في الكتاب العميق السهل “كليلة ودمنة”، يخور ثورٌ سمين قرب الغابة؛ فيضطرب ملك الغابة ويلزم عرينه خوفاً؛ فيسليه دمنة بقوله:
“زعموا أن ثعلباً أتى أجمةً فيها طبل معلق على شجرةٍ، وكلما هبت الريح على قضبان تلك الشجرية حركتها، فضربت الطبل فسمع له صوتٌ عظيمٌ؛ فتوجه الثعلب نحوه لأجل ما سمع من عظم صوته؛ فلما أتاه وجده ضخماً، فأيقن في نفسه بكثرة الشحم واللحم. فعالجه حتى شقه. فلما رآه أجوف لا شيء فيه، قال: لا أدري لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتاً وأعظمها جثةً. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن هذا الصوت الذي راعنا، لو وصلنا إليه، لوجدناه أيسر مما في أنفسنا”.
لربما سألت: ما لنا وللثور والثعلب والطبل والأسد؟ لا تعجل علي وانتظر قليلاً.
منذ زمنٍ ليس بالقصير، يأسرني النص السهلُ العميق، الذي يأتي في لغة واضحة كالشمس، وبألفاظ متداولةٍ مطروقةً، ولربما شعر سامعه أو قارئه أن بوسعه أن ينشئ مثله، لكنه يفاجأ بأن ذلك المكتوب السهل يحمل -على رشاقته وخفته في الورق والعين، واللسان والأذن- أبعاداً لا نهائيةً، فهو مثل غرفة ماءٍ تبدو بعد قليل من التأمل بحراً زاخراً، وهو مثل زهرةٍ يبدو أن بوسع شذاها أن يلخص الربيع كله!
ويرجع سر إعجابي إلى هذا اللون “السهل العميق” من النصوص إلى أكثر من سبب:
فالقدرة على الوصول إلى مرامي بعيدةٍ من المعاني العميقة بألفاظٍ يسيرةٍ رائقةٍ، عملٌ بارعٌ، تتجلى فيه البراعة أكثر مما تتجلى في الحديث الذي يبدو -لفرط فخامته وجزالته- معجزاً، يطالعه القارئ، أو يتلقاه السامع، وهو إلى الانبهار بالهالة المحيطة بالقول أقرب منه إلى التعاطي معه.
ذلك بأن من الطبيعي والمعقول جداً أن يكتسب الحديث العميقُ قدراً من الوعورة، وأن يحتوي على شيء من التعقيد، لأنه يتناول بطبيعته مجالاً يتجاوز البداهةَ، وأحياناً كثيرةً يتجاوز متوسط الوعي لدى الجمهور الأوسع من الناس، فلا يهتم به أو يلتفت إليه إلا نخبةٌ من الناس قد تلقت تأهيلاً عقلياً ومعرفياً خاصاً: إما بالتخصص المعرفي الذي يجعل صاحبه ملماً بمصطلحات حصريةٍ لا تتداول كثيراً خارج حقله المعرفي، أو بالاهتمام الجاد بصنوف من المعرفة بعيدةٍ عن المعهود من أطر الثقافة العامة أو الشعبية.
وكثيراً ما وجد بعض الباحثين أنفسهم واقفين على مفترقٍ يودي إلى وجهتين: إما الحديث إلى النخبة، أو الحديث إلى العامة، ووجدوا أنفسهم مضطرين إلى الانصراف التام عن إحدى الفئتين لصالح الأخرى.
لكن في الناس من يستطيع تجاوز هذه المعضلة، فيجمع في نصوصه بين العمقِ في المعاني والسهولة في المباني.. وهذا أمر لا يطيقه كل أحد، من أهل القلم ومن أهل المنبر.
وسببٌ آخر، يجعلني أحب النصوص العميقة السهلة: هو أنها أقرب إلى المزاج العربي الأصلي، وأدنى إلى النسق النبوي في الكلام، الذي يحمل في غالبه طابع السهولة البالغة والوضوح الألِق، لكنه في ذات الوقت يحمل مضامين عميقةً للغاية، فينهل كل من يقرؤه أو يسمعه منه بقدر ما يطيق، وبقدر ما تتسع له آلته العقلية وأوعيته الفكرية.
