كان تصنيف المدونات الحديثية المرتبة ترتيبا موضوعيا بداية التقاطع الذهبي بين الفقه والحديث، فأصبح المشتغلون بالفقه يتمكنون من الوصول إلى بغيتهم في كتب السنة من خلال العناوين والتراجم التي صُنِّفت تحتها الأحاديث، فتجد فيها : كتاب الطهارة، كتاب الصلاة، كتاب الصيام، كتاب الحج..وهكذا، وتحت كل كتاب عدة أبواب تمثل تفريعات الكتب. من ذلك كتاب صحيح البخاري (المتوفى 256ه)، وصحيح مسلم (المتوفى 261ه)، و سنن أبي داود، (المتوفى: 275هـ)، وسنن الترمذي (المتوفى: 279هـ)، وسنن النسائي (المتوفى: 303هـ)، وسنن ابن ماجه (المتوفى: 273هـ).
ومع تقدم الزمن وضعف الهمم، أصبح الباحثون في الفقه لا يعودون إلى أصول هذه الكتب، بل يرجعون إلى الكتب التي جمعت هذه الكتب في مصنف واحد تحت العناوين الفقهية، فأصبح الاشتغال بكتاب ككتاب ( المنتقى لابن تيمية الجد) وشرحه نيل الأوطار. هو البغية الأولى في البحث الفقهي.
عيوب التصنيف الموضوعي
لا شك أن التصنيف الموضوعي لكتب السنة أغرى الفقهاء بالاشتغال بالبحث عن الدليل ، فبرز علم الفقه المقارن، لكن هذه الطريقة من التصنيف أدت إلى بعض السلبيات، أخطرها : اتكال الفقهاء على نمط بحثي واحد، وهو البحث عن طريق العنوان والفهرس ، وقد أدى هذا بدوره إلى ضمور الملكة الفقهية لدى الباحثين من ناحية، ومن ناحية أخرى إلى قصور البحث الفقهي وضعفه.
فأصبح الباحثون يدورون في فلك الأدلة التي جمعها العلماء الأوائل لا يعدونها إلى غيرها، وربما كان في غيرها أدلة ألصق بالمسألة المبحوثة، فاتت الجامعين الأوائل . وكم ترك الأول للآخر!
ابن حبان
وقد تنبه ابن حبان (المتوفى: 354هـ) مبكرا لهذا الأثر الخطير من اتكال الفقهاء على عناوين الكتب الحديثية، فبحث عن طريقة جديدة يضع عليها مصنفه في الأحاديث التي جمعها، وفي ذلك يقول : ” إنى لما رأيت الأخبار طرقها كثرت، ومعرفة الناس بالصحيح منها قَلَّتْ لاشتغالهم بكتب الموضوعات…
فإذا وقف المرء على تفصيل ما ذكرنا، وقصد الحفظ لها، سهل عليه ما يريد من ذلك، كما يصعب عليه الوقوف على كل حديث منها إذا لم يقصد قصد الحفظ له….
ألا ترى أن المرء إذا كان عنده مصحف وهو غير حافظ له، فإذا أحب أن يعلم آية من القرآن في أي موضع هي، صعب عليه ذلك، فإذا حفظه، صارت الآيات كلها نصب عينيه.
وغذا من كان عنده هذا الكتاب وهو لا يحفظه، ولا يتدبر تقاسيمه وأنواعه، وأحب إخراج حديث منه، صعب عليه ذلك، فإذا رام حفظه، أحاط علمه بالكل؛ حتى لا ينخرم منه حديث أصلا، وهذا هو الحيلة التي احتلنا بها ليحفظ الناس السنن؛ ولئلا يعرجو على الكِتبة والجمع إلا عند الحاجة دون الحفظ له أو العلم به.
فتفتق ذهنه عن وضع صحيحه على طريقة جديدة مبتدعة، فقسمه إلى خمسة أقسام متساوية متفقة التقسيم غير متنافية.
فأولها: الأوامر التي أمر الله عباده بها (وهي تدور على مائة نوع وعشرة أنواع) .
والثاني: النواهى التي نهى الله عباده عنها (وهي تدور على مائة نوع وعشرة أنواع) .
والثالث: إخباره عما احتيج إلى معرفتها (وتدور على ثمانين نوعاً) .
والرابع: الإباحات التي أبيح ارتكابها (وتدور على خمسين نوعاً) .
والخامس: أفعال النبي ﷺ التي انفرد بفعلها (وتدور على خمسين نوعاً) .
ثم قال: “فجميع أنواع السنن أربعمائة نوع .”
وقصده من ذلك ألا يتمكن أحد من الانتفاع بصحيحه إلا إذا حفظه كله، فإذا لم يحفظه كله من أوله إلى آخره فإنه لن ينتفع به؛ لأنه ليس مقسما على الموضوعات الفقهية المتداولة.
