ذهبت قبل سنوات إلى الى طبيب العيون، فحص الطبيب بصري فرأى فيه ضعفاً يسيراً، فوصف لي نظارة!

 

لا أزال أتذكر دهشتي من ذلك الوضوح الذي غدوت أبصر به الأشياء بعدما أضفت تلك النظارة إلى وجهي! كما لا أزال أتذكر أني أصبت مرةً في قدمي إصابة جعلتني أعتمد على عصاً لبضعة أسابيع، كانت العصا -كما كانت أختها النظارة- جهازاً تعويضياً، أعانني حين عانيت من بعض القصور في قدمي.

حسناً، الذي ذكّرني بالنظارة وبالعصا هو خبرٌ قرأته عن الفقيه الشيعي علي الشاهرودي (المتوفى سنة ١٤٠٥)، والذي أصيب في أواخر أيامه بالصمم؛ فلم يمنعه تعطل أذنه عن السمع ولسانه عن الكلام من مواصلة التدريس، إذ كان الطلاب يكتبون له مواضع الإشكال؛ فيحل لهم تلك الإشكالات كتابةً في أوراق منفصلة. وهكذا اعتبر الشاهرودي الكتابةَ جهازاً تعويضياً، يواصل به التدريس والإفهام بعدما تعطل اللسان وذهب السمع.

وقادني التأمل إلى أن الكتابة جهاز تعويضي سحري يتخطى به الناس كثيراً من الإعاقات التي تعتورهم في هذه الحياة!

فالكتابة تعوّض كثيراً عن إعاقات الذاكرة وغدرها الذي لا يقتصر على النسيان؛ بل يتجاوزه إلى التحريف والتأويل والاختراع، على نحوٍ مرعب تناولته الأبحاث الحديثة التي أكدت أن الذاكرة لا يمكن أن يوثق بها في أحيان كثيرة، وأنها تمتزج بالخيالِ فتصنع للماضي نسخاً تتعدد بتعدد الرواة، بل بتعدد أحوال الراوي الواحد.

ولذا كان الناس في حاجة إلى توثيق معاملاتهم وعقودهم واتفاقاتهم وديونهم، وقد جاءت أطول آية في القرآن الكريم بالأمر بكتابة الديون الموقوتة بآجال محددة: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه).. وفي الآية ذاتها تأتي الوصية الربانية: (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله، ذلكم أقسط عند الله، وأقوم للشهادة، وأدنى ألا ترتابوا).

ويعرف من يتعاطى الكتابة أن الأفكار تأتي وتذهب، وأنها إذا لم تقيد بالكتابة ضاعت، وقد أحسن ابن الجوزي حين عبر عن هذه الحال في مقدمة كتابه “صيد الخاطر” إذ قال: “لما كانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها، ثم تعرض عنها فتذهب، كان من أولى الأمور حفظ ما يخطر لكي لا يُنسى، وقد قال عليه الصلاة والسلام: “قيدوا العلم بالكتابة.

وكم قد خطر لي شيء، فأتشاغل عن إثباته، فيذهب، فأتأسف عليه! ورأيت من نفسي أنني كلما فتحت بصر التفكر، سنح له من عجائب الغيب ما لم يكن في حساب، فانثال عليه من كثيب التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه، فجعلت هذا الكتاب قيدًا لصيد الخاطر”.

ولئن كانت الثقة بذاكرة الإنسان الواحد مهتزةً، فإن الثقة بذاكرة الأجيال المتلاحقة تهتز أكثر وأكثر، ولئن كانت الإعاقات التي ورد ذكرها في صدر هذه المقالة فادحةً فإنها تهون حين تقارن بالموت، الذي تنطفئ به حيوات الناس جيلاً من بعد جيل، فلا يكاد يبقى في الأرض من تراث السالفين وخبراتهم وأحلامهم ووقائع حياتهم إلا ما حفظته الأقلام مكتوباً أو مرسوماً أو منقوشاً، أما ما تنقله الذاكرة فيُخلق في الخيال خلقاً آخر من مبدأ السند إلى منتهاه، ويصير أقرب إلى الأساطير التي يتفكه الناس بها في ليالي السمر.

