لا دين على وجه الأرض، (إسلامه يهوديه، نصرانيه، سيخه بوذيه، وهندوسه..) ولا فلسفة، ولا نظرية، ولا أيديولوجية، ولا مذهب من المذاهب الإنسانية؛ المعاصرة منها والتراثية، إلا وقد رفعت راية العِلم، وهتفت بمنزلة العلماء، بل وأعطى بعض الأديان للعلماء قداسة تقرب من قداسة الرب بدرجة أو تحل فيه بعد فترة (الأحبار والرهبان والتقليد)، كيف لا وهم الوساطة بين الرب وخلقه في شرح مراد الله، والاجتهاد في النوازل دون العامة. والنتيجة البسيطة التي تستخلص من هذا هي أن العلم مهم في حياة الإنسان فطرةً؛ فهو الفيصل بينه وبين غيره من المخلوقات المتنفسة. وبعملية العلم يُعمل الإنسان آلة الفكر عنده لإدراك ما يجهل، فيُنتج له عقلُه ما يحسن به معاشه من ضروريات الحياة وحاجيتها وتحسينياتها ووجوه زينتها، وبهذا يطور العلم للإنسان أساليب حياته، وينحو به نحو العلى والكمال في الظاهر (حضارة).
العلم: نقلي وغير نقلي
ثم إن العلم أشكال وألوان، منه ما يُهتدى إليه بعد فكر وسماع، وتأمل وطول ملاحظة وتجربة، ومنه ما يُحصل عليه من وراء الغيب؛ ولكل منهجه وطريقته، والعقل هو الوسيط والجامع بينهما على مستويات، فقد يلتقي المنهجان وقد يفترقان! فالعلم تجريبي ونقلي؛ التجريبي يستوي في تحصيله الناس أجمعون، والنقلي هو وحي وإبلاغ من مقام يسمو على الإنسانية وطبيعة خلقته، وقد يحاول كل قسم من القِسمين التمازج مع الآخر حينا بجامع العقل، أو السيطرة حينا في البحث عن ما الأصل وما التابع. ولا أرى نزاعا في كون العلم طبيعيا ووحيا من حيث الواقع، لكن الخلاف في ما الأجدر أن يسوق مجرى الحياة؛ فالإيمانيون (يهودا كانوا أو نصارى أو حنيفيون) يرجحون الوحي، والماديون (ومن نحى نحوهم من أنصاف الإيمانيين) يقولون الطبيعية، وطائفة تحاول الجمع بفلسفة ما!
ويمكن القول بأن العلوم التجريبية كلها علوم تُطلب لتيسير أمور الحياة ولاستعمار الأرض، وتلبية حاجيات الإنسان، فيخلق له رغد العيش ويزخرف له الحياة؛ فهي علوم منفعة، وعلوم مصلحة؛ تطلب لا لذاتها بل لغيرها. أما العلوم النقلية أو علوم الوحي فعلى العكس؛ فهي لا تطلب لغيرها؛ بل لعل الأصل أن تطلب لذاتها! إلا أن من الممكن أن تستخدم العلوم النقلية على خلاف الأصل؛ فتكون علوم منفعة ومصلحة؛ وتنقلب الموازين بهذا، بحيث تطلب لغيرها لا لذاتها! كما أنه من الممكن تحويل النية في العلوم التجريبية وربطها بابتغاء مرضاة الله!
وظيفة العلم
هذا، وإن الروايات المختلفة لمقولة: “الإنسان مدني بطبعه” أو “الإنسان اجتماعي بطبعه” أو “حيوان اجتماعي”، لا أراها إلا منصبة على القسم الأول من العلوم، ألا وهي العلوم التطبيقية. فقديما عمل الإنسان في صناعة الحديد وتعلم كيف يسخره لنفسه بوجوه مختلفة من المنافع، فعرفت المهنة بالحدادة أو النجارة، ويدرس حاليا باسم الهندسة بمختلف فروعها، كما عني الإنسان بفلاحة الأرض وحصد محصولها؛ للأكل والعلف. واهتم الإنسان بالنبات والأعشاب والغذاء، وبالملبس والمسكن والمأوى، إلخ ما هنالك، وهي أمور قديمة، إلا أن من الملاحظ أنها تطورت على قوالب علم، فقُعدت لها وصنف لها الكتب، وفتحت التخصصات والمعامل لها، وها هو يتقدم بحسب التطور والحضارة، ما يبين من جهة أن الإنسان محتاجٌ غيره ليكتمل به، فيقوم بجزء ويقوم الآخر بجزء آخر، ومن هنا فهو اجتماعي بطبعه. ومن جهة أخرى حرص الإنسان على الاستفادة من خبرات غيره والرقي بمستوى الحياة من مرحلة إلى أخرى، ومن هنا اهتم بالعلوم التطبيقية أو التجريبية؛ فقُننت، وما هي عنك ببعيد في هذا العصر.
