تأمّل معي حال قائد عسكري جيء به لقيادة جيش، ثم بعد قليل يتولى كثيرٌ من الجند لسبب أو آخر، وقبل أن يتحرك الجيش. فكيف سيكون وضعه؟
إن قائداً مطلوب منه الخروج لمواجهة جيشٍ قوي في العدد والعُدة والعزيمة المرتفعة، ثم يتولى كثيرون من جيشه عنه منذ البداية، لا شك أنه في موقف يحتاج إلى نوعية خاصة من القادة. وهذا القائد الذي نتحدث عنه وهو طالوت، لم يبقَ معه سوى جمعٌ، لا يزال يُطلق عليه جيش، رغم انسحاب كثيرين منه لسبب أو آخر كما أسلفنا، لكن في قرارة نفسه، أنه سيقوم بالمهمة رغم كل إشكاليات البداية، لكنه يرى أن كل من اختار المسير معه، لا يمكنه خوض معركة حاسمة بهم قبل أن يختبرهم بنفسه ويرى قوة الإرادة عندهم واقعاً متجسداً، حتى لا يتكرر الانسحاب أثناء المعركة، مثلما كان قبل الخروج للمعركة، لأن الانسحاب من الميدان حينذاك ستكون كارثة.
فكيف يختبرهم؟
قام طالوت وأخبرهم من بعد مسير طويل في الحر، وقد بلغ بهم العطش مبلغاً، أن نهراً بالطريق أمامهم، ويطلب منهم ضبط النفس وعدم الإسراف في الشرب منه، إلا بقدر كف اليد. ومن زاد عن ذلك، يكون دخل نطاق عصيان الأوامر، وعقوبة ذلك ألا يكمل المسير معه ويرجع إلى داره.
الاختبار القاسي
اختبار قاس دون أدنى شك، حيث لم يصمد في ذلك الاختبار كثيرون، فخالفوا تعليمات القيادة. تلك المخالفة كانت ضربة أو نكسة ثانية للقائد طالوت، لأنه أوضح لهم بأن أي مخالفة منهم لأوامره، تستدعي الخروج من الجيش، وهذا ما حدث مع كثيرين من جيشه، لكنه مع ذلك لم ييأس. لماذا؟
لأنه في مثل هذه الأحوال والظروف، تُعتبر تلك المخالفات أمراً لا يُغتفر. فالعصيان وعدم إطاعة الأوامر من شأنهما إلحاق كوارث بالجيش إذا ما وقعت الواقعة فعلاً وحدثت مواجهة بين الفريقين، والتي تحتاج لكثير صبر وقوة تحمل.
انفصل كثيرون إذن عنه لأنهم -كما جاء في ظلال القرآن- “لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم. وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف، لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة. والجيوش ليست بالعدد الضخم، ولكن بالقلب الصامد، والإرادة الجازمة، والإيمان الثابت المستقيم على الطريق. ولم يهز طالوت تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى، بل مضى في طريقه” لملاقاة جالوت وجنوده.
العبرة ليست بالكثرة
الكثرة ليست دوماً عامل كسب وحسم في الحروب؛ إذ ربما تكون عامل خسارة وهزيمة، إذا كانت تلك الكثرة كغثاء السيل. وتلكم حقيقة استوعبتها البقية الباقية ممن صمدت مع طالوت ونجحت في اختبار النهر، ويقينها الراسخ يومها أن قلة صابرة محتسبة صامدة وواعية، سيبارك الله فيها ويكون النصر عبرها، إذ { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } البقرة :249 . وقد قيل بأن عددهم بعد النكسة الأولى والثانية بلغ في المرحلة الأخيرة قبل المواجهة، حوالي ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً كعدة أصحاب بدر.
قلة صابرة، لكن توفرت فيها شروط تحقيق أو تنزيل التأييد الإلهي والفوز بالمعركة. الهدف تحقق بفضل الله، وكان المطلوب: النصر وحسم المعركة وإلحاق الهزيمة بالعدو، سواء كانت عبر كثرة أو قلة جنود. وفي قصتنا، تحقق النصر عبر قلة صابرة محتسبة موقنة بنصر الله { فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ } البقرة : 251. وفي التاريخ نماذج من هذه المعارك، لعل أبرزها معركة بدر الكبرى.
من أسرار النجاح
الانضباط والالتزام بتعليمات القيادة، لاسيما إن كانت قيادة واعية مخلصة وذات رؤية، من أسباب تحقيق النجاح والنصر في صراع الحق والباطل. وأي تلكؤ أو تردد أو مخالفة للتعليمات، فالنتيجة تميل غالباً إلى الأكثر انضباطاً وتنظيماً، وساعتئذ لا علاقة للإيمان بالمسألة ها هنا، وأقصد أنه مهما كان الجند على درجة من الإيمان عالية، لكن دون انضباط ودون احترام للقيادة، فالمسألة ستتحول إلى دنيوية أو مادية بحتة، والنتيجة الحاسمة ستكون لمن يكون أكثر التزاماً بالتعليمات، وأحكم في التخطيط والاستعداد المادي والمعنوي، مهما يكن دينه.
هل يشك أحدنا في إيمان وإخلاص الرماة الخمسين في معركة أحد؟ لقد خرج الجميع مع خير خلق الله رغبة في الشهادة، وإعلاء كلمة الله ودحر الكفر والكافرين. وبتلك العقلية والهمة الإيمانية العالية، وصل من تبقى مع النبي الكريم إلى ميدان المعركة، بعد أن سحب رأس النفاق ابن سلول، ثلث الجيش وهم في الطريق إلى أحد. وبدأت المعركة وأبلى الجميع بلاءً حسناً بادئ ذي بدء، وكان المسلمون قاب قوسين أو أدنى من حسم أمر الكفار.
لكن ساعة أن تسربت المشاعر المادية في نفوس غالبية الرماة وحب الدنيا ومتاعها، وقعت الكارثة.. كانت تعليمات القيادة لهم قبل المعركة دقيقة وصارمة وحازمة بعدم ترك مواقعهم ولو رأوا أصحابهم في الميدان تخطّفهم الطير. ولو يحدث ما يحدث في الميدان، فإن مهمتهم هي البقاء في مواقعهم على الجبل، وأداء الدور المطلوب منهم لا أكثر.
حدثت المخالفة، ونزل كثير من الرماة عن الجبل لجمع الغنائم، فكانت بمثابة ثغرة استفاد منها العدو، فدخل منها وانقلبت الأمور، وحدث ما حدث في قصة المعركة المعروفة. وكم وقعت كوارث ومآس مماثلة في تاريخنا، سواء عبر المعارك أو الثورات ضد الظلم والظالمين، وراح ضحيتها الآلاف المؤلفة بسبب أخطاء من تلك النوعية التي ذكرناها في قصة رماة معركة أحد، أو قصة جنود طالوت الذين شربوا من النهر أكثر مما كان مسموحاً لهم.
لب الحديث
إن قصص القرآن وقصص التاريخ ليست ترفاً فكرياً، بل هي دروس وتجارب للتأمل والتدبّر، نتعلم من الأخطاء كيفية تجنب تكرار المآسي والأحزان، وفي الوقت نفسه نتعلم كيفية تحقيق الانتصارات. التاريخ دوماً يعيد نفسه، والأحداث هي هي تتكرر في كل زمان ومكان، ولكن عبر شخوص وطقوس مختلفة، وغالباً تكون النتائج والمآلات واحدة، إن لم يستفد الخلف من تجارب السلف { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } آل عمران : 137.