في المقال السابق تحدثنا عن شمول العبادة لجوانب حياة الإنسان ومن هذه الجوانب الانتظار والذي يمكن أن نلحظه في عبادة انتظار الصلاة بما تفيضه على النفس من سكينة وتحقيق للسلام النفسي  وتهيئة لأداء هذا الركن العظيم وإتاحة الفرصة للملائكة لكي تستغفر لنا، وبعبادة الانتظار نعطي أنفسنا فرصا أعظم للحصول على أجور أكبر، وبانتظار صلاة الجمعة بعد أن تعودنا على انتظار بقية الصلوات، ومن لم يتمكن من الحصول على مقدار من الانتظار تبقى له عبادة تعلق القلب بالمسجد، وما يمكن أن يحدث خلال عبادة انتظار الصلاة من عبادات تقرب من الله تعالى كالذكر والفكر والشكر ينظر المسلم إلى فترة لانتظار على أنها إعادة ترميم للبدن والروح تنطلق بعدها في رحلة الحياة عابدا لله معمرا للكون ساعيا لبلوغ أهدافه المشروعة متوكلا على الله وحده.

ما أقسى لحظات الانتظار وأطولها على النفس خصوصا إذ كان المنتظر يتوقع حصول مصيبة وينسى قوله تعالى {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]، ولماذا لا يحسن الظن بربه ويرجو الخير، وقد عوده الحق سبحانه وتعالى عباده اللطف والرحمة والإحسان.

المسلم لا يعرف الفراغ يتأسى بالتوجيه الإلهي للنبي {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7]، فإذا انتهيت من عبادة فابدأ في عبادة أخرى؛ لأن الإناء الخالي من الماء مملوء بالهواء والقلب الخالي من الاستعداد للعمل الصالح مشغول بالسفاسف وما يضره.

انتظار النصر عمل شاق في ظل ظروف صعبة وقلة العدد والعدد وتغلب الأعداء، نحتاج أن نتذكر قول الله تعالى {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154]، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وقول رسول الله لما جاءه أصحابه يطلبون منه الدعاء بالنصر بعد أن لقوا من المشركين شدة: “وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ[1]

نحتاج في أيام الانتظار وسنينه أن نؤمن بقوله تعالى {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]  ونعد النفس التي ترى وعود الله سبحانه وتعالى في كتاب الكريم رأي العين، بل تثق بها أكثر من ثقتها بما ترى وتسمع {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 55]، وإلى أن تمر هذه الأوقات نتذكر هذه اللحظة المنشودة ونتذكر معها قول الله تعالى {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}.

لماذا أمر النبي أن يسبح بحمد ربه، ومن أي ذنب أمر النبي أن يستغفره، ولماذا ختمت السورة بذكر اسم الله تعالى التواب؟

نزه ربك عن أن يترك الحق وحيدا أمام الباطل بلا تأييد ولا نصر، نزه سبحانه عن إخلاف وعوده بنصرة الحق وأهله، نزه ربك بحمده والثناء عليه فهو القادر الذي لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض. 

استغفره لأن البعض استبطأ حصول النصر، واشعر بأن وقتا طويلا قد مر، وأنه انتظر النصر كثيرا والتوبة من القلق، تكون بتمام الثقة بوعد الله تعالى وتغليب هذه الثقة على الخواطر السيئة التي تشعركم بطول الانتظار.

الانتظار مرتبط بالصبر

فمن حرم الصبر لم يتمكن من تحقيق فضيلة انتظار الصلاة وغيرها من فضائل الصبر المتعددة، وقد جاءني من يناقشني في مدة الانتظار بين أذان صلاة المغرب وإقامته وكان ذلك قبل الإقامة بأقل من دقيقتين، فكان عدم صبره ضيع عليه وعلي كلمة ذكر أو شكر أو دعاء أو تلاوة كلمات من كتاب الله تعالى أو لحظة تفكر، وما يدري المسلم بأي عمل يزحزح عن النار أو يدخل الجنة، فإن الله تعالى خبأ رضاه في طاعته، وما ندري ما الذي يثقل موازين حسناتنا.