حديث الكاتب هنا منصب على العلوم النقلية، وتدريسها بالشكل والمنهج الأكاديمي الذي يصلح بدون شك على العلوم التطبيقية! لكن يا ترى هل هي نافعة للعلوم الشرعية؟
ماهية العلوم الشرعية
إن السمة البارزة للعلوم الشرعية هي أنها علوم وحي، وعلوم نقل. يعني أنها علوم خارجة عن إرادة الإنسان وليست خاضعة لإذنه أو أوامره، بل يلقى الإنسان الأوامر والنواهي من طرف خارجي للإذعان لها.
فالهدف هدف إرشاد وتعليم وهداية وتعبد (تربية). وهذا بخلاف العلوم التطبيقية، فالهدف الأساسي من تعليم الطب هو لتجسيد العلة وإيجاد دواء، والغاية من علوم الهندسة هي الوقوف على السر الكامن وراء المواد وكيفية تسخيرها لخدمة الإنسان، وإن علم البحار والجبال والجو هو دراسة طبيعة تكوينها، وإخضاعها لخدمة الإنسان؛ وتحسين حياة البشر، فيدرس كنهها وما يؤدي إلى ما يسمى بالكوارث الطبيعية، ومعرفة مدى قدرة الإنسان على التعايش معها، ببناء المنازل المناسبة، والتنبؤ لأوقاتها للتقليص من أضرارها.. وعلوم الاتصالات هي دراسة السبل الممكنة لاختصار المسافة بين الناس زمانا ومكانا؛ فنجد أن معظم العلوم التطبيقية ونظرياتها وظيفية غائية، تسعى إلى شيء أكثر من العلم نفسه. أما العلوم النقلية فليست وظيفية الأصل، بل علوما ذاتية؛ تطلب لذاتها، فهي علوم مقدسة؛ لا ترتقب غاية مادية أو تسخيرية، بل الهدف منه تعبدي وعبادة؛ فكيف نعرف الله وكيف نعبده يختلف عن كيف نعرف سر الحديد فنتخذ منه طائرة أو سيارة أو أسلحة؟
ولعل هذا يأخذنا إلى ضرب بعض الأمثلة والنظر في تطور العلوم الشرعية.
بدأت العلوم الشرعية بتلقي النبي –عليه الصلاة والسلام- الوحي بغار حراء، آمرا ومعلما إياه عدة أمور، والنبي بدوره علم الناس ما هو مطلوب منهم، وانتشر الصحابة –رضوان الله عليهم أجمعين- في بقاع الأرض يساندون النبي –عليه السلام- في مهنته؛ مهنة الإبلاغ. علما أن الوحي هو المرجع الأول والأخير في التعليم. وتوفي النبي –ﷺ- وقد بلّغ علوم الوحي كما طلب منه؛ المتثمل أولا في القرآن الكريم، وثانيا في شرحه وإيضاحه ومعايشته عليه السلام لمراد الله في القرآن؛ وذلك أيضا بعناية ربانية، فالوحي قرآن صريح، متجسد في أفعال وأقوال وسيرة النبي –ﷺ-. ولا إشكال في هذا! فالعلوم الشرعية في زمن النبي هي الوحي.
ثم تطورت العلوم الشرعية بعده شيئا فشيئا بحسب ما تقتضيه الظروف، فالجميع متفقون على أن القرآن والسنة هما أمهات العلوم الشرعية، لكن في القرآن والسنة علوم عدة؛ فالناس أولا بحاجة إلى معرفة تاريخ القرآن وأسباب النزول، ثم تأتي مرحلة فهم معاني النصوص. ثم هم بحاجة إلى معرفة ما قاله الرسول بحق مما لم يقله. وبعد ثبوت هذا من ذاك؛ الناس بحاجة إلى معرفة العقيدة أو الإيمان، فصنف في ذلك بمناهج عدة؛ والغاية بيان أن لهذا الكون خالقا، وأنه أرسل رسلا لهدايتهم؛ آخرهم محمد بن عبد الله –ﷺ- وله السمع والطاعة فيما يبلغ؛ وذلك أن الجنة والنار حق للثواب والعقاب، وفي سبيل ذلك اختلفت مناهج التأليف وظهرت قضايا جديدة على شكل تساؤلات، من مثل حقيقة القدر والعدل الإلهي وحقيقة الابتلاء، وتنوع ردة فعل الناس تجاه ذلك.