ولنتخيل كيف سيكون تراكم المعرفة، وتوثيق الوقائع، وتدوين العلوم، لوأن الناس زهدوا في القلم.. فصار كل صاحب علم أو رحلة أو حرفة، يموت علمه بموته، وتذهب تجاربه بذهابه! وهذا كان القلم، هذا الكيان الضئيل، والورق، ذلك الشيء الرقيق الهش، أدوم في الأرض وأطول عمراً من الإنسان مهما فرع طولاً وبَعُد ما بين منكبيه عرضاً.

ولذا كان العلماء السالفون يقولون: “كتاب العالِم ولده المخلّد”، الذي يبقى بعد فنائه، وينتشر فوق الأرض في الحين الذي يرقد فيه صاحبه تحت التراب بانتظار قيامته!

يقول الجاحظ: “كم من بيت شعر قد سار، وأجود منه مقيم في بطون الدفاتر لا تزيده الأيام إلا خمولاً، كما لا تزيد الذي دونه إلا شهرة ورفعة”، وهذا قول صحيحٌ، لكن الحال قد تتغير أحياناً بعد مضي الزمان؛ فكم من مصلح لم تظهر قيمته الحقيقية للناس إلا بعد رحيله.. وهذا من فضل الكتابة على الكاتب؛ فهي تمنحه فرصةً طويلةً بطول عمر البشرية من بعده، يتاح له فيها أن يؤثر، ويغيّر، ويبني -أو يهدم- في دنيا الناس، وتمنحه فرصة محتملة لنيل الانتشار والشهرة بعد أن يغادر هذه الحياة ولو لم ينل كثيراً من الحظ بالشهرة في أثناء حياته.

إن الكلمة المكتوبة قد تنام طويلاً، ولكنها ربما استيقظت فعوضت صاحبها عن عمره الذي انتهى أو صيته الذي لم يذع، وتجعل أثره أطول من أيامه وأدوم من أنفاسه.

وليست الكتابة عوناً للإنسان على تجاوز إعاقاته المزمنة وحسب، بل هي كذلك بلسمٌ يعالج المرء من أدواء نفسه، ويخفف من جراحاته النفسية، كما أنه وياللعجب، بلسمٌ يساعد في علاج أوجاع البدن! وقد طالعت تقريراً في موقع بي بي سي، وردت فيه خلاصات تجارب علميةٍ دلت على الأثر الجيد للكتابة في صحة الإنسان: فقد أفادت إحدى التجارب التي أجريت في ثمانينيات القرن العشرين أن الكتابة عن الأوقات الصعبة التي مرّ بها الإنسانُ تساعده في التعافي النفسي من تلك الصعوبات التي مرت به، كما أنها -وياللعجب العاجب- تجدي في تقوية جهازه المناعي! وتؤثر تأثيراً ملحوظاً -وإن كان محدوداً- في أمراض مثل الربو والتهابات المفاصل وسرطان الثدي وغيرها.

ويقول التقرير كذلك: “وقد طلبت كافيتا فيدارا، الباحثة في جامعة نوتنغهام، وفريقها في نيوزيلندا، من 120 متطوعا سليما أن يكتبوا عن تجربة مؤلمة، أو كيف أمضوا اليوم السابق، وذلك قبل أو بعد أخذ عينة دائرية من الجلد من أعلى الذراع. وخلصت الدراسة إلى أن احتمالات التئام جروح المتطوعين في المجموعة التي مارست الكتابة التعبيرية بعد ذلك في غضون عشرة أيام فاقت بستة أضعاف احتمالات التئامها في نفس المدة لدى المتطوعين في المجموعة التي مارست الكتابة المعتادة.”

 

هذه بعض أفضال الكتابة، وحسب هذه المقالة أن تكون قارورة عطر لا يسعها اختصار الربيع، ولكن يسعها أن تشير إليه وتقدم منه عينةً ماتعةً.