في أيامنا هذه انكسر الحجاب الذي كان يصد معظم الناس عن الإمساك بالقلم وخوض تجربة الكتابة، ولم تعد الكتابة شأناً نخبوياً كما كان الحال طوال تاريخ البشر الذي ظلت الأمية واحداً من مكوناته الأساسية في عامة البلدان.. وكانت القدرة على القراءة والكتابة أمارة على انتماء صاحبها إلى النخبة، التي قد تكون نخبة مقدسة وشبه مقدسة: كالكهنة ورجال اللاهوت، أو مجتمعات فريدة في محيطها، كما كان المجتمع المكي فريداً بكثرة المتعلمين وسط أمة أمية.

وفي مطلع القرن العشرين كانت نسبة الأمية في العالم العربي سبعاً وتسعين في المئة، والعهدة على محمد كرد علي في مذكراته.. قبل أن يضيف قائلاً: “كنت أرى من التوفيق العظيم إذا طبعت الكتاب ورُدّت علي نفقاته فقط بعد سنين، أو نشرت مجلة أو جريدة وما خسرت شيئا يذكر على نشرها. ذلك لأني أقدر الحال والموقع، وأعرف أن من يقرأ الكتب والصحف في أمتي لا يتجاوز بضعة الألوف، في حين يعد من يقرؤون الكتب في الأمم الكبرى يعدون بمئات الألوف. وما توقعت ربحاً مما كتبت ونشرت قط!”.

كان القراءُ -فضلاً عن الكتاب- يعدّون نخبةً قبل نحو قرن واحد من الآن، ولكن الحال اختلفت اليوم، فصار الأميون في بلادنا العربية أقل من القراء، وصار حمى الكتابة مباحاً لكل من يمتلك الجرأة..

ولأن الإقدام على الكتابةِ قبل امتلاك أدواتها صار ظاهرةً في أيامنا هذه؛ فإن من الطبيعي للغاية أن نشهد ظاهرة يمكن أن نسميها “الكاتب التائه”، الذي يخوض بحر الكتابة فيضيع الشاطئ، أو يتمشى في غابة القلم فيتوه بين الأشجار.. ويغدو عاجزاً عن تحديد موضعه، وعاجزاً عن تحديد اتجاهه في عالم الكتابة، وعاجزاً عن دلالة نفسه على الطريق الذي يهدي إلى كتابةً محترمة مثمرة.

وهذا العجز المركّب ليس إلا ثمرة الجهل المركّب الذي يمكن تسميته “وهم المعرفة”، والجهل المركّب هو ألا يدري المرء ولا يدري أنه لا يدري! والحقيقة أن اللوم بشأن وهم المعرفة لا يتوجه بالكلية إلى الكاتب التائه بقدر ما يرجع إلى الهيئة التي تتبدى بها لنا شبكة الإنترنت؛ فهي بحر موارٌ فيه فوائض خيالية من المعلومات، وهي مصممة بحيث تشتت ما انتظم من دماغ الإنسان وتزيد المشتت شتاتاً، ولذا فإن من الشائع جداً في عالم اليوم أن يفتتح المرء الحديث في كل موضوع ممكن وغير ممكن، ويخطو خطوتين في السكة ثم يقف حماره في العقبة!

كل كاتب تائهٍ قارئ تائه بالضرورة، يمتلك الكتّاب التائهون ركاماً هائلا من المعلومات المتناثرة التي لا تثمر علماً، ولكنها تعطي إحساساً كاذباً بالامتلاء، وتشجع على التصدر، وتبث الثقة في الواحد منهم فيمتشق قلمه ويمضي، فإذا هو ملء السمع والبصر والشم!

في قرارة نفسه، يدرك الكاتب التائه أنه تائه! فهو يشعر بالعجز عن استجماع تفكيره في شأن واحد، ويشعر بالنقص حين يجالس من هم أكثر منه اطلاعاً، ويشعر بضحالة ما عنده من المعرفة حين يوضع في سياقٍ يضطر معه إلى الاسترسال والتفصيل.

ولكن الكاتب التائه يمر بمرحلةِ صدمة وإنكار! يضطرب تفكيره، يشعر أن الكرة الأرضية تحولت إلى متاهة هائلة لا يستطيع النفاذ منها، ويصيح فيرتد الصدى: “لا نجاة! لا نجاة!”.

وكما يفعل التائهون في البرّية يصنع الكاتب التائه، يدور حول نفسه دون أمل بالتقدم، يطالع كتاباً إلى ربعه، ومقالة إلى نصفها، وثمانين تغريدة كاملة في ثمانين بابا من أبواب العلم أو اللغو، أو يلجأ إلى محاكاة مثلٍ أعلى، فيمضي وراءه، ويسلك دربه ما استطاع، لولا أنه -في نقطة ما- يتوه ثانية، ويتشتت عقله وراء حادثة طرأت، أو فكرة طريفة عنّت له!

وربما يمشي بعشوائية، كما يصنع إنسانٌ خرفٌ لا يتذكر الاتجاهات ولا يدرك الماضي من المضارع، على أمل أن يصطدم في طريقه بلوحة إرشادية أو يصادف رفيقاً ذا بصر بالطريق، يتزلج في تيهه، يلتقط معلومة من هنا وأخرى من هناك، كمايفعل الباحثون عن “الفقع” في الصحراء، وتتعدد الطرائق التي يسلكها الكاتب التائه في سبيل الوصول إلى دربٍ معقول، لكن النجاة ليست النتيجة الحتمية مع كل أسف.

بوسع الكاتب التائه إن أراد النجاةَ أن يفعل ما فعله الشيخ محمد الغزالي حين شعر بعد تخرجه في الجامع الأزهر وتوليه الخطابة أن خزائنه من العلم قاربت النفاد وأنه لم يعد لديه جديد يقوله للناس، فأعاد نفسه من جديد إلى وضعية “طلب العلم”، وزعاد اختراع عجلته الخاصة؛ فأخذ يقرأ في دأب وتركيز، ويلقى العلماء فيدرس عليهم، ويتتبع العلم من مواضعه حتى امتلأت خزانته ونجا من التيه!

وبوسع الكاتب التائه أن يتتبع آثار من سلف من الكتاب في قديم الزمان وحديثه، وشرق الأرض وغربها، بمطالعة سير الكتّاب ثم العزم -بجد وصدق- على الاقتداء بأحدهم ممن يرى كفايته وجدارته.

وبوسع الكاتب التائه أن يسأل نفسه بصدق سؤالين كفيلين بتبيان واقعه أمام عينيه: “كيف أرى نفسي؟ وكيف أرى العالم؟” ثم ينظر كل سبيل يمكن به أن يطور نظرته إلى نفسه وإلى العالم فيسلكه مهما كانت الضريبة: تغييراً لنمط العلاقات الشخصية، أو تخلصاً من إدمان الإنترنت، أو مجالدة للنفس ومجاهدة للملل قبل الانصراف عن قراءة كتاب، أو انسحاباً من المشهد إلى حين، أو غير ذلك مما قد يحتاج إليه من أراد النجاة من التيه!

والله يهدينا ويهدي من يشاء إلى ما يحب.