يحدث كثيراً أن تقرأ لكاتبٍ لم تسمع به، فيبهرك حسن بيانه، وتطربك قدرته على التعبير المجيد عن مكنونات النفس، وبراعته في اللعب بالحروف والكلمات وعلامات الترقيم، ويبلغ منك مكتوبه ما لا يبلغُه نص آخر.. ثم تتساءل في نفسك: لماذا لم يبلغ هذا الكاتب من الشهرة ذلك المبلغ الذي يستحقه ما دام قلمه على هذا النسق الفاخر، وما دام مكتوبه يلامس وجدان من يقرأ، ويكهرب قلب من يطالع؟!
هذا تساؤل يشبه كرة الثلج، لأنه يجر إلى تساؤلات كثيرة حول تلك العلاقة بين الكاتب والشهرة، فالأمر ليس سهلاً ولا يمكن اختزاله. ولعل في هذه المقالة محاولةً للإجابة لا أملك إلا أن أجعلها محاولة منقوصة، ليس الهدف منها أكثر من فتح المزيد من الأبواب أمام مزيد من التفكير..
ولعل من النافع أن نستحضر هنا تفريق العقاد بين الشهرة وبين درجتين ملابستين لها: الضجة، والتقدير! فالضجة التي يثيرها الكاتب هي أن يظل اسمه مألوفاً في آذان كثير من الناس، دون أن يعرفوا ماهية علمه أو حقل اختصاصه، والشهرة -وهي رتبةٌ أعلى- هي ذيوع الاسم مع اقترانه في أذهان الناس بصنعةٍ أو موضوع اهتمام، والتقدير -وهو الرتبة الأعلى- هو أن يحظى الكاتب بمن يعرفه جيداً، ويستطيع تقويم ما يفعله ووضعه في ميزان النقد.
ونصيب كل كاتب من التقدير أقل من نصيبه من الشهرة، ونصيبه من الشهرة أقل من نصيبه من الضجة، وإنما يعوّل الحكماء على التقدير أكثر من تعويلهم على ما عداه، ولسان حال الواحد منهم:
إذا رضيت عني كرام قبيلة ** فلا زال غضباناً عليّ لئامها!
لكن عدم التعويل على الشهرة لا يعني الاستهانة بمنافعها الجليلة التي تجرها على الكاتب، ومنها: أنها تتيح له فرصة أكبر للخلود بعد ذهابه من هذه الدنيا، وتفتح له أبواباً كثيرة لإيصال رسالته، لا يمكن أن تفتح أمام كاتب مغمور لا يعرفه إلا أصدقاؤه المقربون، كما أنها تجعله أقرب إلى السعة في المال والعلاقات، والثراء في العلاقات الاجتماعية، والنفاذ إلى قلوب وعقول الكثير من الناس، والإسهام في خدمة قيمه التي يؤمن بها، أو هدم تلك الأخرى التي يكفر بها.
ولكن هذه المنافع ليست شيئاً أكيداً (فكم من اسم ذائع وصاحبه مفلس)، والوصول إليها ليس هيناً، فهي الشهد الذي لا بد دونه من إبر النحل! فشهرة الكاتب تنتج من المحبين والمغرمين بمقدار ما تنتج من المبغضين والشانئين، بالإضافة إلى أطراف محايدة ومتأرجحة.. وكل أولئك يخدمون “حالة” النجومية.. يمدحون ويقدحون فتزداد النار اشتعالاً، وحين يغدو الكاتب نجماً، يتخلى عن اثنين:
– حريته: إذ تتفتح عليه العيون في المسجد والمقهى والسوق ويعيش تحت الرقابة الدائمة.
– والحصانة التي يحصل عليها الإنسان الطبيعي ضد الأذى المعنوي الذي يتعرض له النجوم عادةً، وهو أمر لا يحتمله كل أحد!
وهذا يجرّ إلى الحديث عن “مؤهلات” الشهرة بالنسبة للكاتب، وهي -مع كل أسف- نصف عقلانية، ونصف يقينية، ونصف منصفة! فالشهرة في أحيانٍ كثيرة: رزقٌ -وإن شئت: بلاء- يهبط على المرء دون سبب معقول، ولا مسوغ منطقي!
ولكنها في العادة نتيجة لمقدمات كثيرة: أهمها: القدرة على الإنتاج على نحو كثيف، فنارُ الشهرة تغذيها أعواد صغيرة من الكتابة، والإنتاج المنتظم، وللانتظام في الإنتاج والجلد عليه أثرٌ ضخم في دفع الكاتب إلى مصاف المشاهير، وهو أثر يفوق أثر القدرة الكتابية الخارقة التي لا يوازيها ما يكفي من الجلَد! وهذا الجلَد على الكتابة هو الفارق الوحيد في أكيان كثيرة بين الكاتب والقارئ الذي يطالع نصوصه!
ومنها: القدرة النفسية على خوض اللعبة الاجتماعية التي يلزم الكاتب خوضها، إذ يحتاج الكاتب ليبلغ منزلة عالية من الشهرة إلى مؤهل اجتماعي مضاف إلى مؤهله الفني أو الفكري، هذا الموهل يتضمن القدرة على كسب قلوب “المتنفذين” في الحقل الثقافي، الذين يتيحون له زوايا الصحف، ومساحات الكتابة في المواقع الإليكترونية، ويفتحون الباب لطبع إصداراته وتوزيعها على نحو جيد، ويسهلون له مهمة الظهور الرعلامي المتكرر، وصعود منصات الخطابة والندوات والمؤتمرات والفعاليات الثقافية والنقدية المختلفة.
وحين يعجز كاتبٌ ما عن امتلاك هذا المؤهل؛ يعجز عن دخول عالم الشهرة، ويذكر “وديع فلسطين” في كتابه الماتع عن أعلام عصره، مثالاً على هذا اللون من الأدباء البارعين فنياً، والفاشلين اجتماعياً.. يتمثل في “إبراهيم المصري” الذي لم يستطع -على الرغم من براعة قلمه وعذوبة أسلوبه أن يخوض اللعبة الاجتماعية في القاهرة كما ينبغي، فلم تفلح مجلاته الثلاث التي أصدرها في العيش طويلاً، ولما تولى تحرير مجلة “الهلال” لم يقو على أعبائها الاجتماعية الكثيرة ولا على نمط الخلطة الكثيفة بالنخبة، فاتخذ له داراً في طرف القاهرة، ولم يعد يستقبل الضيوف ولا يحفل بالزيارات، وجنى على نشاطه الأدبي فكان ينشر كتبه على نحو يجعلها تسرع إلى النفاد ثم يتعسر الحصول عليها بعد أن تنفد فيصعب على الناس أن يعثروا عليها إلا بشق الأنفس!
وخلاصة القول لمن يود أن يبلغ الشهرة في عالم الكتابة: البراعة الفنية وحدها لا تكفي، كثرة الإنتاج لا تكفي، لا بد من فطنةٍ وقدرة على تدبير الأمر، وهو أمر يقوى عليه بعض الكتّاب، ويستعصي على بعضهم فيحتاجون معه إلى من “يدير موهبتهم” ويحتال لهم!
والمعوّل في النهاية على حسن الأثر الذي يتركه الكاتب من ورائه، جعلنا الله من أهل الأثر الطيب في الدنيا، والعاقبة الطيبة في الآخرة.