وإذا رجعنا إلى معنى “العمق” في استعمال العرب الفصحاء وجدناه يدور حول البُعدِ، فالطريق بعيدُ النهاية يوصف بأنه عميق، والبئر بعيدة الغور تنعت بأنها بئر عميقة، والرجل الذي يتحدث فيغالي في حديثه ويفخّمه ويكثّره ويستعرض به يقال عنه إنه “تعمّق” في كلامه، وهو وصف ذميمٌ في العرف العربي القديم، ويشاكله الوصف بالتفيهق، وهو من الأوصاف التي تطلق على المتبخترين المتكبرين.
والحقيقة أن الوصف بالتفيهق ينطبق على كثير من الكتاب والمتحدثين في أيامنا هذه، الذين يحاولون البرهنة على رقيهم في سلم الوعي والفكر بالإغراب في الكتابة وتشقيق المصطلحات الغامضة لغير سبب معقول -عدا الظهور في مظهر خاصةٍ ذوي فهم وعمق- ومن المتعارف عليه أن من المنطقي والطبيعي -والصحيح غالباً- سلوك أيسر السبل الممكنة إلى التعبير عن الفكرةِ ما دام اليسير ممكناً، لكن من يقنع هولاء الـ عمقى!
وقد يحسب البعض أن النصوص السهلة غير المعقدة ولا المتقعرة -التي يعبر عنها اليوم بالنصوص البسيطة- نصوصٌ سطحيةٌ ولا بد، وهذا غلطٌ شائع مثل غلط من يحسب أن الكلام الوعرَ كلامٌ عميق بالضرورة، وقد سبق أولئك جميعاً إلى ذات الوهمِ ذلك الثعلبُ الذي بدأت المقالة بذكر حكايته مع الطبل.
وليس من الملائم أن أختتم هذه المقالة دون أن أشير إلى بعض مظانّ النصوص التي نجحت في الجمع بين عمق المعنى وسهولة المعنى.. فإن المرء يجد هذا اللون من النصوص في كثير من الأحاديث النبوية الشريفة، فقد أخبر النبي ﷺ عن نفسه فقال: “أعطيت مفاتح الكلم”، وفي رواية أخرى: “أعطيت جوامع الكلم“، ومعناه كما يرى الإمام ابن شهاب الزهري: أنه ﷺ كان يتكلم بالقول الموجز، القليل اللفظ، الكثير المعاني.
ويجد القارئ في دواوين الأدب وأخبار العرب كثيراً من القول السهل الضئيل القليل بحساب العد، العميق الضخم في نظر الوجدان والعقل.. كما يجد في الشعر كثيراً من الأبيات التي يقوم الواحد منها مقام مؤتمرٍ كثير بالكلام الخفيف!
كما تحفل الأمثال والحكم والمقولات السائرة في مختلف الأمم بصنوف كثيرة من الجمل العميقة، وكذلك الأمر في الكتب التي سلكت مسلك ذكر الحكايا على ألسنة الحيوان، وبعض تأملات فلاسفة التصوف، ولدى طائفة من الروائيين والأدباء، ويحدث عند قراءة السير الذاتية أن يعثر القارئ بنصوص في غاية العمق تكاد تكون قياساً إلى جملة الكتاب مثل الراحلة من الإبل، لا تكاد تجدها من بين مئة ناقة ذات سنام مهول!
والعمقُ مركبٌ من غامض من مكونين: بصيرة نفسية أو روحية نافذة، وقدرة بلاغيةٍ طاغية، قد تكون طارئة كالعارية المستردة، وقد تكون هبةً سماويةً تعيش مع القائل/ الكاتب ما عاش، ثم تخلد بعده ما دام في الأرض قارئ يطلع عليها فتدهشه كما أدهشت من قبله من لا يعد ولا يحصى.