فقدان الصبر حرم صاحبنا من كل ذلك، وفقدان الصبر يحرم الإنسان من النجاح في الدنيا والآخرة، فأغلب الحوادث وقعت لأن قائد السيارة لم يصبر حتى يحصل على فرصة مناسبة للعبور بلا اصطدام ولا احتكاك.  

الانتظار الخاطئ

بعض الناس ينتظر الرزق دون أن يعمل له أو يسعى إليه وهو يظن أنه بذلك واثق من رزقه متوكل على ربه. ومما تحتفظ به ذاكرة الأدب الريفي أن شيخا في إحدى القرى أكد على أن الله هو الرزاق، وأنه سبحانه وتعالى قسم الأرزاق، ويسوق الرزق إلى عباده بشرط أن يسعوا، أراد أحد الجالسين أن يختبر كلام الشيخ، هل هو حق أم لا؟ فجلس في زاوية المسجد، ولف نفسه بحصير المسجد ينتظر الرزق الذي قسمه الله له، مر الوقت وعضه الجوع، ولم يأته رزق وبلغ منه الجوع مبلغه حتى كاد أن ينهي التجربة، لكنه فوجئ برائحة طعام، وإذا هو برجل في أقصى المسجد يتناول طعامه دون أن يلتفت إلى هذا المتلفف بالحصير، أصدر الرجل الجائع الذي كاد أن يهلك صوتا ينبه به من يتناول الطعام، فقال الرجل الكريم: تفضل!

 أقبل صاحبنا وشاركه الطعام، وفي اليوم التالي جلس الشيخ مجلسه يذكر الناس بالرزاق سبحانه وقسمته للرزق، فصاح صاحبنا الذي خاض التجربة، كلامك صحيح يا شيخ بشرط أن يصدر صوتا، قال الشيخ: إصدارك للصوت نوع من السعي.

وانظر إلى هذا التوجيه الراشد من الخليفة الراشد، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لَا يَقْعُدُ أحدكم عن طلب الرزق، يقول اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي، فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ السَّمَاءَ لَا تمطر ذهباً ولا فضة[2]

 في انتظار الصلاة التشوف للعبادة، وفكرة التشوف وما ترتبط به من نية صالحة، واستعداد لعمل الخير لا يخرج إلا من نفس متعلقة بربها وبحبه وبحب ما يرضيه سبحانه، قال ابن بطال:  “وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ أَشْبَهَهُمْ فِي الْمَعْنَى مِمَّنْ حَبَسَ نَفْسَهُ عَلَى أَفْعَالِ الْبِرِّ كُلِّهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ”[3].

وهذا القول ينبئ عن فهم عميق لقيم الإسلام التي تنظر إلى شمولية هذا الدين لمناحي الحياة، فمن حبس نفسه على تقديم المساعدة الطبية مثلا يبتغي الأجر من الله، ومن حبس نفسه على تقديم الدعم النفسي، ومن حبس نفسه على العمل التطوعي ولو لبعض الوقت، كل هؤلاء ومن سار على طريقهم يرجى أن يشملهم هذا الوعد الكريم بمحو الخطايا ورفعة الدرجات والاستظلال بظل عرش الرحمن سبحانه يوم لا ظل  إلا ظله.

سأل أحدهم: كم تقضي من الوقت لتصل إلى عملك؟ فأجاب إجابة تنبئ عن معرفته بعبادة الانتظار وانتفاعه بها، قال: إذا كان الطريق خاليا أستغرق مئتين وخمسين تسبيحة، وإذا كان مزدحما أستغرق ثمانمئة تسبيحة!


[1] صحيح البخاري

[2] إحياء علوم الدين

[3] طرح التثريب في شرح التقريب