السنة النبوية مليئة بالكنوز التربوية والاجتماعية، وفيها درر تُصلح أحوال البيوت، وتعالج المشكلات والخلافات الأسرية، ومنها حديث “قم أبا تراب”.
عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال:”جَاءَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا في البَيْتِ، فَقالَ: أيْنَ ابنُ عَمِّكِ؟ قالَتْ: كانَ بَيْنِي وبيْنَهُ شيءٌ، فَغَاضَبَنِي، فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِندِي فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِإِنْسَانٍ: انْظُرْ أيْنَ هُوَ؟ فَجَاءَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، هو في المَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُضْطَجِعٌ، قدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عن شِقِّهِ، وأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَمْسَحُهُ عنْه، ويقولُ: قُمْ أبَا تُرَابٍ،قم أبا تراب”. (صحيح البخاري: 441).
كيف نستفيد من حديث “قم أبا تراب” في حل الخلافات الزوجية؟
تضمن هذا الحديث الشريف جملة من الأمور التي يمكن من خلالها حل المشكلات والخلافات الزوجية، وهو حديث جدير بالتأمل والتدبر، والتأسي بما جاء فيه، ومن هذه الأمور:
- أولًا: تفقد أهل الزوج والزوجة لأحوال الزوجين، فالنبي ﷺ كان يتردد على بيت ابنته فاطمة من حين لآخر، ليطلع على أحوالها وعلاقتها مع زوجها، وذلك التفقد لا ينبغي أن يصل إلى درجة التقصي والاطلاع على خصوصيات الزوجين، وينبغي أن يكون الهدف منه النصح والإرشاد والتوجيه.
- ثانيًا: الحرص على دوام الألفة والمحبة بين الزوجين، فالنبي ﷺ حال ابنته فاطمة، سألها عن زوجها بما يربطه بها من علاقة فقال لها:”أيْنَ ابنُ عَمِّكِ؟”، ولم يقل لها أين علي أو أين زوجك، وفي ذلك تلطيف للأجواء وتليين لقلب فاطمة رضي الله عنها بتذكيرها بقرابتها من علي رضي الله عنه.
- ثالثًا: الحفاظ على خصوصية البيت، ففاطمة رضي الله عنها لم تصرح للنبي صلى الله وعليه وسلم وهو أبوها بطبيعة الخلاف بينها وبين زوجها، والنبي ﷺ لم يستقص ولم يسأل عن سبب الخلاف عندما قالت له فاطمة رضي الله عنها:”كانَ بَيْنِي وبيْنَهُ شيءٌ، فَغَاضَبَنِي”، وفي ذلك درس للزوجين بألا يفشيا للآخرين شيئًا من أسرارهما أو أسرار البيت، ودرس للأهل بعدم التدخل في خصوصيات الزوجين ما لم يفصحا عنها، ولأن التدخل في أمور الزوجين من قبل أهل الزوج أو الزوجة قد يفاقم المشكلات ويزيدها تعقيدًا.
- رابعًا: بيان أن البيت هو محل المودة والسكن، ويتضح ذلك من قول فاطمة رضي الله عنها:”فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِندِي”، فالأصل أن الإنسان لا يجد الراحة والهدوء والسكينة إلى في بيته وعند زوجته، التي جعل الله عز وجل السكن إليها آية من آياته، يقول الله عز وجل:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. سورة الروم: 21.
- خامسًا: الالتجاء إلى الله عز وجل دائمًا وبخاصة عند الأزمات، فالنبي ﷺ اهتم بأمر صهره علي رضي الله عنه، وكلف إنسانًا بالبحث عنه، فوجده في المسجد، واللجوء للمسجد فيه دروس كثيرة، فالمسجد محل السكينة والطمأنينة، وفي المسجد يشعر الإنسان بالراحة والهدوء، وفي المسجد يقرأ المسلم القرآن الكريم، ويستمع إلى الكلم الطيب والنصيحة والموعظة من الإمام، وهي أمور ترقق قلب الإنسان على زوجته وتذكره بحقوقها. وعلى العكس من ذلك تمامًا نجد التحريض على الفسق والفجور، بل وعلى الزنا من خلال الأفلام والمسلسلات ومواقع التواصل الاجتماعي، التي تصور الزوج الغاضب عقب خروجه من البيت وهو يدخن، أو يشرب الخمر، أو يتعاطى المخدرات، أو يذهب إلى الملاهي الليلية، أو يذهب إلى عشيقته لكي تروح عنه وتنسيه نكد زوجته!
- سادسًا: الحرص على بناء علاقة جيدة مع الأصهار، فالنبي ﷺ لاطف عليًا رضي الله عنه ومازحه بقوله:”قُمْ أبَا تُرَابٍ، قُمْ أبَا تُرَابٍ”، ولم يعاتبه ﷺ، ولم يسأله عن سبب الخلاف مع ابنته فاطمة رضي الله عنها وهو من كرم أخلاقه ﷺ، يقول ابن حجر في فتح الباري في كلامه حول هذا الموقف النبوي:”وفيه كرم خلق النبي ﷺ لأنه توجه نحو عليّ ليترضَّاه، ومسح التراب عن ظهره ليبسطه، وداعبه بالكنية المذكورة المأخوذة من حالته، ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته مع رفيع منزلتها عنده، فيؤخذ منه استحباب الرفق بالأصهار، وترك معاتبتهم إبقاء لمودتهم”.
- سابعًا: البيوت لا تخلو من المشكلات الزوجية، ولم يخل منها أشرف البيوت وأطهرها، وهو بيت النبي صلى الله وعليه وسلم، والخلافات الزوجية أمر طبيعي في الحياة الزوجية نظرًا للاختلافات العديدة بين الزوجين، وتلك الخلافات هي ملح الحياة الزوجية، ولكن المهم هو أن نحسن إدارتها، بالتفهم للدوافع والأسباب، وبالتغافل عن الهنات والزلات، وبالصفح والتسامح والصبر.
وما أحوجنا إلى استلهام تلك الدروس من حديث “قم أبا تراب”، فهي كفيلة بأن تنهي الخلافات الزوجية في مهدها، وتعيد المياه إلى مجاريها بين الزوجين، وتديم المحبة بين أهل الزوجين.