أمتنا الإسلامية لها عدة عناوين مهمة وأساسية تصلح للدلالة على قيمها وخصائصها، وتعكس بشكل صائب وعميق طبيعتها وتميزها. وأهم هذه العناوين؛ التوحيد: وهو أساسها وصبغتها العامة.. التزكية: وهي لب بنائها النفسي والروحي.. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهو سر حيوية مجتمعها.. الاجتهاد: وهو جوهر فاعليتها الفكرية والعقلية.. إضافة إلى فعل الخير: وهو ثمرة حركتها لأبنائها ولغيرهم.
وفي لفتة مهمة جمع القرآن الكريم بين الأمر بالركوع والسجود والعبادة وفعل الخير، في آية واحدة، وجعل ذلك طريقًا للفلاح؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج: 77).
فعل الخير .. معنى جامع
و”الخير” كلمة جامعة لكل شيء نافع. جاء في (الكليات) للكفوي: “الخَيْرُ يعمّ الدُّعَاء إلى ما فيه صلاحٌ دِينيّ أَو دُنْيَوِيّ”.
وردت كلمة “الخير” في القرآن للدلالة على أمور متعددة
ذكر الكفوي عدة مواضع من القرآن الكريم وردت فيها كلمة “الخير” للدلالة على أمور متعددة تتصل بشئون الدين والدنيا؛ منها:
أن الخيرَ القُرآنُ نَفسُه : {أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مٍّن رَّبِّكُمْ} (البقرة : 105).
وبِمَعْنى الأنفع: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} (البقرة : 106).
وَالْمَال: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} (البقرة : 180).
وضد الشَّرّ: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} (آل عمران : 26) .
والإصلاح: {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} (آل عمران:104).
والعافية: {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} (الأنعام :17).
وَالْإِيمَان: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا} (الأنفال : 23).
والنوافل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} (الأنبياء: 73).
وَالْأَجْر: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} (الحج: 36).
وَالْأَفْضَل: {وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} (المؤمنون :118 ) .
والعفة: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} (النور : 12).
وَالطَّعَام: {إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (القصص : 24).
وَالظفر: {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} (الأحزاب: 25).
وَالْخَيْل: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ} (ص: 32) .
وَالْقُوَّة: {أَهُمْ خَيْرٌ} (الدخان : 37).
وَالدُّنْيَا: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات : 8) [1].
إذن، “الخير”، ومن خلال ورود الكلمة في القرآن الكريم، كلمة ذات معنى جامع، تدل على النفع والصلاح، سواء تعلَّق ذلك بأمور الدين أو الدنيا.
ومن ذلك يتضح لنا أن الدعوة إلى “فعل الخير” هي دعوة جامعة لكل ما يعمّ نفعُه الإنسانَ، إنْ في دينه وإيمانه وتقواه، أو في دنياه ومصالحه. فالإسلام جاء ليحقق هذا النفع العام الشامل للإنسان؛ وبالتالي طلب منه أيضًا أن يفعل هذا النفع العام الشامل.
فالخير “ثمرة” جاء بها الإسلام بتوجيهاته وتشريعاته.. و”فعل” يقوم به الإنسان في حركاته وسكناته، فيما يأتي ويَدَع.
فعل الخير.. فعل شامل
وكما أن “الخير” يتضمن معنى جامعًا لكل صلاح في الدين والدنيا، فهو أيضًا فعل شامل؛ من حيث إنه يشمل:
- المرء وغيره.
- الإنسان والكائنات.
- والمسلم وسائر الناس.
نفع المرء وغيره
يتجلى عطاء الخير في أنه يتعدى صاحبه، إلى الآخرين؛ فهو ذو عطر فوّاح، يطيّب صاحبه ومن يجاوره. فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ” (الحاكم في المستدرك). وعن جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ” (القضاعي في مسند الشهاب).
قال المناوي: “(خير الناس أنفعهم للناس): بالإحسان إليهم بماله وجاهه؛ فإنهم عباد الله. وأحبهم إليه وأنفعهم لعياله، أي: أشرفهم عنده، أكثرهم نفعًا للناس؛ بنعمة يسديها، أو نقمة يزويها عنهم دينًا أو دُنيا. ومنافع الدين أشرف قدرًا وأبقى نفعًا؛ قال بعضهم: هذا يفيد أن الإمام العادل خير الناس، أي بعد الأنبياء؛ لأن الأمور التي يعم نفعها ويعظم وقعها لا يقوم بها غيره، وبه نفع العباد والبلاد، وهو القائم بخلافة النبوة في إصلاح الخلق، ودعائهم إلى الحق، وإقامة دينهم وتقويم أودهم، ولولاه لم يكن علم ولا عمل”[2].