فاتخذ الوحي نبراسا وحكما، وأضيف إليه العقل كثمرة من ثمار إرشادات الوحي. ووجد بعضهم في معرض بيان العقيدة، أنه بحاجة إلى الحجج العقلية الواردة في القرآن، ليدحض به المنطق السائد، كما أن الفلسفة كان سبيلا أحيانا إلى عدم الإيمان بالخالق الحق، فكان لا بد من الخوض فيما يعالج ذلك.
ثم بعد بيان الدين للناس المنطلق من العقيدة، لا بد للناس من معرفة التدين، وهو كيف يعبدوا ربهم الذي خلقهم وجعلهم خلفاء في الأرض، وأرسل لهم النبي –عليه السلام- لهدايتهم، ورجع الناس إلى القرآن أيضا فوجدوا بجانب العقيدة أمور التدين من أخلاق وأحكام. واضطروا في بيان ذلك إلى تقعيد الأصول التي يفهم بها النص أو الوحيان، أي بعد أن يثبت أن القرآن قال هذا، أو أن النبي –ﷺ- حكم في هذا؛ بعد ذلك لا بد من قواعد منطقية ولغوية وأصولية للاستدلال والاستنباط من الوحيين، فهل قيل هذا تبركا أو عرفا أو تدينا، وهل هو خاص لعمرو من الناس دون زيد أو كلهم، وإن لم يكن قد حكم فيه النبي عليه السلام فهل يقاس عليه، وكيف وعلى أي أساس.. كل هذا لحسن تنزيل النص على الواقع، وهذا هو علم أصول الفقه، الذي ينتج فقها؛ والذي هو معيار التدين.
نرجع إلى الموضوع ونتذكر بأن العلوم الشرعية أو العلوم النقلية علوم تعبدية ذات قداسة، وليست علوم مصلحة أو منفعة المنطلق كالعلوم التطبيقية.
طبيعة الدراسة الشرعية الأكاديمية
إذا كان هذا هو طبيعة العلوم النقلية فهل المناهج الأكاديمية تفي بالغرض؟
لعل محاولة تقديم جواب لهذا يقودنا إلى طبيعة الدراسة الأكاديمية، فالتعليم الأكاديمي -بعد مرحلة تعليم الكتابة والقراءة وإعداد المواطن المثالي، والقضاء على دائرة الأمية،- مصمم لإشباع متطلبات السوق، في وقت زمني محدد؛ يعني ضمان أن الطالب في طب الأسنان عرف مكونات الأسنان وما يعرض له والأدوية المناسبة لعلاج كل ما يطرأ من علل، ثم به يدفع إلى سوق العمل، وضمان أن المهندس المعماري قادر على حساب المواد اللازمة ومعرفة المواد المطلوبة لعمارة البرج بكذا دور.. فنجد أن الغرض النفعي والوظيفي موجود، وهكذا! لكن يا ترى ما الغرض الأكاديمي لتدريس العلوم النقلية؟ أهي لمعرفة الناس دينهم، أم لإخراج موظفين في دوائر دينية! أم الاثنان معاً؟!
نعرف أنه في الإسلام يجب أن يتعلم كل مسلم أمر دينه، من معرفة العبد ربه ونبيه وطريقة التدين من صلاة والقراءة لها، وزكاة، و في أمور الحياة، وما يعرف بفرض عين، أو ما علم من الدين بالضرورة. إذن بهذا؛ كأننا لا نحتاج متخصصين في العلوم النقلية، لأنه يجب على الجميع معرفة ذلك؛ أي معرفة دينهم وطريقة تدينهم، وعلى هذا يحمل الحديث المعروف في أن طلب العلم فريضة على كل مسلم. وهذا ما يفتح للجميع باب الفتوى؛ أو على الأقل الفتوى فيما علم من الدين بالضرورة، ويصلح كل مسلم بناء على معرفته للفروض العينية أن يكون إماما (وهنا يزول العجب في جودة قراءة الإمام الثاني بالجماعة الثانية المتأخرة، وحسن تلاوته؛ فهو ليس بأقل درجة من الإمام الراتب الذي أم الجماعة الأولى)، وبالتالي يُستغنى عن التخصص فيه، ويضاف كفرض عين إلى العلوم التطبيقية التي هي فرض كفاية لمن اختارها! أو نقول إننا بحاجة إلى متخصصين فيها بدرجة الاجتهاد وتعليم الناس فروض الكفاية؛ لكن هل النظام الأكاديمي يقدم هذا؟!
