القطعي الثابت، ومن ثم استبدِل مصطلح “أسلمة العلوم الإسلامية” بالمصطلحين أعلاه؛ بمعنى إبراز القضايا التراثية في سياق معاصر لحاجة المسلم إليه.
شمولية الأخلاق
نقرأ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وحديث “إنما أنا رحمة مهداة”، و”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” وغيرها من النصوص، فنجد أنها تدل على شمولية الأخلاق في الإسلام لكل جوانب الحياة بما في ذلك المعاملات، وأنها تدل على تكامل الأخلاق في الإسلام بما يشمل الكافر كما سنرى. فلا يمكن تخصيص الأخلاق في الإسلام بأنها جاءت مخاطبة للشخص المسلم فقط دون غيره، كيف ذلك؟
البر والقسط مطلب قرآني
أوجب القرآن المسلم على أن يكون مسلما حتى في تعامله مع مَن بينه وبينه بغضاء ومشاحنة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، فهي أمر بالتحلي بالخلق حتى في حالة الخلاف. ويقول تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) فالبر والقسط والأخلاق مطلب قرآني مع المخالف ما لم يقاتل الإسلام والمسلمين. ويؤكد ذلك قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ). فأمان غير المسلم مطلب قرآني للمسلم، وهو طريق أرجى لقبول دعوة الإسلام.
هذه نماذج من فقه تدين المسلم مع غيره:
– إطلاق مصطلح “حب” و”مودة” في القرآن على الكافر: في قوله تعالى (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) وحبيب النبي في هذه الآية هو عمه أبي طالب. وقوله (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) إشارة إلى احتمال القرابة اللاحق عن طريق التزواج والتوادد، فجوهر الأخلاق في التعامل.
– جواز زواج المسلم باليهودية والنصرانية: دليل على مسمى التعايش السلمي!
– تعامل النبي مع غير المسلم: دخل مكة بإجارة مشرك: المطعم بن عدي، واستأجر عبد الله بن أُريقط المشرك في الهجرة دليلا، وأرسل أصحابه إلى النجاشي النصراني طلبا للجوء، وتربى في كفالة عمه الكافر أبي طالب، وأمر سعد بن أبي وقاص أن يتطبّب على الكافر الحارث بن كِلدة. فالإشكالية ليس في الكفر حصرا، ولكن في الكفر حين يصاحبه اعتداء وإيذاء.
– المسجد النبوي الشريف منزل الوفود من الكفار: حيث أنزل النبي وفود مشركي العرب والنصارى في مسجده يأكلون وينامون فيه، واستقبل أكثر من ستين نصرانيا من وفد نجران فيه. ويرى الإمام الشافعي جواز دخول الكافر المساجد إلا الحرم المكي.
– زيارة المسلم الكافر وضيافته إياه: زار النبي غلاما يهوديا لما مرض، وزار عمه أبا طالب في مرضه، وبوب البخاري بــ إعادة المشرك، وسرد في ذلك أحاديث. وقد أمر النبي أسماء بضيافة أمها المشركة ووجوب صلتها.
– تلبية المسلم دعوةَ الكافر: ورد في صحيح مسلم أن النبي أجاب دعوة جاره المجوسي (فارسيا) إلى طعام، وأحضر معه زوجته عائشة رضي الله عنها.
– تبادل الهدايا بين المسلم وغير المسلم: قبِل النبي عليه السلام هدايا من ملوك الأعاجم، كما قبل هدية سلمان الفارسي لما قدم المدينة وقبل أن يسلم، وأُهدي إلى النبي جارية وحلة يمانية من غير مسلم، كما أرسل النبي بهدية إلى النجاشي قبل أن يسلم. وروى الطبراني أن عبد الله بن عمرو ذبح شاه وأخرج لجاره اليهودي نصيبا وقال أن الرسول وصّى بالجار! وأمر النبي أسماء بقبول هدايا أمّها لما ترددت في ذلك، وفيها نزلت آية: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا ).
– الأمر بالصدقة على الكافر: روى النسائي والحاكم والبزار والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فسألوا فرخص لهم فنزلت هذه الآية (ليس عليك هداهم).
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن النبي ﷺ كان يأمر أن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام، فنزلت: (ليس عليك هداهم) فأمر بالتصدق على كل من سأل من كل دين.
وجاء في مصنف ابن أبي شيبة في باب الصدقة في غير أهل الإسلام: قال رسول الله ﷺ : لا تصدقوا إلا على أهل دينكم ، فأنزل الله تعالى : {ليس عليك هداهم}، إلى قوله : {وما تنفقوا من خير يوف إليكم} ، قال : قال رسول الله ﷺ : تصدقوا على أهل الأديان. والحديث في المستدرك وإسناده صحيح ولم يخرجاه. وهذا متفق مع: “ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا” فكل محتاج يعطى.
– صون حقوق المعاهد والذمي: المعاهد هو غير المسلم الذي وافق المسلمون على أن يزور الدولة الإسلامية ويعيش فيها لفترة، بينما الذمي هو غير المسلم الذي يعيش في المجتمع الإسلامي. وقد حث النبي على حفظ دماء هؤلاء الفئات غير المسلمة وأموالهم!
وفي ضوء هذه المعاني الخلقية، نستنطق الآيات التي وردت في مجال الدفاع والذود عن أوطان المسلمين، وفي إطباق الرقابة على الأمن القومي، وتنظيم الحروب لصد الغارات الخارجية، فهي تقنن للخطة الدفاعية، ويمكن أن يطلق على هذه الآيات أنها (آيات وزارة الدفاع، والشرطة، والأمن القومي)، وتفهم الأحكام الجزئية التي رافقت ذلك كله مثل: قوله تعالى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)، والتفسير المؤامراتي (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) ..
فإن هذه الآيات التي تقنن مبادئ الدفاع تنطبق على المبادرات الاستباقية للحرب والخيانة القائمة أو المتوقعة، وذلك من أجل الحفاظ على الدين (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ)، ولا يقبل تعميمها على الأوضاع العادية التي يسود فيها السلم والاستقرار، كما لا تقحم مجردة في مجالات التعليم، والعلاقات الخارجية، والسياسية، وإنما يناسب هذه الحالات أخلاق المسلم التي سبق ذكرها، وهذا الذي يضمن هدف المسلم في الوجود، ويحقق رسالته التي هي خير ورحمة وبشارة لكافة الناس.