وفي نفع الإنسان والكائنات
فإن الإنسان هو الخليفة في الأرض، والموكّل بإصلاحها واستعمارها وعدم الإفساد فيها؛ ومن ثم، فإنه مطالَبٌ بأن يكون نفعه شاملاً لكل الكائنات التي تجاوره في هذا الكون، وسُخِّرت له ليستعين بها في أداء مهمته.
ولا عجب إذن أن يعاقَب الإنسان إن أفسد في الأرض، أو أصاب الكائنات من حوله بأذى من غير وجه حق. وفي البخاري من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ سَقَتْهَا، إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ”.
وقد جاء الأمر الإلهي صريحًا في الدعوة إلى الإصلاح والنهي عن الإفساد؛ قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف: 56).
وفي تفسير الآية الكريمة أوضح الشيخ أبو زهرة أن معنى (إصلاح الأرض): أن الله تعالى خلقها صالحة لأن يعيش عليها الإنسان في زرعها وغرسها، ومستمتعًا بكل حلالها وطيباتها، وقد أرسل الرسل منذرين ومبشرين، وهداة إلى الحق ومصلحين وعاملين للخير. وأن (إفسادها) يعني: إشاعة الظلم، وإفساد ما تنتج، و(التعدي): التعاون على الإثم والعدوان وقطع الأشجار وحرق الثمار [3].
وقد جاءت السنة النبوية معضدة دعوة القرآن الكريم في تعميم النفع لبني الإنسان ولغيرهم من الكائنات؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَزْرَعُ زَرْعًا، أَوْ يَغْرِسُ غَرْسًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ؛ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ” (متفق عليه).
نفع المسلم لنفسه ولسائر الناس
فهذا يتحقق من وجهين يشملان النفع المعنوي والمادي:
- فالأول: هو أن المسلم يسعى بهداية الإسلام للناس جميعًا، فهو دين خاتم ورسالة عامة، لا يختص بقوم دون قوم، ولا زمان أو مكان دون زمان أو مكان؛ قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158).
- والثاني: هو أن المسلم بحركته في الحياة وما ينتج عنها من عمران وإعمار، ومن أمن وطمأنينة، ومن خيرات وثمرات، إنما يكون كل ذلك مبذولاً للناس جميعًا، لا يُختص به المسلمون به وحدهم، كما يفعل البعض منطلقًا من عنصرية بغيضة أو استعلاء زائف على غيره من الأجناس والألوان. وقد كانت الحضارة الإسلامية- خاصة في محطات التواصل، مثل صقلية والأندلس وغيرهما- شاهدًا عدلاً على تمتع غير المسلمين بخيراتها وثمراتها، في إنسانية صادقة، وفي نفع عام شامل.
فعل الخير.. قيم متضمَّنة فيه
وهذا المعنى الأساس الذي يعكس حقيقة أن “فعل الخير” عنوانٌ مهم على ديننا وأمتنا، منهجًا وقيمًا وحركة في الحياة.. إنما يستبطن عدة قيم تمثل ركيزة للبناء الإسلامي.
ماهي أهم القيم المتضمنة في فعل الخير ؟
من أهم هذه القيم المتضمَّنة في “فعل الخير”:
قيمة العطاء: فالإسلام ليس عالة على الحياة ولا على الآخرين؛ إنما يضيف إليهم ويرتقي بهم.
قيمة الرحمة: فهو دين يتخذ من الرحمة غاية كبرى لرسالته: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107). وانطلاقًا من هذه الرحمة يُعمِّم خيرَه للإنسان وللكائنات.
قيمة الإنسانية: فالإسلام يبذل خيره المعنوي والمادي للناس جميعًا؛ لأنه رسالة هداية وإصلاح لهم جميعًا..
قيمة العمران: فلا نفع إلا بالعمران.. وضده: الخراب والإفساد. وحيث لا عمران، لا نفع يُرتجى.
قيمة الإبداع: فدوامُ بذلِ النفع يقتضي إبداعًا في الحركة، وإتقانًا للفعل.
وهكذا نرى أن “فعل الخير” يمثل عنوانًا مهمًّا على الإسلام: منهجًا.. وعلى الأمة: وظيفةً.. وعلى القيم: شمولاً.. وعلى الأخلاق: إنسانيةً ورحمةً.. وعلى الحركة في الحياة: عطاءً وعمرانًا وإبداعًا.
ولعل ما ذكرناه يقتضي أن ننفض عن أنفسنا رداء الغفلة والكسل والبطالة؛ لندرك حقيقة رسالتنا في الحياة، وما تستلزمه من جد وعطاء.. حتى نكون جديرين بأن نفعل الخير لأنفسنا وللناس، لا أن نستجدي العون ونمد يد الحاجة!!