ومن هنا، يجد المدقق أن أمامه درجات من الإلمام بالعلوم النقلية، إلمام عام، وهذا واجب كل مسلم؛ بل لا يكاد يكون لإسلام المرء من معنى إن لم يدرك هذه الجزئية، وإلمام خاص؛ وهذا لمن خصص جهوده للتعمق فيه.
درجة الإلمام العام بالعلوم النقلية يكاد يكون مفقودا من مفردات التعليم الأكاديمي لمن انتسب إلى تخصصات غير التخصصات الشرعية أو النقلية، ودرجة الإلمام الخاص شبه منعدم من مفردات التخصص في العلوم الشرعية؛ يعني: الإلمام العام بالعلوم النقلية هو معرفة كل مسلم حقا أسس دينه، وبالضرورة يستطيع الرد بقناعة على ما هو خلاف أسس دينه، ولا يضره شبهة، فإذا كان الله موجودا حقا وهو الخالق الرازق فلم يُؤبه بمن يريد تشكيك في هذا، وإذا كان النبي حقا مرسل من ربه، فلم يؤبه لمن يحاول قطع الصلة بينه وبين الوحي..الخ. يليها معرفة المسلم أمور تدينه، فبعد معرفة أسس الإيمان تأت مرتبة العمل والطاعة والذي أسميه التدين، ويجب على كل مسلم أن يعرف كيف يعبد ربه، وإلا يمكن أن يقال له غير الحقيقة ويسفَّه، وهذا القدر من العلم يستوي فيه كل مسلم، متخصص في العلوم التجريبية أو العلوم النقلية، وهذا معنى كونه فرضا عينيا.
لكن كأن ثمة تنازل وتغيير في الأمر. فالإلمام الخاص هو الذي يدرس لمن هو متخصص في العلوم النقلية، ولا يدرس شيء، أو يدرس أشياء هي أبسط من تحصيل الإلمام العام، فأصبح المسلم الغير المتخصص قليل البضاعة بأمر دينه، وبدلا من يكون المتخصص مجتهدا، ومكرسا جهوده وأوقاته في التأليف وملئ الفجوات الدقيقة جدا، نجده يتسلى بقضايا الإلمام العام.
ومن هنا يصح الوصف التالي، “المسلم غير المتخصص في العلوم النقلية لا يعرف عنها ما يجب أن يُعرف، والمسلم المتخصص في العلوم النقلية يُدَرَّس ما يجب أن يعرفه أي مسلم”. فهل سمعت بأكاديمية شرعية يخرج من يحفظ القرآن الكريم، ويحفظ البخاري ومسلم، ويقرأ التفسير الفلاني كاملا من جلد إلى جلد، ويقرأ شرح فلان على البخاري أو مسلم كاملا، ويقرأ أبواب الفقه الإسلامي كاملا من العبادات، والمعاملات والجنايات، ويدرس التزكية من المنجيات والمهلكات.
بل لعل واقع العلم الشرعي الأكاديمي تجزيئي، باسم التخصص، فيتخرج أحدهم دكتواره في اللغة فقط، أو الفقه فقط، أو الأصول فقط، أو القرآن فقط، أو السنة فقط، أو الدعوة فقط. وكلها تخصص واحد لمن أفرد نفسه ليحل محل الإلمام الخاص.
عولمة العلوم الشرعية
بما أن من أغراض العلم الشرعي الأكاديمي اليوم إخراج أئمة، أو مفتين؛ فلعل من الأنسب تقصير المسافة لذلك، فلكي يكون أحدهم إماما أو يعلم أمورَ ما علم من الدين بالضرورة؛ “الإلمام العام”، لا يحتاج إلى درجة دكتوراه، في سننين يقضيها عازبا، وعاريا من مسؤولية في فترة هي أوج فترات الحياة، فدورة مكثفة تفي بالغرض.
ومن هنا لعل من الأجدر قطع العلوم الشرعية عن العمل؛ وما أسميه عولمة العلوم الشرعية، فهي علمنة مضادة. فتنقطع العلوم الشرعية الأكاديمية من دائرة التخصصات، وتضاف كساعات إضافية إجبارية لكل مسلم، فيصبح المتخصص في العلوم التجريبية متخصصا في العلوم الشرعية في الوقت نفسه، فكما اتفقنا في المقدمة أن العلوم التجريبية علوم تطلب لغيرها، من أجل المهنة ومن أجل العمل والكسب، وبالضرورة تصبح العلوم النقلية علوم ذاتية، لا يتخصص فيها لغيرها، من عمل ومهنة؛ وبهذا يكون كل أفراد المجتمع متخصصون في علوم تجريبية من الطب والهندسة والاتصالات والمعلوماتية ليعملوا ويقتاتوا بها، وهم عارفون في الوقت نفسه “الإلمام العام”، لتبقى دائرة الإلمام الخاص والذي هو شبه معدوم مفتوحة لمن أراد الابتكار. فلا مواطن يتخصص في العلوم الشرعية للعمل ابتداء، ولا مواطن يكتب بحثا في العلوم الشرعية للترقية..وهكذا.