هل نجح ابن حبان ؟
للأسف، كانت هذه الطريقة الوعرة التي وضع ابن حبان عليها صحيحه سببًا في عدم سهولة الانتفاع به، حتى جاء ابن بلبان المتوفى 739 ه، فقام بإعادة ترتيب الكتاب موضوعيا على الأبواب الفقهية، فسهل الانتفاع به، وأسماه : الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان. وأصبح كتاب ابن بلبان هذا يحل محل الكتاب الأصل.
مسند الإمام أحمد
ومن الكتب التي وضعت على غير الترتيب الموضوعي : مسند الإمام أحمد بن حنبلالمتوفى: 241هـ) ، وكذلك المسانيد كلها.
فقد رتب الإمام أحمد مسنده على مسانيد الصحابة ، وقسّمها بضعة عشر مسندًا من المسانيد الرئيسة أو مجاميع المسانيد .
فتجده يذكر اسم الصحابي، وليكن أبا بكر رضي الله عنه مثلا، ثم يأخذ بذكر كل مروياته دون ترتيب بينها، فتجد حديثا في فضل الوضوء يتبع حديثا في الجهاد..وهكذا ، ثم يبدأ بذكر صحابي آخر…وهكذا. فلست تستطيع أن تهتدي الى حديث بعينه، ولست تقدر أن تجمع بين شتات الأحاديث التي وردت فيه عن موضوع واحد
{مثال ذلك} روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده بسنده عن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه واله وصحبه وسلم في أحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر وهو حامل حسن أو حسين فتقدم النبي صلى الله عليه واله وصحبه وسلم فوضعه ثم كبر للصلاة فسجد بين ظهري صلاته سجدة أطالها قال (أي الرواي) إني رفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر الرسول صلى الله عليه واله وصحبه وسلم فرجعت في سجودي فلما قضى رسول الله صلى الله عليه واله وصحبه وسلم الصلاة قال الناس يا رسول الله انك سجدت بين ظهري الصلاة سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك قال: كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته}.
هذا آخر حديث في المسند، فإذا كنت تريد هذا الحديث من المسند وتجهل اسم راويه من الصحابة فماذا كنت فاعلا؟ لا مناص لك من أحد أمرين:
الأمر الأول : إما أن تقرأ الكتاب جميعه وهذا بعيد جدا.
الأمر الثاني : وإما أن تتركه وهنا ضاعت الفائدة.
وإذا كنت تحفظ اسم الراوي فلا بد لك من تصفح فهرس أجزاء الكتاب وتبلغ صفحاته ثلاثة وعشرين صحيفة، فلو تحملت هذه المشقة وعثرت على اسم الراوي، فلا بد لك من قراءة مسند هذا الراوي من أوله حتى تجد الحديث فربما لا تجده إلا في آخره، وفي هذا عناء شديد ولا سيما إذا كان الراوي من ذوي المسانيد الطويلة كمسند أبي هريرة وعائشة وابن عباس وأنس وجابر بن عبد الله وابن عمر وأمثالهم، فكل مسند من مسانيد هؤلاء يصح أن يكون كتابا مستقلا.
هذه المصاعب كلها تعترضك في البحث عن حديث واحد، فما بالك إذا اعتراك موضوع يفتقر إلى جملة أحاديث؟ لا شك أنك تترك الموضوع أو أنك تبحث عنه في كتاب آخر أقرب تناولا. هذا ما صرف المتأخرين عن المسند وحرمهم من الانتفاع بخبايا مكنوناته، إلى غيره من الكتب الأخرى المرتبة على الأبواب.
إعادة ترتيب المسند
ولما كان الانتفاع بالمسند على هذا الوضع عسيرا، طفق العلماء يقربونه للتناول، فكان لهم في ذلك عدة محاولات لا تخلو من فائدة، غير أن أعظمها وأحسنها، ما قام به الشيخ عبد الرحمن البنا الساعاتي- والد الشيخ حسن البنا- (المتوفى: 1378 هـ. فقد أعاد وضع الكتاب على الترتيب الموضوعي الفقهي، وأسماه : الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني.
وقال البنا في وصف المسند قبل ترتيبه : ” هذا الترتيب، صرف المتأخرين عن المسند وحرمهم من الانتفاع بخبايا مكنوناته، إلى غيره من الكتب الأخرى المرتبة على الأبواب.
وقد صار اعتماد الناس على الضبط الكتابي فقد وقف ذلك حائلا دون الانتفاع بكتاب عظيم وأصل كبير كالمسند، ومازال المسند منذ ألف إلى اليوم درة في صدفها وحسناء في خدرها وكنزا مخبوءا لا يصل إلى جواهر مكنوناته إلا الحفاظ الأثبات من رجال الحديث.