أهمية عولمة الشريعة
لعل دراسة العلوم النقلية لقداستها، بعيدا عن وظيفة غائية هي الأجدر بها. ولذلك عدة نقاط أحسبها مهمة:
أولا: لأنها علوم ذاتية؛ أي علوم عمل، ليست علوم رفاهية، أو ترف فكري، أو علوم غائية وظيفية. والجدير بهذا أن يتبع العلم العمل، أما إن كانت وظيفية غائية مثل غيرها، فقد تكون مجرد علوم جافة؛ تكتب وتحاضر هنا وهناك، ولا يتبعها عمل. وتخلو من صفة الربانية.
ثانيا: معظم الآيات والأحاديث الواردة في فضل العلم، قيل ابتداء في العلوم الشرعية، وإن عمّت العلوم غير الشرعية وشملها ضمنا. ولا يخفى ما تحمل تلك النصوص من مكانة عظيمة. فخير الناس من تعلم القرآن وعلمه. ومن يرد الله به خيرا يفقه في الدين، والملائكة والحوت يستغفرون لطالب العلم، وعلم نافع ينتفع به. وهذا الفضل وغيرها أقرب أن يكون لمن يعلم لوجه الله. وإلا فما الفرق بينه عالم الشرع وعالم تجريبي؛ فكلاهما علم وظيفي مهني. ومن هنا وقف العلماء طويلا في حكم أخذ الأجرة على التعليم.
ثالثا: لعل هذا أجدر بالمجتمع الإسلامي المثالي، مجتمع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. إذ لما تسود التعاليم الإسلامية كل تخصص تجريبي لا جرم أن يسعد الناس، وأن يرحم الغني الكبير ويصفح الكبير عن الصغير. طبيب يداوي بحق؛ لا يُمرضك ليبع لك الدواء، ولا يبيع لك دواء ليس هو لمرضك. ومهندس يقيس بحق وأمانة، لا يصف لك مواد زائدة على المراد لتحصيل المال، موظف أمين مسؤول، لا يرفع من ثمن المشروع، ليأخذ الزائد مع التاجر غير الأمين الذي اتفق معه بأن يكتب الوصل على منوال ما!
رابعا: ذاك أقرب إلى الإخلاص، فتصبح الإقبال على طلب الإلمام الخاص من باب الحب والولع، وتكثر المنافسة الشريفة. إذ المنافسة لا تكون على معرفة فرض العين، بل تتعداها إلى مرحلة الاجتهاد. فلا بد من قراءة أمهات كتب المتون كلها، بدلا من المذكرات، ولا بد من الإحاطة بكل العلوم الشرعية والعلوم الآلية المساعدة. وهذا يعني وجود علمين اثنين، طبيب محدث، ومهندس مقرئ، وتكنولوجي مفسر، وسياسي فقيه، وهكذا. فبذل الجهد والوقت مطلوب، ولن يقوم به إلا صاحب الهمة، الراغب في مرضات الله والحب للعلوم الشرعية؛ فتفتح له باب الإخلاص.
التدين في العلم التجريبي والنقلي
أخير أختم بأن كل عمل المسلم يصلح تدينا، وذلك نظرا لتقلبات النية. ومع هذا فلعل من البدهي أن طلب العلم الشرعي لذاته تدين بحد ذاته. فيجب على كل مسلم معرفة أمور دينه؛ ولا أحسب أن لذلك ثوابا؛ بل ذلك سبب لمنع الإثم والذنب؛ فرض عين. وهذا يعني أن من زاد على ذلك فأضاف على الفرض العيني الإلمام الخاص امتاز بذلك عن عامة المسلمين فوجد ثوابا؛ وبخاصة لو كان له مكسب غير ما جعله يمتاز من تعليم الناس. وفي المقابل؛ الأصل أن العلوم التجريبية غير واجبة، فلا تدين فيها؛ لأنها تطلب للمكسب والمهنة والمعاش، -ويفترض أن يكون لعالم الشرع نصيب من هذا-. لكن بحكم الخلافة واستعمار الأرض والبحث عن الحلال يمكن أن يتحول بذل الجهد في طلب العلوم التجريبية بالنية إلى عبادات. كما أنه بفقد النية يمكن أن يتحول العلم الذاتي إلى مذمة.